فضيحة الأسماء المستعارة (عبده وازن)
عبده وازن
يختارون اسماء مستعارة ليكتبوا بها ويتواروا خلفها كما لو انها أقنعة لهم، تسقط أو تبقى. ومهما بدا هؤلاء الكتّاب، الكبار في أحيان، «مخاتلين» و«خداعين» فهم يعبرون عن رغبة حقيقية في التخفي والهرب او اللعب العبثي … بعضهم سرعان ما يكشف أمرة بنفسه وبعضهم يكشفهم الآخرون الذين قد يكونون القراء أو النقاد… لكنّ بعضاً آخر منهم يظل مغفول الاسم و «غفلاً» كما يقول المعجم.
إنهم الكتّاب «الاستعاريون» إن امكن الوصف، الكتّاب الذين يوقّعون كتبهم بأسماء مستعارة، لأسباب وأسباب، هرباً من أعين السلطة والرقابة أو احتراساً من أخطار تحيق بهم أو بحثاً عن فضيحة هي اقرب الى اللهو الذي لا يخلو من سخرية سوداء.
هذه الظاهرة التي تختفي حينا ثم تعاود الظهور، استوقفت أخيراً صحيفة «ذي اندبندينت» البريطانية التي وصفت السنة 2014 بـ «سنة الاسماء المستعارة» أدبياً، وذريعتها كتب غير قليلة عمد اصحابها الى توقيعها بأسماء مختلقة أو مستعارة. هذه الظاهرة ليست وقفاً على بلد دون سواه ولا على لغة دون غيرها. وهي راجت كثيراً في ظل الانظمة الديكتاتورية والقمعية وفي حقبات الاحتلال والانتداب وفي الحروب على اختلافها. كان الكتاب المناضلون والثوريون يتوارون وراء اسماء مجهولة لئلا يقعوا في الاسر ويخضعوا للتعذيب أو يُقادوا الى حتفهم. والأسماء كثيرة في هذا الصدد. هؤلاء لم يُخفوا اسماءهم الحقيقية إلا قهراً وقسراً، فهذا خيارهم الوحيد للمضي في المواجهة. وهنا لا بد من تذكر الروائي الجزائري الفرنكوفوني محمد مولسهول الذي يوقّع رواياته باسم انثوي هو ياسمينة خضرا، وقد اختاره ايام كان ضابطاً في الجيش إبان المواجهات مع الاصوليين.
إلا ان فئة أخرى اختارت هذه اللعبة «الاستعارية» علانية وجهاراً وشاءت ان تظهر تحت الاسماء المستعارة كما لو أنها اسماء حقيقية أو اسماء تعبر عن حقيقتها الذاتية. هؤلاء الكتاب وبعضهم شعراء، بدلوا اسماءهم رغبة في ترسيخ هويتهم الادبية وليس في إنكارها، وفي إضفاء طابع وجودي وثقافي وإيديولوجي عليها. وهنا يبرز اسم الشاعر ادونيس الذي لم ينكر مرة اسمه الحقيقي علي احمد سعيد. ولعلّ كتّاباً آخرين فضلوا اسماء على اسمائهم الحقيقية التي لم يرضوا عنها ولم يألفوها، وهؤلاء يمتلئ تاريخ الادب بهم.
اما الظاهرة الاشد فتنة والتباساً فتتمثل في الكتّاب الذين يخفون اسماءهم الحقيقية ويتبنون أخرى مستعارة يوقّعون بها اعمالهم «خادعين» القراء اولاً ثم انفسهم. ومنهم من يوقّعون بالاسمين، الحقيقي والمستعار، وغايتهم الاثارة والفضيحة. هنا لا يمكن تناسي لعبة الروائي الفرنسي الكبير رومان رولان الذي شغل الوسط الادبي الفرنسي بفوزه مرتين بجائزة غونكور الراقية، مرة باسمه الحقيقي وأخرى باسمه المستعار الذي كان مجهولاً تماماً. ولم ينتبه النقاد ولا القراء الى ان الاسمين يعودان الى كاتب واحد. وكانت هذه بمثابة فضيحة أدبية.
إلا ان بعض الكتاب «الاستعاريين» لا يتوانون عن كشف لعبتهم، لا سيما بعد ان يشعروا ان الاسم المستعار بات عبئاً عليهم، بخاصة إذا نال حظوة لدى النقاد والقراء. يتخلى هؤلاء عن الاسم المستعار نهائياً ويعودون الى اسمائهم «سالمين» بعد هذه المغامرة أو المخاطرة. ليس من السهل ان يتخلى كاتب عن عمل يلقى نجاحاً تحت اسم مستعار. هذه اللعبة نجح بها الروائي ربيع جابر عندما اصدر روايته «الفراشات الزرقاء» باسم نور خاطر، فعرفت الرواية رواجاً ولقيت ترحاباً نقدياً، وما كان له إلا ان يفضح اللعبة حرصاً على روايته واسمه. لكنّ رواية جميلة صدرت باسم مجهول هو هاجر المكي عنوانها «غير وغير» (المركز الثقافي العربي) وما زال الاسم مجهولاً وقيل إن صاحبتها هي الروائية السعودية رجاء عالم. وفي هذا القبيل لم تكشف حتى الآن هوية الروائية السعودية صبا الحرز صاحبة رواية «الآخرون» الجريئة جداً.
لعل الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا قد يكون أشدّ «الاستعاريين» غموضاً وإلغازاً، فهو لم يوقّع فقط بأسماء مستعارة كثيرة بل خلق عبر الاسماء المستعارة التي اختارها أشخاصاً منفصلين عنه او «قرناء» أو «بدلاء» له ومنحهم طبائع وأمزجة وخصائص لغوية وأسلوبية تختلف بين واحدهم والآخر كما تختلف عنه أيضاً. هذا الشاعر الغريب الاطوار والميول لم يسع الى التخفي وراء اقنعة بل شاء «بدائله» هؤلاء اشخاصاً كأنهم من لحم ودم، يحاورهم ويسامرهم وينافسهم في الكتابة.
إنها لظاهرة غريبة حقاً ان يتخلى كاتب (أو كاتبة) عن اسمه ويوقّع باسم مستعار، باسم رجل أو امرأة يصبح في أحيان صديقه او خصمه، أو شخصية من شخصياته. هل هي حال انفصام؟ لا جواب لديّ. هل هي بحث عن هوية ذاتية اخرى؟ لا جواب. لكنها تظلّ لعبة جميلة فيها من العبث ما فيها من السخرية والحقيقة المرّة.
صحيفة الحياة اللندنية