عندما “العالم الرابع” ينشب أظفاره في “العالم الأول” (أحمد فرحات)
أحمد فرحات
كالنار في الهشيم شاع مصطلح "العالم الثالث" في الأدبيات السياسية، العربية منها والعالمية. كان ذلك منذ ظهوره مطلع الخمسينيّات من القرن الفائت، وعلى لسان عالم الديموغرافيا، وخبير الاقتصاد الفرنسي، ألفريد سوفي (Alfred Sauvy)، وذلك في معرض تصنيفه للبلدان التي هي خارج مجموعة الدول الرأسمالية والليبرالية والصناعية المتقدّمة جداً، كالولايات المتّحدة الأميركية، وأوروبا الغربية، واليابان، وكندا. وقد سمّاها دول "العالم الأول".. وكذلك أيضاً خارج مجموعة الدول الاشتراكية، بزعامة الاتّحاد السوفييتي، وكتلة أوروبا الشرقية.. فضلاً عن الصين، وقد أطلق عليها اسم، أو مصطلح، دول "العالم الثاني".
أما دول "العالم الثالث"، وفق تصنيف ألفريد سوفي، فهي مجموعة البلدان الآسيوية، والإفريقية، والأميركية اللاتينية، التي تنضوي تحت جناحي العالم الأول والثاني، سياسياً واقتصاديا وثقافياً (بالمعنى الأيديولوجي هنا طبعاً)، من غير أن تنهج، وجذرياً، نهج طريق التطوّر الرأسمالي- الصناعي، ولم تنهج في الوقت عينه مسار الاشتراكية، أو اليوتوبيا الشيوعية استطراداً، فبقيت دولاً "فقيرة"، "متخلّفة"، علمياً وتنموياً وبالتأكيد سياسياً، على الرغم من ادعائها، غالباً، عكس ذلك.
على أن هذه الدول، وإن صنفت أيضاً في خانة "الدول النامية"، أو "الدول السائرة في طريق النموّ"، إلا أن ذلك لم يغيّر كثيراً في مضمون معادلاتها السياسية المتمادية في شبه الجمود عينه. وقد أطلقت عليها مثل هذه الصفات تجمّلاً، أو على سبيل التشجيع لها، لتفعّل أمورها أكثر في قلب الفضاء السياسي، التي تنتمي إليه، في كلا المعسكرين القطبين، وحربهما الباردة، التي كانت معلنة سابقاً في العالم: حلف الناتو وحلف وارسو.
وكان البعض من دول "العالم الثالث"، يوصّف سابقاً كذلك، بأنه من الدول "غير المنحازة"، وهي صفة رآها البعض تضليلية، لأن معظم هذه الدول، كانت واقعة تحت نفوذ الدول الكبرى، سواء الرأسمالية المتطوّرة منها أم الشيوعية.
كما أن صفة "معاداة الاستعمار والإمبريالية العالمية"، كانت قد طبعت أيضاً عدداً كبيراً من دول العالم الثالث. وقد صنّف ألفريد سوفي نفسه، من جهة أخرى، دولاً بحالها، لم تنحز للولايات المتّحدة، ولا للاتّحاد السوفييتي، خصوصاً في ذروة حربهما الباردة، بأنها دول محض عالمثالثية. وهو هنا لم يصنفها بالمعنى الازدرائي طبعاً، كما قد يظنّ البعض، بل صنّفها موضوعياً كواقع قائم، عكس ما فعل كثيرون من الساسة والباحثين والمتناقشين والإعلاميّين والمحللين السياسيّين في ما بعد.
وعلى الرغم من قلّة تداول مصطلح "العالم الثاني"، وحتى شبه زواله، اللهم إلا في الأدبيات السياسية والاقتصادية القائمة للبحاثة المعنيّين والمختصين هنا.. وعلى الرغم من تداعي، حتى المنطق الذي أنتج مصطلح "العالم الثالث"، والذي كان (حتى من قبل سقوط منظومة الدول الاشتراكية) موضع نقد شديد، بوصفه تصنيفاً يحمل منطقاً رأسمالياً في فهم العالم. غير أن النقد الأخطر، والأكثر تسديداً اليوم، فمصدره حقيقة، الرأسمالية الليبرالية الجديدة، التي باتت ترى أنه لم يعد هناك ما يبرّر البتة، قيام مثل هذا التصنيف، بخاصة بعد سقوط جدار برلين، لأن العالم كلّه (الأول والثاني والثالث) بات عالماً واحداً الآن، خاضعاً لقوانين رأس المال، وقواعده، ومنطق شروطه الملزمة، وتجريفه الجيوبوليتيكي/ الاقتصادي المنظم والكاسح.
العالم الرابع كما يحدّده البنك الدولي
هكذا إذأً، وكنتيجة للعولمة الاقتصادية بنتائجها المدمرة للاقتصادات الضعيفة، وظهور الدول التي تعاني من الحروب الأهلية، وتمزق الهويات، وشيوع الإرهاب، وملاحم الفساد، والنهب الفوضوي، والمنظم.. علاوة على ظهور الفقر بمعدلات غير مسبوقة، وموت الطبقة الوسطى، وانهيار قيم المواطنة، وتفكّك تلاحم النسيج الديمغرافي للأقليات الدينية والعرقية فيها.. كلّ ذلك أدى إلى قيام ما يمكن تسميته بمصطلح دول"العالم الرابع"، والتي يعرّفها البنك الدولي بأنها "الدول التي تعاني من تجاوز خط الفقر، أي الدول التي لا يتجاوز دخل الفرد السنوي فيها 100 دولار".
وكمثال على دول "العالم الرابع"، يمكننا هنا ذكر دول عدّة في آسيا وإفريقيا، غارقة في الفقر والجوع والحروب الأهلية المستدامة.. واحتراب حتى الهويات الفرعية فيها، مثل الصومال ونيجيريا وبنين وأفغانستان وناميبيا وأريتريا وجنوب السودن إلخ…
ويطلق مصطلح "العالم الرابع"، حتى على شرائح واسعة في بلدان ما يسمّى "العالم الأول" و"العالم الثالث"، سواء بسواء. فهناك مثلاً، الملايين ممّن يعيشون تحت خط الفقر، في بلدان كالولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي، خصوصاً في قسمه الجنوبي .. وهؤلاء المهمشون، لا تحسبهم، أو تعاينهم بجدية تذكر، بعض الدول الغنية، في إطار سياساتها الاقتصادية الإجمالية، التقليدية منها والمستحدثة.
وقد أطلق مصطلح "العالم الرابع"، مستحدثاً، على مهمّشي الولايات المتّحدة وأوروبا، المنظّر في الاقتصاد السياسي، الفنلندي المقيم في الولايات المتّحدة، جورج ك. هانسن. فقد ذكر في معرض حديث له لـ"النيوزويك الأميركية": "إن في بلادي مئات الآلاف من النماذج التي ترزح تحت خط الفقر، (تماماً كملايينكم هنا في أميركا) وتجتهد حكوماتنا المتعاقبة لتغيير واقعهم المزري والأردأ فيها. وكلما أفلحت هذه الحكومات بعض الشيء، تعود وتصطدم بموجات من الفقراء المعدمين والهزالى، أكبر وأعتى.. تفاقمها هنا بالطبع أخطاء سياسات اقتصادية استراتيجية فنلندية شتّى، علاوة على السبب الأخطر، والمتمثّل هنا في موجات الهجرة الشرعية، وغير الشرعية أيضاً، من مختلف أنحاء أوروبا، والعالم، إلى فنلندا وسائر الدول الإسكندنافية. إن بين ظهرانينا الآن مئات الألوف من شرائح "العالم الرابع".. ولا نعرف ماذا نقول لهم: أهلا وسهلاً، ام نستودعكم الله يا قوم"؟!.
والحقيقة أن مصطلح "العالم الرابع"، كان قد أطلقه من قبل، وتحديداً في العام 1960، العالم الاقتصادي الفرنسي الكبير: جوزيف فريزنسكي. وقد عنى به أيضاً تلك الشريحة الاجتماعية التي تعيش تحت خط الفقر، داخل المجتمعات الغنية في البلدان الرأسمالية المتقدمة بالذات. وكانت الغاية من وراء دفع هذي التسمية، إخطار العالم كافة بحقيقة ساطعة، وتزداد سطوعاً كلّ يوم، وهي أن الفقراء لا ينتمون إلى المجتمعات المصنفة بـ"فقيرة" فحسب، بل هم موجودون أيضاَ، داخل مجتمعات الغنى والثروة والدمقرطة والتطوّر العلمي والتكنولوجي المذهل.
ومهما يكن من أمر، فالمسؤولية هنا تقع على عاتق الجميع في دول الشمال والجنوب، الغنية منها قبل الفقيرة، لأن العالم كلّه بات بالفعل "قرية كونية صغيرة، يتأثر بعضها ببعض"، بحسب ما قال العالم الكندي: مارشال ماكلوهان (كان قوله هذا سبباً في شهرته أكثر من كلّ إنتاجه). وهذه القرية باتت اليوم وقبل أيّ وقت مضى، وكنتيجة حتمية لدراما توسع خارطة الفقر، المتجاوزة لكلّ الخطوط الحمر، مرشحة للخراب العميم في كلّ أرجائها.. وبخاصة لجهة انعدام الأمن، وسيادة الجريمة المنظمة، والتهام القوي للضعيف، وبروز كمّي مخيف لطبقة تجار الحروب، أو كما يسميهم الفنلندي جورج ك. هنسن "حكم قراصنة العالم للعالم".
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن مفهوم التنمية في دول الجنوب، ومن وجهة صندوق النقد الدولي، يحمل معه، وكما هو معروف، مركزية غربية متطرفة، إذ إنه يفرض على مجتمعات العالم الأخرى، أن تتبع في نموّها، حركة واتجاهاً، يتمحوران على المجتمعات الغربية، ويتبنيان نمط حياتها ومفاهيمها الحضارية والثقافية.. حتى هذه، لم يعد لها أيّ قيمة بالنسبة إلى استتباع الغرب للآخر هنا، لأن "العالم الرابع" بات ينشب أظفاره في قلب هذا الغرب نفسه، ويفتك به، تماماً كما يفتك بسائر مجتمعات المعمورة الفقيرة أو المتخلفة في كلّ شيء.
هكذا إذن، وفي ظلّ انتشار بقع ديموغرافيا "العالم الرابع" في "العالم الأول" تحديداً، لم يعد هناك من قيمة امتيازية تذكر، بالنسبة إلى قسمة العالم، الى "شمال متطوّر" و "جنوب متخلّف". فالكلّ سيصير، في القريب العاجل، واحداً بالضراء أو المصير الأسود الهالك.
نشرة أفق الالكترونية (مؤسسة الفكر العربي)