فاضل السباعي، وغمزة السفير الأمريكي كريستوفر روس!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة ــ خاص:
اخذ الكاتب السوري فاضل السباعي قرارا بالعودة إلى سورية بعد سنوات من غربته في الولايات المتحدة الأمريكية، عاد وعمره اليوم أكثر من ست وثمانين سنة، ومن لايعرف الكاتب السوري فاضل السباعي، لابد من الإشارة إلى أنه كاتب ولد في حلب ودرس الحقوق في القاهرة وتنقل في وظائف الدولة إلى أن طلب إحالته على التقاعد عام 1982 .
وتأتي شهرة الكاتب فاضل السباعي من شعره وقصصه وشخصيته التي تليق بسمعة كاتب سوري عاش مراحل النضال الوطني من أجل الاستقلال وشهد الحرب العالمية الثانية، وعاش مختلف المحطات الصعبة في تاريخ بلده سورية والوطن العربي وكل مايتعلق فيهما.
في عام أواخر الخمسينات من القرن الماضي نشر باكورة قصصه “الشوق واللقاء” ، ثم توالت مجموعاته القصصية التي صدرت في أكثر من عاصمة عربية ، ثم مالبثت تلك القصص الجميلة أن ترجمت إلى أكثر من لغة من بينها : الفرنسية، والإنكليزية ، والألمانية والروسية..
وكان السباعي عضوا مؤسسا وبارزا في اتحاد الكتاب العرب بل وأصبح فيما بعد ناشرا ، وربما تكون كتبه قد تجاوزت الثلاثين كتابا تخللتها كتب عن شخصيات عربية تاريخية ووطنية ..
يروي الكاتب السوري فاضل السباعي أنه، اتخذ قرار العودة إلى سورية بسبب الحنين، ويبدو أنه لايريد أن يسجل في تاريخه أنه ترك سورية في آخر العمر، فيما سورية تعيش أصعب أيامها!!
عاد إلى سورية، وسورية كما يصفها الكثيرون البعيدون عنها أضحت خرابا، دمرتها الحرب، ولم يعد فيها سوى المسلحين والدولة والمقاتلين من كل مكان، ومع ذلك لابد أن يعود، وعاد ..
عاد الكاتب فاضل السباعي إلى المكان الذي كان يعيش فيه ، وكانت عودته إليه، كما تقول صحيفة تشرين، كعودة السنونو المهاجر رغم تخويفات أصدقائه له من بعض المضايقات، وتنقل عنه الصحيفة كلاما مهما جاء فيه : “لم أُرِدْ أبداً أن أقيم في أميركا، ذهبت إلى هناك لأنني بقيت وحيداً في البيت، كلُّ ذرّيتي سافروا، لذلك خافت أسرتي عليّ إن بقيت وحدي، فهيّؤوا لي أسباب السفر” .
يالهذه الحرب، كم تخيفنا ، كم تجعل الغربة أكثر أمنا من أن تعيش في ظلالها ، ولكن فاضل السباعي يضيف لايهتم لهذا القول يقول صراحة: ” لم أُسعَد هناك أبداً.. اشتقتُ للنافورة وصوتها، اشتقتُ أن أضعَ كأساً لتمتلئ بمائها.. إنه أطيب ماء في العالم..”
لكنه يستدرك : ” وللحقيقة لم يكن الشوق وحده ما دفعني لأعود..”
إذن عاد فاضل السباعي إلى سورية، وهناك أشياء يريد قولها، فإذا كانت الحرب قدر سورية، فليكن، ليعش السوري في بلاده حتى لو كانت الحرب فيها وعليها، وليتعلم من الكاتب فاضل السباعي، أن ماء دمشق أطيب من كل مياه العالم .. وما يثير الانتباه أن الكاتب فاضل السباعي كان قد نشر شيئا مهما، ولم ينتبه الكثيرون إلى معناه. وربما كانت في عودته إلى دمشق رغبة في أن يحكي، أو في أن يكتب شيئا مهما للسوريين ، فماذا كتب ؟!
قبل أسابيع كتب فاضل السباعي شيئا كان يخفيه في ذاكرته، ويعود كما يخمن إلى الأسبوع الأول من شهر أيلول/ سبتمبر من العام 1995، فيروي القصة على أنه تلقى دعوة هاتفية من المركز الثقافي الأمريكي لسماع محاضرة تدور حول أسباب غياب الديمقراطية في البلاد العربية، وأنّ هذه المحاضرة ستقدّم في ثلاثة أمكنة على التوالي: اتحاد الكتّاب، والمركز الثقافي الأمريكي، و… بيت السفير الأمريكي، فكيف تفاعل الكاتب فاضل السباعي مع الموضوع ؟
يقول : “أذكر أني سألت المتصلة بي عما إذا كان بيت السفير يضمّ قاعة للمحاضرات؟ فأجابتني بنعم وهي تتّسع لخمسين من الحضور، قلت في نفسي: أدخل بيت السفير، أسمع وأتفرّج على المنزل الذي منه تُنقل المعلومات عن بلدي إلى واشنطن!”
نلاحظ أن طريقة سرد هذه الصفحة من الذكريات ، لم يكن يريد منها توجيه اتهامات أو تشكيل مواقف محددة، بل أراد أن يقدم نصا يجعل القارئ حرا في تأويله وقراءة أبعاده ، فهل يفتح تداعي الذكريات في ضميره عن أسئلة مهمة ، ولماذا كتب السباعي هذا النوع من التداعيات؟! لنتابع ماذا كتب ..
” رأيت مَن سبقني في الحضور، منهم المخرج السينمائي نبيل المالح، ورجل الأعمال رياض سيف، والإعلامي ميخائيل عيد. ( لاحظوا الانتماءات السياسية التي انتقاها من نماذج الحضور الخمسين ( يساري ديمقراطي + رجل أعمال ذو أصول إخوانية + شيوعي رسمي ) وأحرص على الإشارة إلى أنّ السفير عندما صافحني رأيته يغمزني بعينه اليمنى “غمزة”، لم أدرك معناها تلك اللحظة.
قدّموا لي مثل الباقين كأسا من عصير الأناناس. وما هي إلا لحظات حتى دُعينا إلى “قاعة المحاضرات” الصغيرة الأنيقة، لنستمع.
افتتح السفير المحاضرة بلغة عربية فصيحة، استحقّ عليها الإطراء من بعض الحاضرين. ووقف المحاضر ليتكلم، وكان عربيّا ينتمي إلى إحدى دول المنطقة، في نحو الخمسين من العمر أو يزيد، لا تملك هيئته ما يملأ به العين، ليس لأنه مكفوف البصر، (بل لأن ) إلى جانبه سيدة أمريكية، ضئيلة الجسم، تتقن الحديث بالعربية، لاحظنا أنها تقوم بأعمال السكرتاريا له، وعرفنا أيضا أنها زوجته.
أخذ المحاضر يتحدث عن غياب الديمقراطية في البلاد العربية، ويُعدّد أسبابا لها، كانت في رأيه سبعة، ما أزال أذكر منها سببين اثنين: الإسلام وأمريكا! ”
يسرد السباعي القصة بحيادية ، وفي هذه الحالة، نحن أحرار في نتعاطف مع وجهة النظر أو نبتعد عنها ، لكنه يقول :
“بعد انتهاء المحاضرة، فتحت السكرتيرة باب المناقشة، ولست أدري ما إذا كنت أول من تكلم… قلت ما خلاصته: نعم إنها أمريكا، التي تفضّل أن يتولى حكم كلّ شعب من شعوبنا، حاكمٌ فرد يكون من لابسي الخاكي، يسهل التفاهم معه من “تحت الطاولة” في الوقت الذي يعلن معاداته لها في الظاهر”.
ويضيف الكاتب فاضل السباعي:
“وضربتُ مثلا بذاك الذي أصبح زعيما في تلك الدولة العربية الكبيرة، بعد أن قلب نظام الحكم وودّع عاهلها في قصره المطلّ على البحر – بحضور السفير الأمريكي – حيث كانت باخرة تنتظر للرحيل به إلى المنفى. أذكر أني، لما أشرت إلى ذلك السفير – واسمه “المستر كافري” – ووصفته بأنه “عرّاب الانقلاب”، ارتفعت همهماتٌ صغيرة من اثنين أو ثلاثة من الحاضرين، لم أشكّ في أنها تعبّر عن الاعتراض على وجهة نظري أو بالأقلّ على وصفي للسفير بأنه عراب الانقلاب، ولم يكن هذا يومذاك بخاف على أحد، فصور الوداع المنشورة في صحف اليوم التالي بالقاهرة ..
كان عندي كثيرٌ من الكلام أودّ الإفصاح عنه، ما دعاني إلى أن أكتفي بما قلت، مشيرا إلى أني سوف أكمل حديثي بعد مداخلات الإخوة الحاضرين. ولكنّ السكرتيرة لم تفسح لي مجال القول عندما طلبت استئناف الكلام!
ولحظة انصرافي صافحني السفير – واسمه “كريستيان روس” – بشيء من الاهتمام، وقال إنه يسمع لأول مرة أنّ سفيرا من دولته كان في وداع ذلك العاهل!
وهنا في آخر عرضه لصفحة الذكريات يكتب فاضل السباعي شيئا واضحا بحق ذلك الزعيم العربي (هو يقصد جمال عبد الناصر ووثورة 23 يوليو) فيكتب قائلا :
” وأضيف هنا أنّ الزعيم الانقلابي حجب عن الملك الذي كان، راتبا يعيش منه في منفاه، وأكثر من ذلك أنه دسّ له مَن يقضي عليه بموت بطيء بيد ممرّضِه الذي جرى على أن يقوم بتدليك جسده المتورّم كلّ يوم. إنّ ما دفعني إلى سرد هذه السالفة، وقد مضى عليها إحدى وعشرون سنة، هو تلك “الغمزة” بالعين… تاركا لمن يقرأ مجال التفسير ” .