عن الحرية
أسمحوا لي اليوم أن أحدثكم عن الحرية لا كفيلسوف بل كمجرب عانى فقدان الحرية ، صحيح أنني لم أفقدها إلا لتسعة أشهر فقط ، غير أنها كانت كافية نسبيا لكي أضع نفسي في حقل التجربة و أشعر بأنني أتغير نفسيا و فكريا لا كمثقف يتفرج على البحر و إنما كإنسان بدأ يغرق في لجته .
حدث هذا في صباح آخر يوم من عام 1958 و كنت مكلفا من شلة أصحابي بالإشراف على تنظيم سهرة رأس السنة لعام 1959 في ذلك الصباح قرع رجال الأمن باب الدار و أمروني أن ألبس ثيابي بسرعة وهكذا ساقوني إلى سيارة شحن صغيرة كان فيها بعض المعتقلين من أمثالي وأنطلقوا في إتجاه مجهول بعد أن قالوا لنا إنهم ذاهبون بنا للتحقيق معنا في بعض الأمور السياسية و قد يفرجون عنا بعد التحقيق …و لكن هيهات فقد إستمرت الشاحنة في طريقها كما عرفنا إلى سجن المزة العسكري في أعالي إحدى الهضاب هناك.
هكذا بكل بساطة صرنا سجناء ذلك السجن الرهيب ولا تحقيق حصل ولا سؤال ولا جواب سوى الزنزانة التي رميت فيها مع إثنين من الرفاق قضيا معي ليلة ثم أخذوهما إلى مكان آخر و لبثت وحدي في الزنزانة … و هكذا مرت ليلة رأس السنة و أنا مرمي في سجني أفكر و أمل و أنتظر و ما من مجيب سوى أصوات البعيدة لصراخ شخص يتوجع في مكان قريب أو بعيد …و أنا كالمسحور لا أصدق ذاتي أأنا حقا مسجون في هذا المكان الضيق و ليس سوى الحصير على الأرض و بطانيتان واحدة تحتي عند النوم و الأخرى فوقي
فهمت فيما بعد أنها حملة إعتقال ضخمة لأعضاء الحزب الشيوعي السوري – اللبناني – كما كان يسمى في ذلك الحين ، و حين إستغربت اعتقالي معهم بالرغم من أنني لست منتميا كعضو في ذلك الحزب المتهم أن قيادته ضد مشروع الوحدة أنذاك بين سوريا و مصر …و لكن ما علاقتي أنا بهذه التهمة و أنا الشاعر الذي تغنى بالوحدة قبل حدوثها بقصيدة نشرت وقتئذ في مجلة ” صباح الخير” المصرية ، ثم نظمت ثلاث قصائد في الترحيب بزيارة جمال عبد الناصر زعيمنا القومي المحبوب في نظري آنذاك بعكس البيان الذي أصدره الحزب الشيوعي آنذاك بضرورة تحقيق أحد عشر إجراءا قبل الوحدة و لم أكن أنا من مناصري ذلك البيان بعد مدحي عبد الناصر بقصائدي التي نشرت في صحفنا المحلية و اللبنانية .
بقيت وحدي في تلك الزنزانة أسبوعا كاملا و انا ملقى على البطانية السوداء أحلم وأنتظر ولا أحد سوى الحارس العسكري الجلف يهددني كلما حاولت أن أسلي نفسي بإختراع رقعة شطرنج على البطانية و صنع محاربي الرقعة من قطع مقشور البرتقال إذ كان ذلك الحارس يدخل علي و يطحن ادواتي بقدميه و يمحو رقعتي …
يالها من ذكريات أليمة … نقلت بعد تلك الزنزانة إلى مهجع حافل بالمعتقلين ثم نقلوني إلى غرفة لم يكن فيها سوى ثلاثةعشر سجينا … وفي كل هذه الامكنة لم يكن من عزاء لنا سوى تبادل الحديث و انتظار الفرج و زيارة الأقارب يوم الأحد يحملون إلينا بعض المأكولات والفواكه التي حرمنا منها … لم أتعرض للتعذيب بالضرب و قلع الأضراس و إكتفوا بأمري أن أنظف المراحيض من الأوساخ ، و أحمل أحيانا براميل الزبالة و النفايات إلى خارج السجن قليلا و إفراغ تلك البراميل في أكياس ضخمة ، و قد ضربت في إحدى المرات بالكرباج لأنني أوقعت البراميل من على ظهري إلى الأرض و كان علي أن أنظف أرض السجن بيدي و اجمع الزبالة ثم أحملها إلى البرميل الذي سقط …
تسعة أشهر من هذا العذاب و الحرمان أخلي بعدها سبيلي و خرجت من الحبس إلى حرية مختنقة و بطالة موجعة بعد تسريحي من عملي كمدرس للغة العربية و آدابها في صفوف القسم الثانوي ….
بطالة طالت و نحن نمارس فهما جديدا لمعاني الحكم الإستبدادي و أهمية مناخ الحرية لعيش البشر و تحويلهم مع الزمن إلى قطيع من البؤساء المزعورين باستمرار…
و هكذا بدأت أتعلم ليس بالثقافة النظرية و إنما بالممارسة الواقعية أن لا شيء أغلى من حرية الفرد التي لا يجوز لآية سلطة أن تجور عليها بالقيود و الحرمان ما دام هذا الفرد يكتفي بالتعبير عن أفكاره لفظا أو كتابة من دون مخالفة قوانين العدالة أو استخدام العنف أو الدعوة للقيام به …
لا شيء أصعب من حرمان الإنسان حريته التي تنص عليها الدساتير العادلة ، و إذا لم تصدقوني فما عليكم إلا أن تجربوا العزلة عن العالم الخارجي عزلاً تاماً كما صنع أبو العلاء المعري في النصف الثاني من حياته بإرادته الخاصة به … وهي عزلة فلسفية … و إنما أعني العزلة المفروضة على الإنسان غصبا عنه … حتى و لو كانت في داره … الحرمان من الحرية في حد ذاته عذاب مرير …حتى و لو جربتموه بسبب مرض أو يأس أو كره للناس … تبقى الحرية مناخا لا غنى عنه لحياة البشر أفرادا و جماعات .إذ لا شيء أغلى من الحرية !.