عمر حمدي.. الرحيل إلى متاهة اللون
«اللون متاهة كبيرة، متاهة الخبرة والإضافات الجديدة، شيء غير قابل للانتهاء، اللون السر الأبدي للحياة». هذا ما قاله يوماً المبدع مالفا ـ عمر حمدي، وهو ما يمكن أن يلخص سيرته مع اللون باعتباره فيضاً صامداً يحتوي في دلالاته حساسيات تداوله واستنباته في ذوات الآخرين… مضى عمر حمدي، مالفا الحزن والوحدة إلى تلك المتاهة الأعظم بعد أن انطفأ آخر لون كان دليله للحياة، باعتباره أفقاً رحباً لخرائطه التي تحرض الانتباه إلى أن اللون مادة تفكير ومنهج بناء شبكات مفاهيمية تمزج الطبيعة بما هو فوقها في الإبداع والفن، كما تمزج الحقيقة بأصدائها الموقفية في فسحة التأمل والفرجة والتلقي، وحيث المعايشة الوجدانية للألم الذاتي الصادم في علاقة الإنسان بالإنسان؛ وفقاً لجماليات تعبيرية تجعل من الاتساع الدلالي لألوانه مجالاً لتأويلات الباحثين والنقاد.
بغياب (مالفا) أحد وجوه الحداثة في التشكيل السوري تتضح أكثر حدود تأويل مستقبل هذا المحمل التعبيري؛ نظراً للكثافة البصرية التي كانت تشكلها أعماله ومعارضه على المستوى العالمي، فهو من القلة الذين حققوا التوازن بين النصوص البصرية والأداء الأسلوبي المتميز والقابلية المفتوحة على تأويل مفرداته لاستكشاف لغة تندرج في اعتبار البحث والاجتهاد؛ مادتين أساسيتين لتناسج المنظور مع الخفي.
هي مقدرة وظّفها الفنان على مدى تجربته كي يتيح للمتلقي تأويل ما يرى كواقعة مادية للانتقال فيما بعد إلى ما له علاقة وطيدة بحقيقة الرؤية ومفاعيلها الجمالية، وكل ما يمكن اعتباره حدثاً أو أثراً مضاءً في فضاء من الإعتام.
درامية بصرية
اليوم، ونحن نتلمس معنى الفقد بغياب قامة تشكيلية وتجربة مهمة لم يغب ذكرها عن الساحات والفعاليات الفنية منذ سبعينيات القرن الماضي، نسعى للاقتراب أكثر من الأفكار الحداثية التي طرحها عمر حمدي في سيره نحو إبداعات وتقنيات وموضوعات جديدة، بحيث شكلت كثافة عطاءاته عنصراً ضاغطاً على معايير التلقي، كما شكّلت بناءً متماسكاً لجمالية اللوحة الفنية؛ النابعة من ذاتية جريئة وثرية على صلة بروح الفنان والمعاني الرمزية التي تحيل إلى تجربته بشكل متكامل؛ إذ تتضمن إلى جانب فرادتها المرجعيات الإنسانية في الارتباط بالانطباعية من جهة، والتحرر منها من جهة أخرى، بحيث يتحول الفاقد إلى موسيقى تعبّر عنها تجريدياته الموقعة بهذا الصراع، والضغوط التي تنشأ من هذين النقيضين، التمثيل والتجريد.
بكل الأحوال فقد استطاع الفنان اعتبار المتناقضات متقاربات لإبداع سمات شكلية تمتد من عمق البادية السورية والشمال السوري بخصوص، وكل ما يحوِّل قساوة القسمات وتجهم الوجوه إلى دلالات موقفية من الحياة؛ تساوقاً مع المدرك المعرفي لطبيعة المنطقة التي وشمت موهبته منذ الطفولة بمخاطبات بصرية أعاد تصميمها لبناء مشهديات إنسانية؛ تتفوق اتصالياً على قدرة تأمل الناس من حوله، بحيث يمكن اعتبار درامية الفعل البصري وتكثيف دلالاته عنصرين مهمين للاقتراب من المعادلة السحيقة القدم في فهم الفن وتجسيده في ذهن المتلقي.
بل يمكن القول إن هذه الدرامية البصرية تجاوزت كل هذه الحالة إلى خلق ملامح جمالية تتضمن إبراز قدرات الفنان خارج زمن وجوده الفعلي، وهذا ما حقق لـ(حمدي) إمكانية التوسع في المعنى الشكلي، وفي إيضاح الأفكار بعيداً عن التعقيدات السردية.
سيكون من الصعب الإلمام بكل جوانب تجربة الفنان الراحل، لكن تسليط الضوء على أهم مفردات تجربته، اللون، ومقدار استفادة الفنان من الموروث الحضاري والبيئي لإنتاج قيم ضوئية ولونية تفرّد في صياغتها لكشف أواصر العلاقة بين الفنان والمساحة البيضاء في اللوحة، وكأن تفكيك البياض يعتمد في حقيقة الأمر على المقاربات المركّبة معرفياً؛ والتي تشكل منهجاً يقود إلى حقائق، منها المعرفة العميقة بالواقع وأحداثه، وكذلك التأويلات التي تغني هذه الحقائق عبر التفكير البصري المتميز، والذي يمكّن من الإحاطة المطلقة بالعمل الفني.
لقد حاول مالفا على مدى تجربته، وطوال رحلته بين الأبيض والأسود كموقعين مفهومين للنور والعتمة؛ أن يؤكد أن أسلافه في الفن حققوا فعلاً الوجود الذي أوصل إليه، وأن الانقلاب على المعهود في فهم اللون واستخدامه من أساسيات التجربة الإبداعية في أي مكان وأي زمان، وأن الملموس الذي نراه في اللوحة لا ينطلق من أي أمر أكثر من انطلاقه من وعي الفنان بالعالم.
سيبقى اللون (المالفي) محاولة إنسانية للتقرّب من حقيقة الفن؛ وستكون لأهمية قراءة تجربته بشكل جدي ومعمق القاعدة التي يمكن أن نستدرك من خلالها براعة الفنان في تأكيد الانخطاف اللوني، وكيف يتمكن الفنان من الخروج من ذاته المتصوفة كل مرة لتحقيق وجود إبداعي خارج غيبته الأبدية.
صحيفة السفير اللبنانية