عقدة هيكل… أوضاع قرب نهاية نظام| أحاديث برقاش: هيكل بلا حواجز [10 / 10]
في وداع صديق قديم بإحدى كاتدرائيات لندن وقف الأستاذ محمد حسنين هيكل، بجوار الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، في النصف الثاني من آذار/مارس ٢٠٠٥.
تحدث الرجلان في القداس الجنائزي عن مآثر أنتوني سيمبسون، أشهر من تولوا رئاسة تحرير «الغارديان». «كان سيمبسون أحد العلامات الكبرى في تاريخ الصحافة البريطانية المعاصرة»، فلا يمكن الدخول إلى عوالمها الحقيقية، أو التعرف إلى أسرارها ومعاركها، دون الاقتراب من شخصيته وأدواره وأعماله التي كرّست قيمته مثل: «بازار السلاح» و«خفايا البترول» و«من يحكم هنا؟».
وهو يصف ــ من لندن ــ ما جرى في الكاتدرائية ذلك الصباح، توقف عند سؤال: «من يحكم هنا؟»، قبل أن يردف: «في بريطانيا لا في مصر!».
قلت: «لكن الأحوال هنا تستدعي نفس السؤال… أين القوة الحقيقية في تقرير السياسات وما طبيعة الموازنات في بنية السلطة؟».
بعد رحلة استغرقت أسبوعين خطر له أن يطرح سؤال سيمبسون على الواقع المصري في أول حوار بيننا وفق ما طرأ من أحداث خلال سفره وما تنبئ به من تحولات. جلسنا على مقعدين متواجهين على الناحية الأخرى من مكتبه. قال: «أريد أن أعرف ما جرى في غيابي كأنني كنت هنا، أين التطورات الأساسية في حركة الحوادث، ما خلفها وما قد تتطور إليه؟».
بجملة قاطعة قال: «إن ما يحدث تحوّل نوعي في الحياة السياسية المصرية وغياب البدائل مقلق، إن أحداً لا يعرف بالدقة كيف تحكم مصر في المستقبل، أو ما قد تجري به مقادير وعواصف السياسة فيها؟»… هكذا نشرت بالنص الكلام منسوباً إليه في ٣ نيسان/إبريل ٢٠٠٥.
(١)
لماذا مبارك؟
لم يكن مقتنعاً بأسباب السادات في اختياره نائباً للرئيس، من أن «جيل أكتوبر» جاء وقته ليحل مكان «جيل يوليو». بصورة ما استشعر من إشارات الرئيس، وهما يتحاوران مجدداً عام ١٩٧٥ في استراحة القناطر الخيرية، أنها نصيحة من الشاه محمد رضا بهلوي، الذي عيّن زوج شقيقته الجنرال محمد فاطمي قائداً للطيران لأنه السلاح الذي يستطيع أن يتدخل بسرعة، وبقوة نيران كثيفة لمواجهة أي تمرد أو عصيان، أو حتى محاولة انقلاب.
سأله هيكل: «هل تلك نصيحة من شاه إيران؟».
ارتفع صوت السادات محتجاً: «جرى لك إيه يا محمد؟!».
لماذا مبارك؟
تبدت صباح الاثنين ٥ كانون الثاني/يناير ١٩٨١ تساؤلات جديدة في قصة «النائب الغامض».
فقد نشرت صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية تقريراً في أعلى يسار صفحتها الأولى كتبه محررها لشؤون الشرق الأوسط عن صعود نفوذ النائب حسني مبارك وصراعات السلطة في مصر.
صودرت أعداد الصحيفة الإسرائيلية، ونشرت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» برقية موجزة تصف المعلومات بـ«الادعاءات والأكاذيب» دون أن تشير إلى طبيعة مادتها.
في ذات اليوم، قرر السادات إنزال عقاب جماعي بالصحيفة ومحرريها: ممنوع دخول أي أعداد منها، أو منح أي من محرريها تأشير دخول.
في اليوم التالي الثلاثاء، اعتبرت «الجيروزاليم بوست» أنّ الإجراءات بحقها هي الأولى من نوعها ضد صحافيين إسرائيليين منذ السماح لهم بالعمل في مصر بعد زيارة القدس.
نشرت تقريراً ثانياً لنفس المحرر في نفس الموضوع أعقبه تقرير ثالث بعد يوم آخر يناقش خلافات التكتيك بين السادات ومبارك في قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل.
ناقض الكلام الإسرائيلي بفداحة الصورة التي استقرت عن مبارك في تلك الآونة التي قللت من شأنه وسخرت منه، فهو قوي وينازع على السلطة وله أنصار في القصر الجمهوري.
في الكلام روايات يصعب التسليم بمبالغاتها، لكن التأكيد عليه لثلاث مرات متتالية في أهم صحيفة إسرائيلية قد يشير إلى حقائق غاطسة لا نعرفها حتى الآن.
لم يقرأ السادات الغاضب ما خلف النصوص من رسائل إلى المستقبل القريب. لم يتوقف بالتنبه الكافي عند فقرة أشارت إلى تقرير جديد للمخابرات الأميركية يقول نصاً: «يكفي السادات عشر سنوات في الحكم وعليه أن يتركه لمبارك». ذلك ما تحقق بعد شهور قليلة من نشر النص المثير.
استحوذ على تفكير السادات هاجس هيكل… وذهب تفكيره إلى أنه هو مصدر معلومات التقرير الموسع. طرح هواجسه أمام وزير الإعلام والثقافة منصور حسن، وهو مقرب ومحل ثقته. استبعد الوزير الشاب الفكرة تماماً: «يا فندم… هيكل لا يتصل بالإسرائيليين».
لكن هواجسه لم تغادره ودعا وزير إعلامه أن يستقصي الحقيقة بنفسه من رئيس تحرير «الجيروزاليم البوست»، الذي طلب زيارة القاهرة لإنهاء الأزمة مع الرئيس المصري.
عندما وصل إلى القاهرة توجه مباشرة إلى مكتب السفير حسن عيسى مدير مكتب وزير الإعلام، لينتقل معه إلى منزل الوزير الذي وجه له سؤالاً مباشراً: «لا أريد أن أعرف مصادر صحيفتك في القاهرة… لكن قل لي نعم أم لا… هل هو هيكل؟». كان الرد: «لا».
لماذا تصور السادات أنه هيكل؟ وما الذي أغضبه إلى هذا الحد؟ لا بد أن شيئاً حقيقياً حوته النصوص الإسرائيلية.
استمعت إلى تلك القصة من منصور حسن، ولم يكن هيكل على معرفة بها.
كان ذلك داعياً لمحاولة الوصول بكل طريقة ممكنة للتقارير الإسرائيلية الثلاثة حتى تتضح الأسباب، التي دعت السادات إلى توجيه أصابع الاتهام إلى هيكل.
لم تكن تلك المقالات على الموقع الإلكتروني لـ«الجيروزاليم بوست»، فتاريخ نشرها يسبق إنشاء الموقع بسنوات طويلة.
بمعاونة صحافيين فلسطينيين خلف الجدار، جرى الوصول إليها من أرشيف الصحيفة. استرعى انتباه بعض العاملين فيها أن هناك من ينقب عن شيء ما في الأرشيف، وكانت هويتهم العربية كافية لطردهم، لكنهم حصلوا على غنيمتهم بطريقة أخرى، وأرسلت على عجل إلى القاهرة عبر امستردام.
كانت تلك القصة المجهولة موضوعاً لحوار بين الرجلين، هيكل ومنصور حسن، وبعض ما ورد في الصحيفة الإسرائيلية نشرته في صحيفة «الشروق» في ٤ حزيران/يونيو ٢٠١٢ عن «السادات ونائبه الغامض». تبدت فرضية رئيسية أن مبارك هو خيار الولايات المتحدة وإسرائيل لخلافة السادات.
سألت الأستاذ: «هل كان السادات ضحية لشيء ما جرى في الظلام؟».
أجاب: «لا.. كان ذلك اختياره».
(٢)
في شباط/فبراير ٢٠٠٧ أعلنت المؤسسة، التي تحمل اسمه، عن استضافة الصحافي الأميركي سيمور هيرش، لإلقاء ثلاث محاضرات عن «صحافة الاستقصاء»، أو «صحافة العمق» بوصفه «واحداً من أهم صحافيي التحقيقات في العالم وأكثرهم شهرة وتأثيراً، وهو يركز في تحقيقاته على إساءة استخدام القوة والسلطة تحت ذريعة حماية الأمن القومي الأميركي».
هكذا عرّفه في ورقة معنونة بـ«سيمور هيرش ــ معلومات أساسية» لم يوقع عليها.
في سجل هيرش: فضح مذبحة «ماي لاي» في فيتنام ١٩٦٩، وكشف النقاب ــ للمرة الأولى ــ عن الترسانة النووية الإسرائيلية بكتابه «الخيار شمشون» ١٩٩١، التي كانت سراً غامضاً لعشرات السنوات، و«ثمن السلطة ــ كيسنجر في بيت نيكسون الأبيض»، الذي حاز عليه جائزة صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» لأحسن كتاب وجائزة النقاد لأحسن كتاب على المستوى القومي، و«القيادة الأميركية العمياء ــ الطريق من ١١ سبتمبر إلى سجن أبو غريب».
وفي سجله: خبطات صحافية أخرى نشرتها «نيويورك تايمز» و«نيويوركر»، وكان آخرها في ذلك الوقت تحقيقاً موثقاً عن «الخطة السرية لوكالة الاستخبارات الأميركية للهجوم على إيران»، كما أفضت إحدى خبطاته إلى إطاحة وزير الدفاع الأميركي رونالد رامسفيلد، وهو مجرم حرب بأي معنى إنساني أو قانوني.
أسباب هيكل في اختياره كأول محاضر دولي في مؤسسته لم تكن مجهولة أو ملتبسة، فقد قصد أن يوفر للصحافيين المصريين والعرب الشبان فرصة حقيقية للإلمام ببعض تقنيات صحافة الاستقصاء.
رغم ذلك كله، فقد كان اسم هيكل لوحده كافياً لإثارة حملة حول سيمور هيرش وديانته اليهودية، وإذا ما كان هناك صحافيون أفضل منه في الغرب، أم لا.
اعتاد هيرش أن يتقاضى في المحاضرة الواحدة داخل الولايات المتحدة ٣٠ ألف دولار، غير أنه تقديراً لهيكل ومؤسسته، خفض مكافأة المحاضرة الواحدة إلى النصف ١٥ ألف دولار، فضلاً عن تكاليف السفر والإقامة.
قبل أن يبدأ محاضرته عن احتمالات الحرب على إيران، تحدث هيكل في كلمة مقتضبة ودالة من فوق منصة قاعة إيوارت بالجامعة الأميركية امتلأت عن آخرها بصحافيين كبار وسفراء غربيين وأكاديميين ووزراء سابقين وطلاب من الجامعة نفسها.
قال: «فوجئنا بأبواب عديدة توصد أمامنا، وأنا لا أريد أن أشير إلى ما لا يلزم ــ ربما لا يستحق ــ الإشارة إليه، لكن من حق الجامعة الأميركية عليّ أن أقول إنها، وإن لم تكن مقصدنا الأول، أصبحت ــ مع إحساسها بمعنى الحق في المعرفة ــ ملجأنا الأخير. في البداية، كان فكرنا أن تكون إحدى قاعات مكتبة القاهرة الكبرى مكاناً تعقد فيه هذه الدورة الأولى من نشاط المؤسسة، وهي دورة دعونا إليها الصحافي الكبير سيمور هيرش، لأننا اخترنا صحافة العمق موضوعاً لها، واسم سيمور هيرش هو أول ما يخطر على البال في هذا المجال في الصحافة العالمية. ومع أن قاعات مكتبة القاهرة مفتوحة لمناسبات كثيرة متعددة الاهتمامات، إلا أننا تلقينا رداً بالاعتذار لسببين مختلفين. الأول، أن هناك مشكلة أمن… والثاني، أن سيمور هيرش يهودي. من المدهش أن تثار مثل هذه الإشارة المثقلة بمواريث الجانب المظلم في التاريخ غير العربي وغير الإسلامي دون تفرقة بين الديانة اليهودية وبين العدوانية الإسرائيلية، خصوصاً بالنسبة إلى رجل مثل سيمور هيرش، وهو الذي كشف أمام العالم كله خبايا وخفايا مشروع إسرائيل النووي، منبهاً إلى حجمه وخطره، ولعلها من المفارقات أن تصدر مثل هذه الإشارة إلى ديانة سيمور هيرش هنا، في حين أنها نسيت مع أمثال مناحم بيجين وشامير ورابين وديان وشارون وإيهود أولمرت. على أن باب مكتبة القاهرة الكبرى لم يكن الباب الوحيد الذي جرى إغلاقه أمام المؤسسة، لكن هذا الإجراء المبكر بدا إشارة مبكرة إلى تصرفات لاحقة، أؤثر ألا أشير لها، ولولا أن مسألة يهودية سيمور هيرش وصلت إليه لما أشرت إليها، لكني أذكرها هنا لكي أعتذر عنها لرجل وقف دائماً بالحق في مواجهة القوة، ابتداءً من مذبحة ماي لاي في فيتنام إلى مأساة سجن أبو غريب في العراق. لقد وقف سيمور هيرش كصحافي بالحق ضد القوة في بلاده، وكثير فيه داخل إلى الصميم في قضايا الشرق الأوسط ويبقى أمر أريد توضيحه في هذا المجال مؤداه أنني لم استطرد كثيراً في حديث الأبواب المغلقة لأني لا أريد تسييس عملنا، مع تسليمي بالطبع بأن السياسة مثل الهواء لا يمكن عزلها عن طبائع الحياة العامة، وأولها الأفكار والمواقف، لكننا مطالبون ــ أحياناً ــ بأن نراعي اعتبارات متناقضة، وعلى أي حال فتلك هي المأساة الإنسانية المشهورة: البشر والقدر ــ والمأمول والواقع ــ والممكن والمستحيل».
لم يشر هيكل إلى القصة كلها، التي تابعت بعض فصولها، فقد أغلقت الأبواب أمام تلك المحاضرة، وتراجع مسؤولون كبار عن تعهدات قطعوها تحت ضغط الأمن، والأمن تحت ضغط الرئاسة.
كان ذلك تعبيراً موجعاً عن فجوات وتناقضات ومآسٍ في النظر إلى القضايا العربية، وفي الصمت على رموز التعصب الإسرائيلي بينما الهجمات تنصب بلا عدل على من يقفون بجانبنا في الغرب لمجرد أنهم يهود.
كانت أول جملة أطلقها هيرش من فوق منصة الجامعة الأميركية: «هذه المرة الأولى التي يذكر فيها اسمي مع بيجين وشامير»… فضجت القاعة بخليط من الضحك والتصفيق والأسى.
(٣)
تصادف أن وجدت نفسي طرفاً في واحد من الاتصالات النادرة بين هيكل ومبارك.
بدأ كل شيء وانتهى في صمت إلى أن اتهمته جريدة «روزاليوسف» بالتنكر لفضل الرئيس في رعاية حالته الصحية.
بتاريخ ١٥ نيسان/إبريل ٢٠٠٧ نشرت على الصفحة الأولى من جريدة «العربي» القصة التالية:
[لأول مرة: القصة الحقيقية للاتصالات الهاتفية بين مبارك وهيكل
أشارت إحدى الصحف الرسمية ــ في معرض هجومها على الأستاذ محمد حسنين هيكل على خلفية حواره مع روبرت فيسك كبير مراسلي الإندبندنت البريطانية ــ إلى اتصال هاتفي أجراه الرئيس مبارك مع الأستاذ هيكل ليطمئن على صحته بعد أزمة صحية خطيرة تعرض لها قبل سنوات.
جاءت المعلومات، التي أوردتها الصحيفة تسريباً من جهة ما، غير دقيقة في وقائعها ومسيئة للرئيس والكاتب الكبير معاً، والقصة الحقيقية أن السيدة قرينة الرئيس اقترحت عليه الاتصال بالأستاذ هيكل ليطمئن على صحته، وطلب الرئيس رقم هاتف الأستاذ في مزرعة برقاش من وزير الثقافة فاروق حسني، دون لجوء إلى الأجهزة الأمنية أو رئاسة الجمهورية، مفضلاً الطابع الشخصي في هذا الاتصال، وبدوره اتصل وزير الثقافة بالناشر المعروف الأستاذ إبراهيم المعلم، الذي كان متواجداً وقتها في ألمانيا استعداداً لمعرض فرانكفورت للحصول على رقم الهاتف، وبدا للوزير أن يتأكد من دقة الرقم، فاتصل بعبدالله السناوي رئيس تحرير «العربي» وبعد نحو ١٠ دقائق اتصل الأخير بالأستاذ هيكل سائلاً: ماذا جرى في الاتصال الهاتفي الذي انهيته للتو؟… ورد الأستاذ هيكل مستغرباً: أي اتصال؟… ثم فوجئ مرة أخرى بالإجابة: الرئيس.
في وقت لاحق، روى الأستاذ هيكل للسناوي، الذي كان طرفاً في جانب من الواقعة، أن مبارك قال له: لك دور في البلد ولك قيمة فيه، وأي تكاليف علاج في أي مكان في العالم تختاره سوف تسدده الدولة فوراً.
اعتذر هيكل ــ شاكراً ــ مبادرة الرئيس: ظروفي المالية تكفي وتزيد للتكفل بمصاريف العلاج، والعملية أجريت بالفعل قبل سنتين. وأنا يا فندم مقدر جميل اهتمامك وممتن، وهناك من هو أولى مني بالعلاج على نفقة الدولة، ثم أردف: ومع ذلك فإني اعتبر عرضك «احتياطي استراتيجي» حين الضرورة.
ضحك الرئيس ومازحه: يا أستاذ هيكل احتياطي استراتيجي إيه هو أنت لازم تفلسف كل حاجة في الدنيا.
بدت هذه المهاتفة ــ في جانبها الإنساني ــ مقدرة من الأستاذ هيكل، وقد تكون هناك اتصالات أخرى جرت بينهما في ظروف مختلفة.
طلب الأستاذ هيكل من السناوي عدم نشر أي أخبار عن هذه الاتصالات، مفضلاً أن يترك للرئيس وحده تقدير النشر من عدمه، وقد التزمت العربي برغبة «الأستاذ» في عدم النشر إلى أن اقتحمت صحيفة رسمية القصة بصورة مشوهة خلطت ما لا يختلط بين تقديرات سياسية من حق هيكل أن يعرب عنها وأن ينتقد أوضاعاً سياسية حالية وفق اعتقاداته وبين اعتبارات إنسانية ملك أصحابها].
قبل أن تذهب الجريدة إلى المطبعة صباح السبت ١٤ نيسان/إبريل، اتصل في الساعة السادسة صباحاً ليراجع الصياغة بنفسه ويتأكد من دقة كل حرف في كلام حساس.
كان يراجع ما رويته على نص أصلي أمامه، فقد سجل الواقعة «في خطاب شكر مكتوب بعثت به إليه من باب الوفاء وفي نفس الوقت لكي يكون هناك مرجع لا يترك مجالاً لسوء فهم» ــ كما كتب بقلمه في كتابه الأخير «مبارك وزمانه»، وقد كان مبارك في السجن وزمانه انقضى.
يستوقف الانتباه ــ أولاً ــ تعبير الوفاء للسؤال عنه في لحظة مرض. ويستوقف الانتباه ــ ثانياً ــ أنه نشر الرسالة بكامل ألفاظها وحروفها كما كتبت في وقتها وظروفها دون تعديل حرف واحد.
كان مقال فيسك عن «رجل الشرق الأوسط الحكيم»، الذي استدعى هجوم «روزاليوسف» عليه خطيراً إلى حد أن فيسك نفسه قال في مقدمته: «أستطيع أن أرى الرئيس المصري حسني مبارك ــ الذي يقرأ «الإندبندنت» ــ مندهشاً وهو يقرأ الفقرة التالية… يقول هيكل إن الرئيس مبارك يعيش بعالم خيالي في شرم الشيخ، دعونا نواجه الأمر، هذا الرجل لم يعتدِ أبداً على السياسة، لقد أصبح سياسياً في الخامسة والخمسين من عمره… ولم تعلمه حادثة المنصة التي اغتيل فيها الرئيس السادات وقد كان إلى جواره سوى أن يحافظ على الأمن».
انتقادات هيكل رآها فيسك مدمرة لنظام مبارك، غير أنه أورد على لسانه وصفاً يشبهه بـ«بقرة ضاحكة».
سألته: «هل ورد مثل هذا الوصف في كلامك؟».
قال: «كل ما هو منسوب لي صحيح وأتحمل مسؤوليته، لكن مثل هذه الأوصاف لا ترد على قاموسي السياسي ولا الشخصي وأنت تعرف ذلك».
في أول تصريح صحافي نفى ما هو منسوب إليه من تعريض شخصي لا يليق به.
كان يعرف بالاسم من أطلق ذلك التعبير سخرية من النائب واستخفافاً به من داخل الدائرة الضيقة للرئيس السادات.
لكنه لم يكن يقحم نفسه في صغائر الأمور، ولا كانت له قضية شخصية مع مبارك بقدر ما كانت قضيته من أولها إلى آخرها مع سياساته وما ترتب عليها من آثار ونتائج على مجمل الحياة العامة.
(٤)
«يشرب» ــ هكذا بكلمة واحدة لخص الرئيس حسني مبارك ما جرى لسكرتيره السابق للمعلومات الدكتور مصطفى الفقي من مضايقات فادحة إثر ما قاله في حوار مع صحيفة «المصري اليوم» من «إن الرئيس القادم لمصر يحتاج إلى موافقة أميركا وعدم اعتراض إسرائيل»، وعلق عليه هيكل بكلمة مقتضبة عنوانها دال على معانيها: «وشهد شاهد من أهلها».
كان التعليق بـ«يشرب» تعبيراً عن شماتة بالفقي، الذي لم يكن يكف تحت كل الظروف عن إبداء إعجابه البالغ بهيكل بصورة ضايقت أهل الحكم.
لم يكن تصريح الفقي في كانون الثاني/يناير ٢٠١٠ كشفاً جديداً في حسابات القوى والنفوذ الفاعلة في النظام السياسي المصري بعد توقيع معاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية، أو قبلها بسنوات عندما ارتبطت السياسات المصرية بنوع من التحالف مع الاستراتيجيات الأميركية في المنطقة، وكان أخطرها إعادة هيكلة الاقتصاد المصري بصورة أدت إلى ارتفاع منسوب الدور الخارجي في تقرير الشأن الداخلي.
الجديد أن هذا الكلام المتواتر عن دور أميركي، وراءه حسابات إسرائيلية، في الخيار الرئاسي صدر عن رجل اقترب من السلطة وكواليسها، الأمر الذي دعاه إلى وصف هذا التصريح المثير بأنه يصدر عن «شاهد ملك» عاين بنفسه.
«إنني توقفت أمام هذه العبارة… لأنها جملة كاملة، وجملة معبرة، وجملة مسؤولة بلا سهو أو خطأ ــ باعتبار أن صاحبها يعلم ما يقول، ويقول ما يعلم، فقد تولى منصباً رفيعاً في الرئاسة لسنوات طويلة ــ وهو منصب سكرتير الرئيس للمعلومات ــ ثم إنه تصدر لمهمة كبيرة لا يزال عليها، وهي رئاسة لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشعب».
«وإذا ما كان ما ذكره الدكتور الفقي خبراً، وهو خبر بالتأكيد، فإن هناك أسئلة وإجابات لازمة لاستكماله، وكلها ليست من عندي، وإنما هي مجمل أول درس عن قواعد المهنة وأصولها سمعناه جميعاً».
«والحاصل أن الدكتور الفقي أجاب عن سؤال واحد من أسئلة الخبر، وهو السؤال بماذا، أي ماذا حدث… لكن حق المهنة ــ وواجبها ــ يستدعي بقية من أسئلة لا بد لها من إجابة حتى يستوفي الخبر أركانه».
«هناك السؤال عن متى؟ أي متى وقع الخبر؟ ومتى أصبح اختيار الرئيس في مصر بموافقة أميركية، وعدم اعتراض إسرائيل؟!… وهناك السؤال عن: كيف؟ ــ وهناك السؤال عن: أين؟ وهناك السؤال عن: من؟ ــ وهناك السؤال عن لماذا؟ وأخيراً هناك السؤال عن: ثم ماذا؟!».
اتصل ما كتبه بالظلال الكثيفة على صورة مبارك، من هو؟ وكيف صعد وبقي في الرئاسة لثلاثين سنة؟… ومن بعده في الاختيار الأميركي برضا إسرائيلي؟
كان يمكن أن يمضي ما قاله الفقي إلى حاله دون ضجة كبيرة لو لم يعلق هيكل عليه في الصفحة الأولى من الجريدة نفسها «المصري اليوم».
بدا الفقي في وضع حرج للغاية، فأقلام الحكومة تهاجمه بضراوة، وأقلام المعارضة تستشهد بما قال لتأكيد ما هو ثابت من توغل الدور الأميركي في الداخل المصري.
في تعليق مبارك بـ«يشرب» تبدت مرة أخرى «عقدة هيكل» مستعصية ومقيمة.
بذات التوقيت، كانون الثاني/يناير ٢٠١٠، قال هيكل أمام شاشات الفضائيات: «نحن أمام أوضاع قرب النهاية».
… ولم تتأخر الأحداث بعد عام واحد بالضبط عن تصديق رؤيته.
صحيفة الأخبار اللبنانية