عـامـان علـى الغـروب الأخـير ليـوم ســوري هـادئ كـيـف تحـولـت «ثــورة» إلـى «حــرب أهـليــة»؟ (طارق العبد)
طارق العبد
قلّة فقط من السوريين هم الذين أدركوا مع غروب شمس الرابع عشر من آذار قبل عامين أنه الغروب الأخير ليوم سوري هادئ، ففي اليوم التالي ستدخل البلاد مرحلة جديدة هي الأكثر دموية منذ الاستقلال. البداية، بتظاهرة خجولة في سوق الحميدية في قلب العاصمة دمشق ثم بضعة أيام وتشتعل درعا بتظاهرات واعتصامات امتدت شرارتها إلى دوما فحمص وحماه واللاذقية ودير الزور. ولم تمض أشهر حتى كانت الشعارات تملأ الشوارع والساحات في المدن والقرى، لكن شيئاً ما كان قد تسرب إلى الحراك ودفعه نحو العسكرة، مقسّماً إياه إلى جبهات وكتائب ومقاتلين من الخارج، كلّفت البلاد الاف القتلى ومليون لاجئ ومدن شبه مدمّرة مع اقتصاد منهار واحتقان طائفي واجتماعي في أقسى صوره.
الاختلاف يبدأ مع تسمية ما يحدث اليوم بـ«الثورة» عند المعارض و«الأحداث» عند المحايد و«الفتنة» لدى الموالي. وبين الطرفين الموالي والمعارض ظهرت كلمة «الإبادة»، الأول يعتبرها الخيار الوحيد للتخلص من «الإرهابيين» والثاني يطبقها كي يمسح «الشبيحة».
وسيمتد الانقسام ليطال من رفعوا شعار الحرية، بين من يطالب بالدولة المدنية ومن يصمّم على دولة الخلافة وبين من يدعم العمل السلمي ومن يحتفي بالسلاح. في المقابل، سيرتفع منسوب الدم في مختلف المناطق فلن يبقى أي مكان آمن في البلاد، من محطات الوقود إلى المخابز والجامعات ودور العبادة، وسيرتفع مع الدم منسوب الاغتيال والخطف سواء بهدف تبادل الأسرى أو بهدف المال أو الاستفزاز لا أكثر.
للسلاح حكاية أخرى في سوريا، فالمعارضة حملت السلاح هي الأخرى، وأصبح لها بدل القيادة قيادات تضمنت جبهات لا تعترف بمسمى «الجيش الحر». وقد حظيت هذه القيادات بدعم شعبي غير مسبوق دفع كتائب أخرى لتسابقها في حجم التدين والسلفية الجهادية طمعاً برضى الشارع في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة. ومع هذا التسابق، خرجت كتائب تتستر برداء «الجيش الحر»، وهي ليست سوى بلطجية هدفها السرقة والخطف والابتزاز والاستعراض الإعلامي.
أما الأخير فبدأ لعبة تسويقية اتقنها الكثيرون، فالإعلام رفع أسهم البعض من سياسيين وشخصيات معارضة ونسف شعبية آخرين، ناهيك عن تسويق الأوهام والطائفية، حتى بات هذا الخطاب مسيطراً أكثر من أي وقت مضى.
أما على الأرض، فقد غابت درعا عن السمع كثيراً ونجحت مع السويداء في كسر أسطورة العداء بين الجبل والسهل، فيما خرجت حماه من عباءة «الإخوان المسلمين» وعانت الحسكة من الفتنة العربية ـ الكردية. أما سهام النقد اللاذع فقد صوّبها المعارضون تجاه دمشق وحلب، برغم أن الأخيرة انضمت إلى ركب المدن «الثائرة» وكشفت معها حقائق أثارت ضجة هائلة كحال جبهة حمص الغارقة في الطائفية والكتائب التي تخزن السلاح في ظاهرة أشبه بـ«صحوات العراق».
وتكتمل الصورة مع حضور دول الجوار على الساحة السورية، ليصبح عنوان الأزمة الأساسي هو الحدود. لقد تسرب السلاح من شمال لبنان إلى حمص، ومن تركيا إلى الشمال، وأصبحت الحدود الأردنية بوابة اللجوء المرتبطة بقسوة وبشاعة مخيم الزعتري الذي يجسّد حال السوريين الذين فقدوا أي بارقة أمل، حتى بات خبر مقتل 200 شخص عادياً بينهم.
المعارضة: المستقبل أسود
لا تبدي شخصيات المعارضة السورية أي تفاؤل حيال الفترة المقبلة، بل تشير إلى نذير حرب أهلية واقتتال طائفي يقترب يوماً تلو الآخر. وعليه، يعتبر عضو «تيار بناء الدولة» أنس جودة، في حديثه إلى «السفير»، أن الوضع اليوم يشير إلى انقسام اجتماعي وطائفي في بعض الجوانب، وصراع بين الريف والمدينة في جوانب أخرى. كما تنتشر حالة التعصب ضد الآخر، سواء من راديكاليي «الثورة» أو النظام، إضافة لمشكلة الاستبداد والحرية والعدالة الاجتماعية ومشاكل أخرى تحتاج معالجات مختلفة على عدة مستويات.
ويشير جودة إلى أن جزءاً من النظام يسير باتجاه تصعيد العنف إذ يرى أن الحسم العسكري هو الحل، بينما هناك طرف آخر يراهن على ازدياد تسلح الحراك ليغتال سلميته. وبعد نشوء المجلس الوطني و«الائتلاف» تمّ تصعيد الحل العسكري، ما دفع لمزيد من التطرف والانفلات الأمني، ودفع المجموعات ذات الأجندات والأهداف الخاصة لدخول سوريا سواء بتسهيل من الدول المجاورة أو بقدراتهم الذاتية.
برأي جودة، الحل يكون بتحييد الراديكاليين من الطرفين وبناء جسور تمهد لحلّ سياسي، وإلا فالجميع يذهب إلى واقع أسوأ من الصومال. سبب ذلك أن سوريا معرّضة للتفتت وفق نموذج أسوأ من الحرب الأهلية اللبنانية، لأن التقسيم هنا اجتماعي وليس جغرافي، ويتطلب إعادة ثقة مع التكوينات الاجتماعية لإعادة بناء البلاد.
بدوره، يعتبر عضو «ائتلاف قوى التغيير السلمي» فاتح جاموس أن «في المدى المنظور، سنشهد احتمالات خطيرة من تجاوز لعمل مؤسسات الدولة وحرب أهلية بجوانب سياسية وطائفية وإمكانية تدخل خارجي غير مباشر ليس في صالحه وقف القتال بل خسارة سوريا أي إمكانية جيو ـ سياسية في المستقبل. من هنا، المراكز الدولية لا تزال بعيدة من بعضها. وعلى الأرض في داخل الواقع السوري هناك وسائل للصراع تسمح باستمرار هذه المسافة بين الأطراف. ويخلص جاموس إلى أهمية إطلاق مبادرة الحوار بمن حضر، معتبراً انه مستعد للانفتاح على كل القوى بهدف تخطي الأزمة.
بدوره، يعتبر عضو المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق المعارضة صفوان عكاش أن الكلام عن حرب أهلية هو أمر أقرب لواقع ما يجري اليوم إثر تحول المسار إلى العنف. ويقول «لدينا في سوريا ثورة من أجل الديموقراطية تعرضت وما زالت إلى أشكال متعددة من العدوان. العدوان الأساسي كان القمع الدموي الذي مارسه النظام ضد التظاهرات السلمية المطالبة بالحرية ومحاصرة المدن لأكثر من ستة شهور، ومن الطبيعي أن يولّد هذا العدوان ردوداً دفاعية عفوية وانشقاقات عن الجيش والقوى الأمنية أخذت في معظمها طابعاً فردياً. ولكن استمرار العدوان وتصعيده جعل من هذه الردود ظاهرة شملت كل المحافظات السورية تقريباً». وبحسب عكاش «كان هذا التحول في أساليب العمل في تلك المرحلة يصب في مصلحة النظام مباشرة باعتبار أنه كان يدعي منذ اليوم الأول للحراك الشعبي في درعا أنه حراك مسلح وسلفي، ولا بد أن الكثيرين يتذكرون مهزلة دس السلاح والمال في الجامع العمري في درعا بعد أن فضحها أحد مقاطع الفيديو المسرّبة. ولذلك عمد النظام في أول مرسوم «عفو» إلى الإفراج عن آلاف من أرباب السوابق وبينهم عناصر من «القاعدة» كانت قد تمردت في سجن صيدنايا وأعلنت إمارة إسلامية في القسم الذي سيطرت عليه وارتكبت جريمة قتل الناشط الحقوقي نزار رستناوي داخل السجن».
ويضيف عكاش «هناك أشكال أخرى من العدوان تمثلت في محاولة حرف هذه الثورة عن أهدافها المعلنة واختلاق فتنة طائفية، لنتذكر هنا كيف اتهم فاسد سابق اسمه مأمون الحمصي حزب الله اللبناني بالتدخل في أحداث درعا منذ اليوم الأول وكيف احتفت به وسائل الإعلام». أضف إلى ذلك سحب الناشطين المدنيين الديموقراطيين السلميين من ساحة الصراع إلى الخارج بفعل الضغوط والتهديدات والمخاطر من جهة والمغريات المفسدة من جهة أخرى.
وفي جميع الأحوال، في سوريا الآن واقع مختلف كلياً عن الشهور الأولى لـ«الثورة». هناك نزاع داخلي مسلّح يشارك فيه عشرات ألوف السوريين بغض النظر عن اصطفافاتهم ويستخدم في هذا النزاع جميع أنواع الأسلحة التقليدية وصولاً إلى الطائرات والصواريخ الثقيلة التي ما زال النظام يحتكر امتياز استخدامها حتى الآن. وبحسب المراقبين «لا يمكن وصف هذا الواقع غير أنه حرب أهلية، وإلا فكيف تكون الحرب الأهلية؟».
صحيفة السفير اللبنانية