عن تهافت علاقة الإسلام السياسي بالثورات العربية (ماجد الشيخ)
ماجد الشيخ
لا يمكن اختزال الثورات بحضور الإسلام السياسي، وتغييب الحريات، بل تغييب الثورات ذاتها، حين يجري ركنها في الهوامش، وإبراز موضوعة السلطة كمآل أخير لقوى الإسلام السياسي وتياراته المتلاطمة والمتصارعة من أجل احتياز السلطة، كمدخل إلى ابتناء طوبى «الخلافة»، عبر ابتناء دولة هي في الجوهر دينية لا مدنية، السيادة فيها للشرع المتنازع عليه بين عشرات الفرق والتيارات، لا للقانون والدساتير الأدرى بشؤون البشر في أزمانهم. فأيّ شرع يمكن اعتماده؛ وهناك نصوص قالت بالمصلحة أو المصالح المرسلة لأصحاب الأحاديث، التي جرى استنباط أو استخلاص العديد منها واحتسابها على قائمة الشرع؟
وما يجري اليوم في كل من مصر وتونس، حيث مهد ثورات الربيع العربي، يؤكد بالملموس وبالوقائع المرة، أن انقلابات قوى الإسلام السياسي على ثورات شعوبها ومجتمعاتها، هي الثمرة والمآل الأخير للتضاد القائم بين الثورة وقوى لا علاقة لها بالمستقبل؛ وإن كانت مهمتها الأساس في الحاضر، الإمساك بالسلطة وعدم إفلاتها، لكونها «المقدس الجهادي» الذي يتيح لها الحكم والتحكم برقاب «العباد»، أما التغيير واستعادة الحرية والكرامة والإيمان بالديموقراطية والتعددية والتسامح واحترام التنوّع، فهي كلها مهمة قوى أخرى غير تلك التي تتكالب على السلطة اليوم، ويشتد استبدادها وطغيانها كل يوم، وصولاً إلى تهيئة الظروف المناسبة للقيام بثورة جديدة، ثورة تغيير حقيقية؛ عمادها الكفاح من أجل دولة مواطنة مدنية حقاً، ودستور مدني رافعته الأساس مواطنون أحرار، يكون جماع أو نتاج عقليات مدنية حديثة، لا نتاج نقليات التدين الكهنوتي ـ الفقهي.
لذلك، لم تكن الدولة الدينية وفق الدكتور جورج قرم سوى «مشروع فتنة بين المسلمين أنفسهم» بل بين الإسلامويين أنفسهم؛ وخلافهم واختلافاتهم حتى إزاء النصوص الواضحة والقطعية، فكيف يمكن لهم أن يتفقوا على أساسيات العيش بحرية الاختيار، لا الفرض القسري من قبل استبداد طغياني تمارسه السلطة الدينية على اختلاف تمظهراتها التنظيرية الفقهية والإفتائية والعملية؛ الاجتهادية وغير الاجتهادية التي تؤول إلى المعنى والسلوك ذاتهما في الممارسة العملانية للطاغية المستبد، استناداً إلى ما يفترض أنها مرجعياته الخاضعة منذ البدء وحتى الأخير لتفسيراته ومفاهيمه وتأويلاته، أو «تقويلاته» هو استناداً إلى مجموعة من مرجعيات؛ لا تختلف هي الأخرى في سلوكها وممارساتها العملانية في الواقع.
الدولة الدينية دولة طائفية بامتياز، أو هي دولة طائفة تمذهبت حتى غدت في تمذهبها، وكأنها «الأعلى منزلة» وترقى إلى حد القداسة، في مواجهة تمذهبات أخرى من الطائفة ذاتها، فكيف تكون مثل هذه الدولة عادلة، أو يمكنها أن تحكم بالعدل، لا سيما في مجتمعات متعددة ومتنوعة دينياً؛ طائفياً ومذهبياً وهوياتياً، ما يلزمها أن تكون تعددية أو تحافظ على تعددية الغنى الثقافي، بدل الخضوع لفقر وعدمية وانعدامية التفكير العقلاني الذي يسم الاتجاهات النقلية المغلقة والمنغلقة بأطيافها كافة، في ظل انعدام كل فرصة لإصلاح ديني مشابه لما حصل في أوروبا؛ انطلاقاً من فرضية انعدام كل فرصة ممكنة لإطلاق ورشة تاريخية تسمح الاتجاهات السائدة في ظلها بحرية التفكير، ومن ضمنها حرية الاجتهاد الذي يجري تحريمه، وإدانته من قبل المهيمنين على المؤسسات الدينية، سواء كانوا سلطة سياسية أو سلطة أهلية تقليدية، تستمدّ من الدين ومفاهيم خاصة عن الشرع سلطانها الحديدي.
إذا لم يكن هناك أي أفق لإصلاح ديني في بلادنا، فإن الإصلاح السياسي والاقتصادي أكثر استعصاءً، ومن دون ثورة شعبية تطيح أنظمة الاستبداد السلطوية، لن يكون ممكناً الانتقال إلى حال أفضل، في ظل حداثة مدنية يستعيد فيها الإنسان قيمته كمواطن، تنشأ القوانين والدساتير لمصلحته، لا أن يجري تكييفه وأقلمته لمصلحة قوانين ودساتير وأحوال شخصية يُزعم أنها «إلهية» أو مقدسة، أو هي من الشرع، أو هي الشرع كله.
المواطنة في ظل الدولة المدنية الحديثة، مسألة تختلف بالمطلق عن تلك التي يُقال إنها يمكن أن تنشأ في ظل دولة يحكمها «إسلام سياسي» يسعى إلى قولبة الديني في قالب المدني، أو إلى قولبة المدني في قالب الديني؛ وسيان ما بين هذا وذاك، فالسلطة الدينية وهي تستعيد إرث «مقدسها المطلق»، إنما هي تتماهى وسرديات مرجعياتها الأولى/الأصل، فلا تترك مجالاً لاستحداث أحكام أو اجتهادات جدية تتماشى وحال مجتمعات مدنية في العصر الحديث، بقدر ما تضفي قداسة حتى على النصوص والتفسيرات والتأويلات والتقويلات (قديمها والجديد)، من دون أي اعتبار للواقع الراهن، بقدر ما تسعى لاسترهان هذا الواقع، وسلبه راهنيته على الدوام، وقذفه دائماً إلى الخلف، ووضعه أمام اللحظة التأسيسية المفترضة؛ تماماً كما راهنت تلك اللحظة يومها على سلطة لها صارت في المدينة، تجاوزت من خلالها لحظة التأسيس السابقة التي كانتها في مكة. فلم تعد إلى سرديات سيرتها الأولى حتى اللحظة.
وهكذا «الإسلام السياسي» اليوم، لن يكون في مقدوره أو في استطاعته، وهو يحوز السلطة، أن يبتعد عن سرديات لحظة استبداد ستبقى تتكرر، وتكرر سرديات هيمنة مطلقة في فضاءات سلطته المستعادة كما يعتقد، حيث «سُرقت» منه، وها هو «يستعيدها» مرة وإلى الأبد! كما لو أن السلطة السياسية قرينة السلطة الدينية، هكذا كانت وهكذا يجب أن تكون! وهذا هو وجه الغرابة والاستغراب بإزاء ثورات قامت وتقوم من أجل التغيير، لا من أجل تكريس واقع مريض أو استعادة سلطة مفترضة، تمتد من الماضي السحيق إلى المستقبل الأكثر انسحاقاً تحت سنابك خيل الماضي، وهي تختال بصولجان سلطتها المستعادة من أيام الفتوحات. فأي بؤس يمكن أن نعيش في ظله، طالما أن «الإسلام السياسي» يصرّ بطبيعته وطبعه على تحويل الثورات إلى مادة لثورات مضادة، تترنح منتشية على وقع استعادتها ما تفترض أنه «فردوسها المفقود»: السلطة الاستملاكية للناس، والاستبدادية للسياسة، والتفتيتية للاجتماع الإنساني، حيث لا مجتمع ولا دولة ولا وطنية، يحتكم إليها الجميع من المواطنين المتساوين أمام القانون والدستور، والمؤسسات الحديثة لدولة المواطنة الدستورية.
صحيفة السفير اللبنانية