علي صطوف يدجن الشعر بصرياً في مسرحية «ابن عربي»
ذهب الفنان علي صطوف في تجربته الجديدة «ابن عربي» (مسرح القباني) التي كتبها بالتعاون مع الممثل خلدون قاروط؛ إلى خيار اللغة الشعرية بديلاً من الحوار المسرحي، وذلك في التجربة الإخراجية الثانية له بعد مونودراما «نديمة» (2014). العرض الذي أنتجته مديرية المسارح والموسيقى بدا بمثابة مرافعة صارخة ضد الحرب الدائرة في البلاد منذ نيف وسبع سنوات.
إدانة خاضها كل من الممثليّن خلدون قاروط ورنا ريشة كصوتين لشخصية واحدة: (الأنا) و (الهو)، الشخصية وقرينها، لتكون ريشة الشبح الأنثوي المزمن لشاب سوري لم يجد نفسه منذ الولادة إلا في أتون حروب متتالية، فتاريخ عمره يكاد يكون تاريخ حروب لا تتوقف، ولم تسمح له بإتمام تجربة حب واحدة؛ تقيه ألم عزلةٍ يحياها في بيته الأقرب إلى مزبلة عمومية منها إلى منزل طبيعي.
نُتف من قصص تلاها كل من قاروط وريشة برفقة موسيقى سامر الفقير الذي جعل من موسيقى فيلم «تحدث إليها» للإسباني بيدرو ألمودفار ثيمة لتحولات الشخصية في صوتين، يتناوبان في استعادة ذاكرة هذه الشخصية عبر تقنية ما يعرف بـ «الحوار العصبي»، فلا فواصل بين الجمل والعبارات التي رشقها الممثلان عن شخصية ابن عربي فيما تم تغييب الصراع المسرحي على حساب شعرية العبارة ولهاث أنفاس ممثليّها في شهيقٍ واحد، وصولاً إلى ما يشبه إيقاع مضطرم ومتصاعد؛ رافقه ترتيب الممثلين لقطع الديكور والإكسسوار (صممهما محمد وحيد قزق) حاشداً أثاث البيت في عمق ويمين ويسار الخشبة، ليبدو هذا التكديس كمهمة لكلٍ من الممثل والممثلة وهما يعيدان توضيب عفش مسرحي أراده المخرج في صميم لعبته، بينما يرددان مونولوجاً طويلاً عما فعلته الحرب بـ «ابن عربي». دلالة الاسم التي تشي بمآل المواطن العربي في ظل ثنائيات: الإرهاب والفساد والحرب والثورة، التصوف والتطرف.
سعى المخرج بمساندة من دراماتورج العرض رانية ريشة إلى تقديم مستويات من التجريب على صعيد أداء الممثل، وتقديم عرض أقرب إلى عروض المونودراما لكن عبر ممثليّن يؤديان دوراً واحداً؛ فكل منهما يتحدث بلسان الآخر، عقله ومخيلته وعالمه الداخلي، أحلامه وانكساراته وهروبه من ماضيه الدموي مذ كان جنيناً في بطن أمه. محاولة تبدو جريئة فنياً من حيث الاكتفاء بموضوعية النفس البشرية، وتغليب كل من الصراعين الداخلي للشخصية، والعمودي مع قوى الغيب، على الصراع الأفقي مع شخصيات أخرى. فالصراع هنا كان ديناميكياً فجائعياً، تنازل عن مجابهة مع شخصيات يروي عنها بمواجهة قاسية مع النفس إلى ما لانهاية.
نزال تبدو فيه هذه النفس في حضور أنثوي رافض، ليظل الصراع في مستواه الأولي وظائفياً، وليستخدم كرمى هواجس الشخصية وتوضيح مداركها وسماتها العامة، ما رتب مهمات شاقة على الممثلين، دافعاً إياهما إلى إنشاد مونولوجهما واستظهاره عن ظهر قلب؛ من دون أن يسمح الإيقاع الخاطف في أحيان كثيرة بالتروي لتأمل لحظات حساسة في جسم العرض على صعيد الأداء.
هكذا الكاتب والمخرج صطوف يخوض في نوايا الشخصية معوّلاً على ثراء عالمها الداخلي، متعكزاً على إضاءة أنيقة لـبسام حميدي والذي مفصل العرض إلى ما يشبه مناظر يطل منها الممثلان في هالة من درجات ساخنة ورمادية للضوء المنبعث من يمين ويسار وأعلى الخشبة. توليفة ذهنية وشعرية كثيفة أخضعت العرض لشرطها اللغوي، وخطابها الجارح في تشريح جثة الحرب ووضعها وجهاً لوجه مع مستويين من أداء: أنا الممثل الخالقة وأنا الشخصية لتتبدى مجازفة الشكل كمضمون، وليكون الممثل مستنفراً لأدواته العميقة في سجال وضع الجمهور أمام تنوين حركي صارم للأداء على صعيد الميزانسين، وتوزيع الضوء والديكور كجثمان من أبواب ونوافذ بيوت مخلوعة من الدمار العام.
دلالة لا يمكن تجاهلها في قراءة مسرحية إبن عربي الشخصية التي تتكلم بصوت الكاتب وإيماءة من يد المخرج، تبدل وضعياتها وقطع إكسسوارتها وهي تقول قصيدة مطولة على أرجوحة، أو فوق أريكةٍ طارت من مشهد الخراب لتحط على مساحة الفرجة.
صحيفة الحياة