عفّة الحصار
في إحدى سنوات الحرب، وكان تقنين الكهرباء كأنما لمديح الظلام… وضعت على “جبهتي ” مصباحاً مما يستعمله عمال المناجم. ووضعت بطانيتين على ظهر شباط، العديم الرحمة، ذلك العام… وبثلاثة أقلام صينية سوداء كتبت رواية زرقاء هي: “قطعة جحيم لهذه الجنة”.
في الرواية خطوط داكنة للحياة في الحرب، وخطوط ترصد حركة الانهيارالأخلاقي لأديان السياسة وفقه سياسة الأديان. ولكن الرئيسي فيها هو القدرة المتبقية عند إنسان الحرب على التصالح مع نتائجها، وبناء المصالحة مع الذات والآخر، والعيش مع جراح القسم الدرامي من الأذى اللاحق بالجميع.
في إحدى سنوات الفقر، ونحن في البكالوريا، في قرية بعيدة لا طريق إليها سوى طرق الوحل والغبار. بعيدة عن منطقتنا. ويستطيع الشتاء قطع هذه الطرق لأسابيع.
في أحد شباطات تلك الأيام … نفذت مؤونتنا المؤلفة من الزيت والزعتر،حبات زيتون، بعض بقايا البرغل. والأهم أن الفلوس انتهت، فلم يبق منها سوى اجرة طريق العودة الى اهالينا.
في تلك الأيام تعرفت إلى ما يسمّى عضة الجوع. وقرصة المعدة، واستحضار أيام الصحون المليئة بكنوزالشوربة ، ومجوهرات البطاطا، وعبقرية الخبزالخارج لتوه من تنور الحياة.
في تلك الأيام ونحن بضعة طلبة غرباء عن تلك القرية…. ذهبنا إلى البرية ، في لحظة صحو المطر… وبدأنا البحث عن أعشاب تؤكل. وفي العشيات المظلمة، حيث لا كهرباء، ولا شموع… وإنما العتم السيد المطلق… كنا نتسلى باختراع قصص، انتبهنا أنها ، كلها ، من اختراع الجوع.
……………………..
في هذه الأيام…. بدأ السوريون يخترعون قصصهم في معجزات الانتظار. انتظار المحروقات، وانتظارالأسوأ ، انتظار قائد الجنون العالمي، وهو يصدر قراراً تلو قرار بتعذيب البشر، وبالتفنن المقرف بالتنكيل بشعوب عبر التجويع والقتل واستئصال أدوات الحياة…اقصد ترامب الذي يحضّرلتوقيع قرار منع الخبز عن سوريه.
والسؤال الآن: كيف يرد السوريون وهم في عين الزلزال، وهم في احتمالات البرد الطويل، والجوع الطويل، والليل الطويل؟
المشهد المؤلم والمضحك، والعميق الدلالة هو أرتال السيارات على دور البنزين. حيث بدأت تنشأ طريقة حياة في الانتظار: ناس يلعبون الورق في سياراتهم. ناس جلبوا نراجيلهم وعمّروها. ناس يقرأون، وثمة من يحضّر ملفات وظيفته. ناس مجهولون وزعوا على المنتظرين ساندويتشات. ورأيت أيضاً رسامين يؤرخون السخرية مما وصلت إليه أحوال هذا البلد. وتركزت معظم الصور على “الحمير” وكيفيات استخدامها. ولعل الصورة الأكثر تعبيراً كانت احتجاج حمار، يقول: إذا جاعوا بياكلونا (إشارة إلى سمعة معمل مرتديلا لأبناء بعض المسؤولين) وإذا ما في بنزين بيركبونا.
الأيام المهينة والصعبة القادمة، والتي ينتظرها الجميع بقلق أشد من أيام الحرب…. هذه الأيام يجب أن تؤسسس، في قلب الحصار، أخلاق العفّة. فلا تسرق لتأكل، ولا تقتل لتنهب، ولا تزاحم لتصل…
أخلاق العفة وليس …العفو.
……
أخلاق العفّة ريثما تحدث معجزة أخلاق السياسة التي تبدع حلاً… ليس للبنزين وإنما للضوء.