فراغات القوة العربية وصعود الجوار الإقليمي (محمد سيد رصاص)

محمد سيد رصاص *

 

بعد ما يقارب عشر سنوات على سقوط العراق بيد الاحتلال في 9 نيسان (ابريل) 2003، لم يسأل العرب أنفسهم، بعد، هذا السؤال: «ماذا خسر العرب من سقوط بلاد الرافدين؟».
لم تكن خسارة العرب خسارة لبلد انتقل عملياً إلى الخضوع لهيمنتين: أميركية وايرانية، وإنما فراغاً لقوة عربية أتاح مجالاً لقوة إقليمية لكي تنطلق بعد انكسار»البوابة الشرقية» من أجل السيطرة على ذلك البلد وعبره للتمدد في الاقليم، وهو شيء رأيناه أيضاً مع قورش الفارسي وأبنائه بين عامي 539 و525 قبل الميلاد حين احتلوا العراق والشام ومصر بعد أن أسقطوا بابل. حاول الصـفويون ذلك في القرنين الـسادس والسابع عشر وفشلوا أمام الحائط العثماني.
مع نشوب الأزمة السورية في 18 آذار (مارس) 2011 عادت سورية ملعباً للآخرين كما كانت في الخمسينات من القرن العشرين، وفقدت دورها ألإقليمي، الذي بدأ في 1 حزيران (يونيو) 1976 مع دخول القوات السورية إلى لبنان، والذي لم يشمل فقط بلاد الأرز وإنما امتد كذلك حتى حدود امتلاك القدرة الإقليمية على الإمساك بأوراق فلسطينية وتركية كردية وعراقية كردية وورقة إيرانية أتاحتها العلاقات الوثيقة مع إيران خميني – خامنئي منذ عام1979، ثم ورقة تركية منذ عام 2004 أتت من فتح دمشق بوابتها لكي تكون ممراً لاسطنبول أردوغان نحو الجنوب بعد أن فشلت أنقرة أتاتورك في الدخول إلى النادي الأوروبي إثر طرقها أبواب الغرب طوال سبعة عقود من الزمن. أنشأت الأزمة السورية فراغاً في القوة أتاح للأتراك ليس فقط مجالاً للعب أدوار يطمحون في نهايتها لتكرار تركي في دمشق لما فعلته طهران في بغداد وإنما لكي يكونوا أيضاً في وضعية تتيح لهم الإمساك بأوراق عدة في المنطقة، فلسطينية وعراقية وربما لبنانية، مثلما فعلت طهران ما بعد سقوط بلاد الرافدين.
لم تنجح اسطنبول في ذلك حتى الآن، مثلما نجحت طهران، عبر البوابة البغدادية، حين استطاعت الامتداد إلى صعدة (2004) وبيروت (2005-2008) وغزة (2007) وعدن (2010) وأسمرة (2011) والمنامة (2011). عملياً، أنشأ سقوط بغداد فراغاً في أماكن عدة من آسيا العربية أتاح لطهران الانطلاق اقليمياً، كان حائط صده يأتي من تلاقي دمشق والرياض كما جرى في لبنان بعامي 2009 و2010 قبل أن ينتهي ذلك في الشهر الأول من عام 2011 مع انفراط (معادلة س – س) ما أدى إلى سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري، أو في العراق من خلال ثالوث الرياض – دمشق – أنقرة الذي كان رافعة لـ «القائمة العراقية» في انتخابات برلمان 2010 قبل أن تتلاقى دمشق مع طهران للمرة الأولى في الموضوع العراقي وتفترق مع الرياض وأنقرة من خلال دعمها تولي المالكي الوزارة العراقية من جديد في تشرين الأول (أكتوبر) 2010. وعندما تلاقت دمشق والرياض في شباط 2007 (فبراير) عبر «اتفاقية مكة» للمصالحة بين «فتح» و»حماس» قامت طهران بتشجيع الجناح الرافض للمصالحة في حماس على انقلاب 14 حزيران (يونيو) 2007 ضد سلطة الرئيس محمود عباس. لم تستطع حماس (مع استمرار جناح رافض لذلك في داخل الحركة) الابتعاد عن طهران إلا في عام 2012 حين استندت إلى ثنائي أنقرة – القاهرة في فترة من تلاقي واشنطن مع الحركة الإخوانية ما بعد «الربيع العربي».
في الخمسينات من القرن الماضي، حصل فراغ للقوة في آسيا العربية مع غروب شمس لندن وباريس إثر الحرب العالمية الثانية: حاول الغرب الأميركي – الأوروبي ملأه من خلال «مشروع دفاع الشرق الأوسط» (1951) و»حلف بغداد» (1955) و»مشروع أيزنهاور» (1957)، وهي مشاريع كانت تهدف إلى تشكيل امتداد شرق أوسطي لحلف الأطلسي (الناتو) ضد السوفيات في فترة الحرب الباردة، وقد أريد من خلال تلك المشاريع إعطاء أدوار للجوار الإقليمي للعرب، في أنقرة وطهران، للعب دور «الشرطي الإقليمي». أفشل تلاقي القاهرة والرياض المشروعين الأول والثاني، ثم كان تنامي الدور المصري إثر حرب السويس سبباً في فشل المشروع الثالث بالتضافر مع سقوط الأسرة الهاشمية في بغداد في 14 تموز (يوليو) 1958. عملياً، كان التلاقي الأميركي – الإسرائيلي منذ عام 1964 هادفاً إلى كسر المحاولة المصرية لملء فراغ القوة في آسيا العربية، بالتحالف بين عبدالناصر وموسكو، وهو ما تحقق عملياً من خلال حرب 1967 التي أنشأت انكفاء مصرياً في عهدي الرئيسين السادات ومبارك عن آسيا العربية غير مسبوق أيام الفراعنة، ولم يكن بالإمكان تعويضه إلا عبر تلاقي الرياض ودمشق في فترة (1975-2005) ثم (2009-2010).
بشكل مماثل لحالة عراق 2003 وسورية 2011 أنشأ السودان المأزوم منذ نشوئه عبر استقلال 1956 حالة من فراغ القوة، كانت مصر القوية في عهد عبدالناصر حائطاً لصد تبعاته ولملء فراغاته، وهو ما استمر في عهد السادات الذي عوّض انكفاء مصر عن آسيا العربية بإفراط في الانشغال بالشؤون السودانية إلى درجة الانخراط المباشر في تفشيل ثلاثة انقلابات ضد نميري في أعوام 1971 و 1975 و1976، كما كانت العلاقات المصرية القوية مع إثيوبيا بمثابة الخيمة لاتفاقية أديس أبابا حول جنوب السودان في عام 1972 بين الخرطوم وحركة التمرد الجنوبية. عندما انكفأت مصر في عهد مبارك حتى عن مشاكل جنوبها في حوض النيل كان انفجار المشكلة الجنوبية السودانية من جديد عام 1983 ثم أزمة دارفور عام 2003 مرفوقاً بأدوار أخذتها دول الجوار الأفريقي، بتشجيع من واشنطن، في الأزمات السودانية لعبتها دول مثل إثيوبية وأوغندا في الأزمة الجنوبية وتشاد ونيجيريا في موضوع دارفور، مع غياب مصري. وفي الصومال المأزوم منذ عام 1991 حصل شيء مماثل للسودان ملأت فراغ قوته الدولة الإثيوبية، وعندما عجزت جاءت قوات حفظ السلام الأفريقية مع غياب عربي.
في معركة اليرموك ( 6آب/ أغسطس 636 ميلادية) تم تدشين قوة ذاتية إقليمية أتاحت المجال ليس فقط لفتح العراق ومصر، وإنما أيضاً لإسقاط الدولة الساسانية ثم لحصار القسطنطينية: عندما حصل الفراغ في هذه القوة بعد تسعة قرون عاد الجوار الإقليمي الى القوة وبحيث كانت معركة جالديران في عام 1514 بين العثماني سليم الأول والصفوي إسماعيل قتالاً لتقرير من سيحكم المنطقة في القرون الأربعة التالية.

* كاتب سوري

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى