عن أي 1948 نتحدث؟
تمثل حرب فلسطين 1948 لحظة مفصليّة في تاريخ أنظمة الشرق الأوسط الحاليّة كلها، بما فيها الفلسطينيون. مع مرور سبعين عاماً على تلك الحرب، ما زلنا نفتقر إلى تأريخ حقيقي للمرحلة بسبب تعمد الأنظمة المفتقدة أي شرعيّة امتلاك سردياتها التاريخيّة الذاتية المتناقضة والعابقة بأساطير تجعلها أقرب إلى الدراما الخيالية منها إلى الحقائق الموثقة.
تبحث السرديّات التاريخيّة التي تكتبها الأمم دائماً عن لحظة سحريّة محددة تعزو إليها التحولات الكبرى والأحداث المفصليّة، فتعفيها من التدقيق في البنية الشديدة التعقيد والطبيعة السائلة لمسارات التاريخ الإنساني. وإذا كان هناك ثمة لحظة كتلك مشتركة بين دول الشرق الأوسط الحديث كما نعرفه اليوم، فلن تكون سوى 15 أيّار (مايو) 1948. هي للإسرائيليين يوم ميلاد دولتهم المستعادة من قلب الأساطير العبرانيّة القديمة رغماً عن العالم ببطولة الجيل الإسرائيلي الاستثنائي، وهي للفلسطينيين «النكبة» التي تسببت في ضياع الأرض والشعب والحلم معاً. بينما هي للدول العربيّة المجاورة التي صممتها الدوائر الاستعمارية البريطانية والفرنسية قبل عقود قليلة ووجدت نفسها متورطة في ما سمي حرب فلسطين 1948، كانت بمثابة بوابة دخلت عبرها في مسار تغييرات مست القيادات (اغتيال ملك الأردن، ورئيسي وزراء لبنان ومصر) ولاحقاً بنية الأنظمة ذاتها (انقلابات في مصر وسوريا وإعادة تأسيس للأردن في طور جديد)، ناهيك عن تشريد الفلسطينيين وتجربتهم في المقاومة عبر الحدود المستجدة.
لكل هؤلاء اللاعبين عبر شرق المتوسط والمتعطشين – من دون استثناء – لتكريس شرعيّة كياناتهم المصطنعة، فإن امتلاك الرّواية التاريخيّة عن لحظة تأسيسيّة مثل 1948 كان مهمة مقدسة للأنظمة لا يمكن تركها للآخرين. وبحكم الهيمنة المطلقة للطبقات السياسيّة – التي تركها الاستعمار لإدارة كيانات المنطقة المصطنعة – على وسائل الإعلام والمناهج المدرسيّة والجامعات ونشر الكتب وأرزاق الباحثين – فإن كل الكتابات التي سجلت تاريخ المرحلة كانت نسيج أساطير صُنعت بدقّة متناهية وخبث شديد لتناسب السرديّة التاريخيّة للأنظمة كل على حدة. الإسرائيليون لهم سرديتهم، وكذلك الفلسطينيون، إضافة إلى روايات وهميّة متوازية من وجهات نظر بريطانيّة وأردنية ومصريّة وعراقيّة وسوريّة وسعوديّة مع ملاحظة استثناء لبنان الذي – بحكم تعقيدات التحالف بين أمراء الطوائف فيه – يمتنع حتى اللّحظة عن تقديم سرديّة محددة في شأن تلك الحرب.
لذلك، فإن المراقب الذي يريد أن يقرأ ــ أو يكتب ـــ تاريخاً كلياً أو جزئياً للمنطقة سيجد نفسه غارقاً في لجة محيطات من كذب وتلفيق وشهادات غير موثقة وانطباعات فرديّة لا يمكن التأكد من صحتها، الأمر الذي يتسبب باستحالة بناء نص متماسك يمكن البناء عليه لإجراء مراجعات نقديّة أو جدليّة في شأن الأحداث.
ولعله مما يعمّق صعوبة مهمة ذلك المراقب أن الأنظمة جميعها في المنطقة تحرص على الاحتفاظ بوثائقها الرسميّة عن حرب فلسطين تحديداً بمنأى عن يد الباحثين التاريخيين. وباستثناء بريطانيا وإسرائيل اللتين تُطبقان – استنسابيّاً – سياسة الإفراج المحدود عن وثائق الأرشيف الرسمي بعد ثلاثين عاماً والأردن الذي سمح لمؤرخي النظام الرّسميين بالاطلاع على أجزاء محددة من أرشيف القصر الملكي بغرض مساعدتهم على صياغة الأسطورة الأردنيّة الرسميّة، فإن معظم الوثائق الأساسيّة عن المرحلة ما زالت حبيسة الأدراج إن لم تتلف أصلاً. وهذه دلالة أكيدة على أن الأنظمة في الشرق الأوسط ما زالت غير واثقة من شرعيتها المزعومة، وغير قادرة على تقبل فضاء للتحاور في شأن أحداث تاريخيّة وقعت منذ سبعين عاماً. ولا تبدو اتفاقيات السلام العلني العريقة بين إسرائيل وكل من مصر والأردن ومنظمة التحرير وحتى أجواء الدفء العلني للعلاقات بدول أخرى، تساعد أياً من الأطراف على تجاوز حرجها التاريخي تجاه تلك المرحلة، مما يشير إلى إحساس طاغٍ بانعدام الثقة بالنفس ووجود مصادر إدانة وتجريم للأطراف المختلفة.
وللحقيقة، فإن الإسرائيليين يبدون – شكلاً على الأقل – أكثر أنظمة المنطقة استعداداً لفتح أبواب جدل في شأن ما حدث إبان حرب فلسطين 1948. وهم من خلال الإفراج الجزئي للوثائق، سمحوا للجيل الجديد من مؤرخيهم بإطلاق تساؤلات نقديّة الطابع حول بعض تفاصيل الأسطورة الإسرائيليّة في شأن الحرب. محاولات تستحق الإشادة على رغم تضارب بعضها أحياناً، واستحكام النفس المذهبي – القومي في بعضها الآخر، ودورها الغامض في الكشف عن أشياء مقابل السكوت عن أخرى ربما تماشياً مع رغبة السلطات الإسرائيليّة بعدم إزعاج الحلفاء السريين الذين صاروا أو على وشك أن يصبحوا أصدقاء علنيين. لكن الأنظمة العربيّة تجاهلت التعليق على مثل نصوص كهذه، ومنعت تداولها باستثناءات محدودة مع كبير تدقيق لضمان أن النّص المفرج عنه لا يتعارض تحديداً مع سرديّة نظام عربي معيّن ــ وإن تعارضت مع سرديات عربيّة أخرى -. وهكذا ما زال التلاميذ الأردنيون والفلسطينيون في المدارس الأردنيّة مثلاً يتعلمون أن الجيش العربي (الأردني) قام بالتدخل في فلسطين لدعم الفلسطينيين ونفّذ ــ على رغم محدودية استعداداته ــ أعمال قتال بطوليّة ونجح في إنقاذ الضفة الغربيّة من براثن الاحتلال ومنع سقوط القدس الشرقيّة. وهذه كلّها لم تعد مقبولة كأحداث تاريخيّة، ناهيك بتعارضها المباشر مع واقع العلاقة الحميمية بين النظامين اليوم.
ليست مصاعب المراقب لتتوقف هنا في شأن حرب 1948. إذ إن غالبية التواريخ المتوافرة عنها تفتقد المنهجيّة التاريخيّة الدقيقة المقبولة علمياً، وتنحاز بحكم ثقافة كاتبيها اليمينيّة إلى التركيز على بطولات القيادة وتحركات الجيوش واجتماعات الديبلوماسيين من دون كبير اهتمام بدراسة الأجواء الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة لشعوب المنطقة والتي مثلت منصة ورافعة ومسرحاً للأحداث السياسيّة. وهو أمر تجاوزته الدراسات التاريخيّة الماركسية منذ زمن وأصبح ممارسة عامة في الإطار الأكاديمي. لكن أنظمة المنطقة – بما فيها المؤسسة الرسميّة الموكل إليها إدارة شؤون الفلسطينيين – متضامنة لمنع حدوث اختراقات في هذا المجال، وإن حدثت فهي تُدفع باتجاه دراسات فلكلوريّة لا تمس البعد الطبقي للصراع والذي لا يمكن من دونه تكوين فهم صحيح لأدوار المشاركين في الأحداث.
مع احتفال إسرائيل بسبعينيّة (استقلالها) وشعورها المتزايد بالرعاية الأميركية للاستمرار دولة أبديّة لليهود ما بقيت الإمبراطوريّة الأميركيّة، ومع اندثار الحلم الوطني الفلسطيني بالبقاء، ناهيك بالعودة، وانكشاف سياسات الأنظمة العربيّة جميعها من المحيط إلى الخليج، ووقاحة العلاقة بين بريطانيا الاستعماريّة وأنظمة الشرق الأوسط، لا يكاد المرء ليجد مبرراً منطقياً على تواطؤ كل الأطراف لإبقاء غلالات السريّة الكثيفة هذه عن أسرار حرب فلسطين 1948 تحديداً.
ربما التاريخ لا يكتبه المنتصرون. هؤلاء والمتآمرون معهم والخاسرون جميعهم إنما يكبلون التاريخ ويكتبون محض أساطير تكرس هيمنتهم. تاريخ فلسطين 1948 لم يكتب بعد، وحتماً – في ظل الواقع – لن يكتب قبل أن تزال مجموعة الأنظمة التي خلّفها لنا الاستعمار في منطقتنا، و تُجتث الطبقة المهيمنة المتآمرة معه. حتى ذلك الحين أرجوك أن تحدد لي عن أي 1948 تتحدث!
صحيفة الأخبار اللبنانية