بكين ــ كنت وزملائي خلال سنوات دراستي نعمل ضمن فريق بحثي يضمّ مجموعة كبيرة من طلاب الماستر والدكتوراه، وقد كنا محظوظين بأستاذنا المشرف، الذي كان يعاملنا كأبنائه. أمضينا معا أربع سنوات كنا نتشارك كل تفاصيلها، وكان مشرفنا يعاملنا بكل احترام، إذ كان بالفعل كقائد قدير وجدير يستحق قيادة بلد، لا سيما وأنه علّمنا قبل أن نعمل مع بعضنا في الأبحاث الهندسية، أن نحترم ونحب بعضنا البعض، وهذا ما جعلني أقول لأصدقائي دائما:
“لو لم يكن البروفسور قائدا جيدا، لم تكن علاقتنا ببعضنا جيدة إلى هذا الحد، بل ربما كان سينتابنا شعور بالنقمة او المنافسة عندما ينجح احد منا.”
على مدى الأربع سنوات الماضية تشكّلت فيما بيننا الكثير من الذكريات، إذ كنا نمضي معظم لحظاتنا معا.الأمر الذي دفع بالطلاب الخريجين لبذل أقصى جهودهم للبقاء في هذا الفريق، وذلك للحفاظ على هذه المجموعة بقيادة أستاذنا. وهو ليس بالأمر السهل، لا سيما وأن جامعتنا متقدمة جدا، ولا تقبل طلاب الدكتوراه حديثي التخرج، حتى أن أحد أصدقائي سعى جاهدا مدة 9 أشهر بعد تخرجه محاولا استمرار القيام بأبحاثه معنا في الفريق نفسه.ولكنه لم ينجح فقد حمل إلينا الخبر أنه لن يستطيع البقاء، وعليه أن يغادر إلى جامعة أخرى.
قبل مغادرته دعانا إلى عشاء وداع، وحسب العادة المتبعة على مأدبة كهذه في الصين، لا بد من أن يقول كل منا مشاعره تجاه الآخر ويتمنى له دوام التوفيق.
حين جاء دوري في الكلام والحديث، تجمّد وجهي فجأة، لم أعد أعرف ماذا أقول، وهذا ما جعلهم يستغربون، فأنا صديقتهم “لوران” المعروفة بإجاباتي السريعة على أسئلتهم مهما كانت، ارتبكت وتلعثمت، وفي النهاية تحدّثت بصعوبة، متمنية له حياة سعيدة وعمل جيد.
في لحظة خلوّ إلى نفسي فكّرت في سبب تلعثمي، وجاءتني الإجابة سريعا إنه “الوداع والفقد” فنحن في سوريا فقدنا الكثير ومازلنا نفقد كل يوم، نحن فقدنا بلدا بأكمله ولذلك فإنّ أي لحظة فراق أو ابتعاد تهزّنا.. تمسّنا..تقهرنا.. تضيعنا.. ترجعنا إلى نقطة الصفر.فنذكر كل ما فقدناه، نذكر أنّ لنا بلدا فقد أبناءه، تشرذمت أراضيه، نتذكّر أننا نفقد زمنا لن يعود إلى الوراء، لأن التاريخ يعيد نفسه كل يوم علينا بشكل أسوا مما سبق، ولذلك أقصى ما يمكننا فعله هو تمني السعادة للآخر، ومتابعة طريقنا نحو قدر نجهله ونحمّله مسؤولية أي فقد قد نتعرّض له.