فــي كوالــيـس الشـــرق الأدنــى (2) البروسـيون يتغلـبـون على اليهـود عبد الناصر يبحث عن حل وجنرالات إسرائيل يحثون على حرب (اريك رولو)
اريك رولو
ترجمة د. داليا سعودي
على الصوت المُصمِّ للمدافع المضادة للطائرات، استيقظتُ في ذلك الصباح من يوم الخامس من يونيو (حزيران) 1967 في القاهرة. كانت تلك هي بداية حرب الأيام الستة، التي سماها الجنرال ديان بذلك الاسم، لا بسبب المدة التي استغرقتها فحسب، وإنما أيضاً للتذكير بأن الرب قد خلق العالم في مدة زمنية مماثلة، فيما يشي بنزعة روحانية، لا تخلو من جنون العظمة. فبالفعل، احتل الجيش اليهودي في غمضة عين أراضي عربية شاسعة، تضم سيناء المصرية، وقطاع غزة، التي كانت تديرها حكومة القاهرة، والضفة الغربية التابعة للمملكة الهاشمية، بالإضافة إلى القدس الشرقية وهضبة الجولان السورية. ولم يكن أحد يدري بعدُ أن تلك الحرب الخاطفة ستغير بصورة عميقة من طبيعة الدولة اليهودية، وأنها ستخلق شعوراً بالهوية داخل الأوساط اليهودية، وأنها ستضعف من الأنظمة القومية العربية والتنظيمات العلمانية اليسارية لصالح البلدان المحافظة، وأنها ستحدث انطلاقة غير مسبوقة للحركات الإسلامية، وستسجل بدايات الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، الأمر الذي سهله أفول الاتحاد السوفياتي.
أهمية تلك الحرب الخاطفة التي لم تكن محليةً إلا ظاهراً، وهذا ما يفسر أيضاً ذلك الحشد الكبير من الأساطير والأباطيل والألغاز، التي خلفتها تلك الحرب وغذتها جزئياً إلى يومنا هذا. وفضلاً عن الوقائع الأكيدة التي كشف عنها مؤرخون، من بينهم مؤرخون إسرائيليون، استناداً إلى السجلات الرسمية الخاصة بالقوى المعنية، وإلى شهادات الشخصيات الفاعلة في الأحداث أو الشاهدة عليها، سأضيف شهادتي المتواضعة، المبنية على تحقيقات أجريتها في إسرائيل وفي العديد من البلدان العربية، قبل النزاع وفي أثنائه وفي ما بعده.
كان ذلك الخامس من يونيو (حزيران) 1967 هو أول يوم أجازة آخذها منذ وصولي إلى القاهرة، حيث ظللتُ طوال أسابيع عدة، أُطلِعُ قراء صحيفة «لوموند»، يوماً بيوم، على تطورات الأزمة الناشبة بين إسرائيل وجيرانها، والتي كان من المحتمل أن تفضي إلى نزاع مسلح. وكان يوم الراحة ذاك قد بدا ممكناً نظراً لما لاح من احتمال التوصل إلى تسوية بالتراضي، وهو ما كان يعني استبعاد أي مواجهة عسكرية وشيكة. وقد بنيتُ آمالي على المعلومات التي أمدني بها في الثالث من يونيو (حزيران)، أي قبل يومين من بداية الحرب، تشارلز يوست (Charles Yost) مبعوث الرئيس جونسون لإدارة الأزمة بالتعاون مع السفير الأميركي المعين حديثاً في منصبه. وقد وافق يوست على منحي هذا اللقاء بناءً على وساطة أندريه فونتين، (André Fontaine) ، رئيس تحرير صحيفة «لوموند»، الذي كانت تربطه به علاقة صداقة. وكنا قد اتفقنا على أن تصريحاته ستظل سرية تماماً إلى اليوم الذي يمكن نشرها فيه بغير خسائر.
و قد فاجأتني صراحةُ تشارلز يوست، ذلك السفير المحنك، الذي سيصير في ما بعد ممثلاً للولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة، إذ عرض عليَّ ما تم خلال محادثاته مع وزير الخارجية المصري آنذاك، محمود رياض، وخلال الحديث – الأكثر حسماً- الذي تم عشية اليوم السابق، بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والمبعوث الخاص للرئيس جونسون، روبرت أندرسون (Robert Anderson) ، الذي كان يعمل وزيراً في السابق، وتربطه علاقة صداقة بالريّس.
و كان الأخير قد أعرب له عن رغبته في تفادي نزاع مسلح واقترح أن يرسل إلى واشنطن يوم الأربعاء الموافق السابع من يونيو (حزيران) نائب رئيس الجمهورية، زكريا محيي الدين، لاستكشاف إمكانيات التوصل إلى تسوية مُرضية للطرفين، مع موشي ديان (Moshe Dayan) الذي كان قد عُين لتوه وزيراً لدفاع إسرائيل، مع وساطة الأميركيين عند الاقتضاء. وإلى أن يتحقق ذلك، فسيغمض عينيه عن عبورِ سفن الشحن الإسرائيلية، ذات الطبيعة غير الاستراتيجية، باتجاه ميناء إيلات الإسرائيلي عبر مضيقي تيران، على حدود سيناء، وهما المضيقان اللذان تسبب إغلاقهما، الذي نددت به الدولة اليهودية، في اشتعال الأزمة الإسرائيلية المصرية.
و قد أكد عبد الناصر، في خطاب أرسله في اليوم التالي إلى الرئيس جونسون، على فحوى المقترحات التي قدمها إلى المبعوث الأميركي، مضيفاً انه مستعد لاستقبال نائب رئيس الولايات المتحدة، هيوبرت همفري (Hubert Humphrey)، لكي يعرض عليه وجهة النظر المصرية في الأزمة الحالية، بل لكي ينظر أيضاً في تسوية شاملة للنزاع الإسرائيلي العربي، وقد أكد بقوة اعتزامه تسويته سلمياً. وفي اليوم نفسه، بعث روبرت أندرسون بتقرير إلى الرئيس جونسون يؤيد فيه أقوال عبد الناصر. (وقد تم نشر هذين النصين اللذين كانا محفوظين ضمن سجلات وزارة الخارجية بعد ذلك بعشرين عاماً، كما يقضي القانون). وعلى سبيل التهدئة، انتقد عبد الناصر تصريحات أحمد الشقيري، الذي كان في ذلك الوقت رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي التصريحات التي دعا فيها إلى تدمير إسرائيل، وكان عبد الناصر قد حرمه قبل ذلك من قيادة الوحدات الفلسطينية المسلحة، التي وضعها تحت إشراف ضباط مصريين حصرياً.
في ذلك الوقت، كنتُ أجهل أمر الحيلة التي أقدم عليها الرئيس جونسون، الذي طلب من الرئيس عبد الناصر عدم المبادرة بالنزاع المسلح، بينما كان قد أعطى لإسرائيل موافقته على شن هجوم ضد مصر. هكذا، خوَّل عنصر المفاجأة للدولة اليهودية تفوقاً حاسماً على خصومها العرب. ووفقاً للأعمال المتميزة التي قدمها مختلف المؤرخين، مثل أعمال الأميركييْن ويليام ب. كوانت (William B. Quandt) ، والسفير ريتشارد باركر (Richard Parker) ، فضلاً عن أعمال المؤرخيْن الإسرائيلييْن، مايكل ب. أورين (Michael B. Oren) ، وتوم سيغيف (Tom Segev) ، كان الرئيس الأميركي قد أعطى قبل ذلك بأيام الضوء الأخضر (أو البرتقالي) لـ«حكومة القدس»، شريطة ألا تكون الولايات المتحدة طرفاً فاعلاً في النزاع. وقد بلغ التواطؤ بين البلدين حداً كبيراً حتى أن الرئيس جونسون قد أدخل بعض التعديلات في خطاب كان قد عرضه عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول (Levi Eshkol) قبل أن يلقيه في التاسع والعشرين من مايو (أيار) في البرلمان.
يبقى أن النتائج الغالب عليها التفاؤل التي خلص إليها تشارلز يوست (الذي كان يجهل بالطبع حقيقة الخطاب المخادع الخاص بالبيت الأبيض) كانت تبدو مقبولة ظاهراً لا سيما انها كانت تتفق مع قناعاتي. وكنت مقتنعاً أن مصر كانت راغبة – حتى أكثر من إسرائيل – في تفادي الحرب.
إن محادثاتي السابقة مع عبد الناصر، والكلام الذي كنتُ أسمعه من أفراد في محيطه المباشر، لا سيما محمد حسنين هيكل، والمواقف الرامية إلى التهدئة التي اتخذها الريِّس في مؤتمرات «القمة» العربية التي نظمها في عامي 1964 و1965، والهدوء الذي حافظ على استتبابه طوال أحد عشر عاماً على الحدود المصرية الإسرائيلية، التي منع تسلل رجال الكوماندوز الفلسطينيين إليها، كل ذلك كان يؤيد رأيي: وهو أن الرئيس المصري، إدراكاً منه لتفوق إسرائيل عسكرياً، كان يرى – وفقاً للمقربين له – انه لا يمكن تحقيق توازن بين القوى قبل مرور عشر سنوات. ففي الخطاب الذي ألقاه في 23 ديسمبر (كانون أول) 1963، ندد عبد الناصر بالتصريحات العنترية والمزايدات الكلامية التي أطلقتها الدول «الشقيقة»، فهتف قائلاً: «…إحنا النهارده ما نقدرش أبداً نستخدم القوة، وحنقول لكم بالصدق… ما نقدرش النهارده نستخدم القوة لأن ظروفنا لا تناسب… يعنى إن أنا لا أستحي أبداً إن إذا كنت ما أقدرش أحارب إن أنا آجي أقول لكم ما أقدرش أحارب، إذا كنت ما أقدرش أحارب وأطلع أحارب أبقى باوديكم فى داهية… وأودي البلد بتاعتي فى داهية…»
هكذا نجح عبد الناصر في تهدئة حميَّة الأصوات الداعية للحرب بين نظرائه العرب الذين كانت ديماغوجيتهم لا يعدلها سوى عجزهم. وفي الفترة ذاتها، كتب هيكل في صحيفة «الأهرام»، مستلهماً رأي الرئيس على الأرجح، انه يجدر التحلي بالواقعية وتفهم أن مهاجمة إسرائيل إنما تعني إعلان الحرب على الولايات المتحدة وبريطانيا، حليفتَي الدولة اليهودية. وفي جميع الأحوال، كان لمصر أولويات أخرى: مثل إدارة علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة، والتحديات الناجمة عن تعثرات المشروع الوحدوي العربي، والإصلاحات الكبرى المتخذة على اثر فشل الوحدة بين سوريا ومصر في 1961، وتشييد السد العالي العملاق بأسوان. إضافةً إلى ذلك، لم يكن عبد الناصر ليسمح لنفسه بسحب صفوة قواته من اليمن حيث كانت تدافع منذ العام 1962 عن الجمهورية المؤسسة في العام نفسه، والتي كانت تتهددها القبائل الموالية للملكية المدعومة من قِبل المملكة العربية السعودية. وكانت تلك الوحدات تمثل ثلث مجموع القوات المسلحة المصرية. وهكذا، طوال عشر سنوات، منذ عام 1956 وحتى 1966، توارت المشكلة الإسرائيلية العربية من على الساحة السياسية المصرية.
كان مما يدعو للدهشة أن يُرى الرئيس المصري، رغم طبيعته الحذرة والمتحسبة للعواقب، وهو يرتكب أثناء أزمة 1967 سلسلةً من الحسابات الخاطئة، ويتخذ إجراءات في غير موضعها، ويلقي خطابات عدوانية، اعتبرت بمثابة أعمال استفزازية في إسرائيل. بل إن بعض معاوني الرئيس المقربين قد أسروا إليَّ بأنهم لم يعد بإمكانهم فهم مسلكه. صحيح أنه كان لديه ما يؤرق خاطره منذ بدايات العام بشأن نوايا إسرائيل إزاء سوريا. ألم يعلن الجنرال إسحق رابين، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الإسرائيلية، أنه سيشن هجوماً خاطفاً لاحتلال دمشق وإطاحة الحكومة القائمة فيها إذا لم تكف هذه الأخيرة عن التحرش بالدولة اليهودية؟
وقد كشفت السجلاتُ الخاصة بمجلس الوزراء الإسرائيلي بالفعل أن رابين قد طلب عدة مرات موافقة الحكومة للانتقال بنواياه إلى حيز التنفيذ، دون أن يحصل عليها.
وقد تعددت الإشكالات بين البلدين، بل انتهت إحدى المعارك الجوية بتدمير عدة طائرات سورية. وقد دأبت الجماعة الحاكمة في دمشق، المكونة من الجناح الأكثر تطرفاً في حزب البعث، على إعلان نيتها «تدمير الكيان الصهيوني»، وعلى المناداة لذلك «بحرب تحرير وطنية»، وعلى السماح بتسلل المخربين الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية، ومن أولئك أعضاء الحركة السرية التي يقودها ياسر عرفات، والمسماة بحركة «فتح». إضافةً إلى ذلك، دأب حرس الحدود السوريون على إطلاق النار على المزارعين الإسرائيليين الذين يجازفون بالدخول إلى المنطقة منزوعة السلاح بين البلدين. لكن لم تكن التوترات المتصاعدة منذ يناير (كانون ثاني) 1967 تُعزى إلى السوريين وحدهم، مثلما كان يعتقد الجميع ثقةً منهم في المعلومات التي كانت تُبث في القدس، والتي كانت تعتبر أجدر بالثقة من تلك التي كانت تبثها دمشق. كان لا بد أن تمر سنوات طويلة قبل أن يفضي الجنرال ديان باعتراف جسيم، فقد أقر بأن الدولة اليهودية كانت مذنبة في «أكثر من 80 % من المواجهات المسلحة» بإرسالها جرارات لحرث الأراضي في المنطقة المنزوعة السلاح، فيما يمثل خرقاً لاتفاقات الهدنة. وكان الجنود الذين يرتدون أزياء مدنية ويقودون الجرارات يتلقون الأوامر بمواصلة تقدمهم إلى أن يقرر السوريون، من فرط الغيظ، فتح النار؛ ليأتي من ثَم الرد الانتقامي من قبل مدفعية الدولة اليهودية وطيرانها. وأضاف الجنرال ديان قائلاً: «كنا نعتقد بسذاجة أن تلك المعارك المتكررة ستؤدي في النهاية إلى إرغام دمشق على الإقرار عملياً بالسيادة الإسرائيلية على المنطقة «منزوعة السلاح».
وقد اعتقد جمال عبد الناصر أن التهديدات الإسرائيلية تعد جزءاً لا يتجزأ من مؤامرة أوسع نطاقاً. وإذ نبهته أجهزة مخابرات كل من دمشق وموسكو حول تركز القوات اليهودية على الحدود السورية – وهي معلومة تبين أنها عارية من الصحة – كان الرئيس يخشى هجوماً على سوريا من شأنه جر مصر إلى حرب خاسرة من البداية، ويتبعها سقوط النظامين الحاكمين في دمشق والقاهرة، طبقاً لما ترجوه واشنطن وتتمناه.
كانت الولايات المتحدة تتهم العاصمتين العربيتين بالتبعية للاتحاد السوفياتي، وبالسعي إلى تقويض الحكومات الموالية لأميركا في المنطقة؛ وكانوا يعتبون بخاصة على ناصر لمساعدته حركات التحرر الوطني في العالم أجمع، وتنديده بالتدخلات العسكرية الأميركية في كل من الكونغو وسانت دومنغو وفيتنام، ودعمه المتعدد الأشكال لجمهورية اليمن، التي كانت تهدد استقرار المملكة العربية السعودية في الجوار، وغيرها من البلدان النفطية الأخرى، الحليفة للولايات المتحدة.
كانت واشنطن قلقة أيضاً من إقرار «الاشتراكية العلمية» في وادي النيل، ومن الإفراج عن جميع الشيوعيين المعتقلين، ومن سلسلة عمليات التأميم التي نهبت المؤسسات الغربية. خلاصة القول، كانت الحملة المناهضة للاستعمار التي شنتها القاهرة قد وصلت إلى أبعاد تتجاوز طاقة الاحتمال، على حد ما اعترف به محمد حسنين هيكل ببصيرة واعية في سلسلة من المقالات التي نشرتها صحيفة الأهرام مع بداية الأزمة.
من جانبه، كان عبد الناصر يندد بمكائد الإمبريالية الأميركية ضد التنظيمات القومية والتقدمية العربية لصالح الحركات الإسلاموية التي ترعاها الحكومات المحافظة. وكان يرتاب في تمويل واشنطن، بواسطة المملكة العربية السعودية، للإخوان المسلمين، الذين دأبوا باستمرار على حياكة المؤامرات الرامية لإطاحته. وكان قد فسر قرار واشنطن بالامتناع في 1965 عن تقديم المعونة الغذائية التي كانت قد أتاحت لمصر طوال عشرة أعوام اقتصاد مليار دولار من العملة الصعبة، على أنه إعلان للحرب. فلقد كانت تلك العقوبة تزعزع استقرار اقتصاد البلاد وهو ما كان يخلخل بالتالي نظام الحكم نفسه. وقد اكتسبت فرضية المؤامرة معقولية متزايدة بعد الانقلاب الذي قاد في إبريل (نيسان) 1967 مجموعة من الضباط الموالين لأميركا إلى سدة الحكم في اليونان. إذ لم يكن ثمة شك في أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية (C.I.A)، ما كانت لتتردد في التخلص من حكومات أو اغتيال حكام أجانب يُستشف عداؤهم للولايات المتحدة.
كما دفعت أسبابٌ أخرى بعبد الناصر إلى اتخاذ إجراءات غير مناسبة: إذ لم تكن وسائل إعلام الدول المحافظة تكف عن اتهامه بالسلبية إزاء إسرائيل، بل كانت أحياناً ما تتهمه بالتواطؤ معها: إذ كانت تُنكر عليه عدم رغبته بـ«تحرير فلسطين» بالقوة، وعدم الإقدام على أي فعل لمساعدة سوريا رغم اتفاقية الدفاع المشترك التي كانت تربط بين البلدين، وبالسماح بعبور السفن الإسرائيلية عبر مضيقي تيران، رغم كونهما يقعان في المياه الإقليمية المصرية. وفي واقع الأمر، كانت إسرائيل قد اكتسبت حق العبور في مقابل انسحاب جيشها من سيناء عقب حرب 1956، وهو الاتفاق الذي كانت الأمم المتحدة قد أقرته.
إضافةً إلى ذلك، كانت تساور عبد الناصر شكوك عميقة إزاء سوريا البعثية التي كان يخشى مسلكها المتهور الذي قد يجره إلى الحرب مرغماً. وكان قد أبرم اتفاقية الدفاع المشترك مع دمشق وفي ذهنه هدفان: من ناحية، ردع إسرائيل عن العدوان على سوريا، ومن ناحية أخرى، حمل سوريا على انتهاج مسلك معتدل كي لا تكون عرضة لمخالب «صقور» الدولة العبرية. وقد وقَّع عبد الناصر الاتفاقية بعد أن طلب من دمشق الكف عن أي تعاون مع المقاتلين الفلسطينيين، ومنعهم بكل الوسائل من التسلل إلى إسرائيل.
في تلك الفترة، كان عبد الناصر يعتبر ياسر عرفات بمثابة شخص مستفز وخطير، شغله الوحيد الشاغل هو إشعال الحرب بين إسرائيل والعرب. ولتفادي أي انفلات، اقترح ناصر إخضاع الجيشين لقيادة مصرية؛ لكن السوريين واجهوا المطلبيْن برفض قاطع. وأخطأ هو إذ تنازل عن مطلبيه.
و قد أدت الإجراءات التي اتخذها لاحقاً بغية تخويف إسرائيل، إلى نتيجة عكسية لتلك المرجوة. فما كان إرسال «الريس» لفرقة المشاة – التي استعرضها جهاراً نهاراً في شوارع القاهرة!- ليؤخذ على محمل الجد، لو لم يكن قد طلب بعد ذلك بعدة أيام «إعادة انتشار» قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة (UNEF)، المرابضة بين البلدين منذ نهاية حرب 1956. لكنه مع ذلك قد احتاط بالامتناع عن طلب انسحاب تلك القوات من شرم الشيخ التي كانت تتحكم في مدخل مضيقيْ تيران. فقد كان لا ريب يأمل في أن يعرض المسؤولون في الأمم المتحدة وساطتهم لكي يقنعوه بالعدول عن موقفه. لكن حساباته كانت خاطئة،: فعلى عكس المتوقع، أخبره الأمين العام للأمم المتحدة، يو ثانت (U Thant)، مباشرةً وبدون عرض المسألة على مجلس الأمن، على عكس ما كان يجدر به أن يفعل، بأنه لن يعيد نشر القوات التابعة للمنظمة الدولية وإنما سيسحبها جميعا. فإما كل شيء أو لا شيء، هكذا كان قوله له باختصار. وما من تفسير حتى الآن لتعجُّل الأمين العام للأمم المتحدة، لا سيما أن إسرائيل رفضت استقبال «قوات حفظ السلام» على الجانب الخاص بها من الحدود. فرأى عبد الناصر عندئذٍ- كي يحفظ ماء وجهه – أن استعادة الوضع السابق يجبره على استعادة السيطرة على مضيقي تيران، بعد أن أُجبِرت مصرُ على التخلي عنها في 1957، تحت ضغط كل من إسرائيل والولايات المتحدة. وكان إغلاق المضيقين، الذي يخرق الاتفاق المبرم تحت رعاية الأمم المتحدة، يضع إسرائيل أمام خيارين: إما السعي إلى تسوية ترضي الطرفين، أو الرد بإعلان الحرب. وقد عمدت هيئة أركان الدولة العبرية العامة إلى حشد المئات من الآلاف من جنود الاحتياط حتى قبل أن يتم إغلاق المضيقين.
رغم كل شيء، لم تكن تلك هي النتيجة الظاهرة، على حد ما لاحظتُ أثناء تحقيق أجريتُه في إسرائيل في نهاية عام 1965 وبداية عام 1966. كان الهدوء يخيم على كامل الحدود، وبدا نجم «معسكر السلام» في صعود منذ فشل الهجوم الذي شنته الدولة العبرية على ميناء السويس في عام 1956، بالتواطؤ مع فرنسا والمملكة المتحدة. لم تتم إطاحة عبد الناصر، ولا تم ضم سيناء إلى الدولة اليهودية، وتحت ضغط الرئيس أيزنهاور، اضطُر الجيش اليهودي إلى العودة إلى دياره بخفي حُنين، وقد مُنح ترضيةً لا قيمة لها، تتمثل في التصريح للسفن الإسرائيلية بالإبحار عبر مضيقي تيران، الواقعين في داخل المياه الإقليمية المصرية.
كان ذلك «النجاح» الرمزي، الذي مُنح بن غوريون إياه ليُحفظ له ماء وجهه، يعد تافهاً نظراً لأن 2 % فقط من تجارة إسرائيل كانت تتم عبر ذلك الممر المائي للوصول إلى ميناء إيلات المتواضع، إذ ظلت حيفا هي الرئة الأساسية للدولة اليهودية. من جانب آخر، ندد معلقون إسرائيليون بالتواطؤ العسكري الذي أُرسي في تلك الواقعة مع اثنتين من القوى الغربية التي يُنظر إليها عبر العالم العربي على أنها قوى إمبريالية.
أثناء الحملة الانتخابية التي شهدتُها في خريف عام 1965، لم يُقْدم أيُّ حزب سياسي، بما في ذلك حزب بن غوريون، المسمى بحزب رافي Rafi – والمنشق عن حزب العمل – على امتداح غزو السويس. علاوة على ذلك، هاجمت تنظيمات يسارية مفهوم «الحرب الوقائية» برمته، وهو ما عُرفت به مغامرة عام 1956. وكان الرئيس آيزنهاور حين يشير إلى ذلك المفهوم يتحدث عنه وكأنه فاحشة بذيئة. وهو الذي صاح في إحدى لحظات غضبه قائلاً: «الحرب الوقائية اخترعها هتلر؛ بصراحة، لن أستمع بجدية إلى أي شخص يأتيني ليحدثني عنها…». ولم يمتنع بعض الكتاب عن التذكير بأن محاكمات نورمبرغ (Nuremberg)، التي حاكمت القادة النازيين، كانت قد قضت بأن: «ابتداء حرب هجومية يمثل جريمة دولية كبرى»؛ وقد أشار إليها ميثاق الأمم المتحدة بوصفها «جريمة حرب». لهذا السبب، على الأرجح، أعلنت إسرائيل، في الخامس من يونيو (حزيران) 1967، في اللحظة نفسها التي ابتدأت فيها الأعمال الحربية، انها كانت قد تعرضت لعدوان مصري اضطُرت على أثره للرد.
كان الجو العام في إسرائيل يميل إلى التهدئة في عامي 1965 و1966. وكانت السياسة الانتقامية (التي غالباً ما كانت تتسم بوحشية دامية)، التي كان يمارسها بن غوريون وأتباعه (الجنرالات ديان وشارون وشيمون بيريز وغيرهم)، قد لقيت جزاءها عبر هزيمةِ حزبِهم في الانتخابات التشريعية ؛ وفي المقابل، تم انتخابُ أحد أقطاب «معسكر السلام»، يوري أڤنيري (Uri Avnery)، المؤيد لفكرة تقديم تنازلات للعرب والفلسطينيين، وهو ما مثل مفاجأة عامة. وقد شكَّل حزب العمل، الذي يرأسه ليڤي أشكول (Levi Eshkol)، رجل الحوار والحلول الوسط، مع التنظيمات الدينية، التي كانت في ذلك الوقت تتسم بالاعتدال ذاته، ائتلافاً قضى على التوترات على الحدود.
أما أبا إيبان (Abba Eban)، وزير الخارجية، فقد استعاد على عهدته رأياً شائعاً للغاية، إذ صرح قائلاً: «لقد أعلنتْ جموع الناخبين موقفها بوضوح ضد المغامرات العسكرية ولصالح التوافق مع مقتضيات الأمن والتعايش السلمي».
كان على المرء أن يقطع شارع ديزنجوف (Dizengoff) – الذي يعد بمثابة شانزليزيه تل أبيب – ليلحظ اتساع مدى الانفراجة. كانت كثافة ارتياد المحلات، المكتظة بالبضائع القادمة من شتى أنحاء العالم وبالكماليات الفاخرة، وزحام المطاعم والمقاهي التي لا تكاد تفرغ من روادها، تشهد بميلاد مجتمع استهلاكي جديد، في بلد كان التقشف فيه هو القاعدة التي واكبت تدفق المهاجرين صبيحة حرب العام 1948. في ذلك الشارع، كان هناك بار ومطعم، يسمى «كافيه كاليفورنيا»، يرتاده بانتظام البوهيميون والمشاهير، من صحافيين وكتاب وفنانين وسينمائيين ورجال سياسة، بالإضافة إلى أؤلئك الذين كانوا يطمحون في الانضمام إلى النُخب. كان يتسيّد المكانَ مالكُ المطعم، أبي ناتان (Abie Nathan)، وهو أحد أكثر رجال البلد شعبيةً. كان هذا «السفرديم» الودود، الذي ولد في إيران ونشأ في الهند، يمر بين رواد مطعمه، بقامته المتوسطة وبشرته البرونزية وابتسامته الجذابة على شفتيه، فيقترح عليهم أطباقاً خفيفةً شهية، كان يطهوها لهم أحياناً بنفسه، ناشراً بينهم البهجة بنوادره المضحكة، الممتزجة أحياناً بأحاديث السياسة.
كان بين رواد مطعم «كاليفورنيا» رجلان متألقان بفضل رفضهما الامتثال للأعراف: أولهما هو «الأشكنازي» يوري أڤنيري (Uri Avnery)، المتحدر من أصول ألمانية، أما الآخر فهو «السفرديم» شالوم كوهين (Shalom Cohen)، الذي تحدثت عنه سالفاً. كانا يديران معاً مجلة «هاعولام هازيه» ( Haolam Hazé ) الأسبوعية (ومعنى اسمها «هذا العالم»)، التي كان يكرهها المحافظون الذين كانوا يصفونها بأنها مطبوعة «إباحية». وفي الواقع، كانت صور النساء العاريات التي تنشرها تلك المجلة مخصصة لاجتذاب فئة الشباب غير المسيَّسين، المحسوبين على أيديولوجية النظام القائم وسياسته. كانت مجلة «هاعولام هازيه» قد ساندت الشعب الجزائري في كفاحه من أجل تحقيق الاستقلال، كما عارضت منذ البداية العدوان على السويس العام 1956، ونددت بتواطؤ الحكومة الإسرائيلية مع «الإمبريالية»، وبتحالفها مع نظام جنوب أفريقيا المنتهج لسياسة الفصل العنصري، كما دعت إلى التحاق إسرائيل بحركة دول عدم الانحياز في العالم الثالث، وطالبت بتقديم تنازلات تمكِّن من إقرار السلام بين إسرائيل والعرب، ونادت بالمساواة في الحقوق بين اليهود الشرقيين والفلسطينيين من ذوي المواطنة الإسرائيلية. ورغم اتخاذ المجلة تلك المواقف غير التقليدية فقد تجسد نجاحها عبر انتخاب يوري أڤنيري في الكنيست في خريف العام 1966، وهو الذي استمر منذ ذلك الحين في تحذير الحكومة من مغبة «المماحكات» التي تستفز بها سوريا، والتي ستفضي بالضرورة إلى الحرب، كما قال.
لم يكن أبي ناتان تجمعه أشياء كثيرة مع مالكيْ مجلة «هاعولام هازيه». كان أحد المتطوعين الأوائل في سلاح الطيران الخاص بالمملكة المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان يتحدث بلغة إنجليزية منمقة، هي لغته الأم، أو بعبرية تشوبها لكنة بريطانية واضحة. أما شغفه الوحيد فكان السلام، ولا شيء سوى السلام. لم يكن ينتمي إلى أيٍ من الأحزاب، ولا كان متأثراً بأي أيديولوجية خاصة. كانت مثاليته المطلقة تجر عليه مشاكسات ودودة من قِبل زبائنه، الذين لم يأخذوه على محمل الجد إلا يومَ استقل بمفرده طائرة صغيرة بمحرك واحد وانطلق بها صوب القاهرة «ليمد يد السلام إلى جمال عبد الناصر».
عاد ناتان إلى إسرائيل عودة الأبطال بعد أن استقبله محافظ بورسعيد بترحاب، إذ اعتذر الرئيس المصري عن عدم التمكن من استقباله. وقد تغيرت صورة «الريّس»، الذي كانت الدعاية الرسمية تصوره عادةً بمثابة «هتلر جديد»، تغيراً واضحاً، على الأقل بالنسبة لجزء من الرأي العام، في الوقت الذي صنع فيه طيران أبي ناتان وحيداً عناوين الصحافة الدولية.
وقد اتخذت مبادراته النضالية صوراً عدة. إذ باع مطعمه، واشترى سفينة، وكي يفلت من أي رقابة، رسَّاها خارج المياه الإقليمية الإسرائيلية، على مقربة من ضفاف تل أبيب، وثبت فوقها محطة إرسال سماها «صوت السلام»، راح يبث عبرها طوال أعوام أخبارا، ومقابلات إذاعية، وتعليقات، تهدف جميعهاً للتصدي للدعاية الرسمية التي كان يرى أنها لا تتفق مع السعي إلى تسوية سلمية. ولما تعرض للإفلاس بسبب المعلنين الذين حرموا إذاعته تماماً من الإعلانات، أغرق سفينته في احتفالية مؤثرة ليكمل من ثمَّ نضاله بصور أخرى. فأثار ضجة حين شن حملة ضد التعاون الوثيق بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وقدم ألعاباً للأطفال في مقابل تدمير ما يمتلكونه من أسلحة حربية صغيرة. وخرق القانون بالقيام مرتين بزيارة ياسر عرفات، الذي كان يعد في نظر النظام القائم بمثابة «إرهابي خطير»، ودفع ثمن جرأته بقضاء عدة عقوبات بالسجن.
وإذ التقيتُه عدة مرات على مر السنين، تمكنتُ من سبر يأسه المتزايد أمام مجرى الأحداث، لا سيما بعد حرب الأيام الستة. لكنه بقي كعادته محتفظاً بتفاؤله على المدى الطويل. وقد مات فقيراً معدماً عام 2008. وكان حضور المئات لجنازته، ومقالات الرثاء والتأبين التي امتدحته بالإجماع في الصحافة الإسرائيلية، والتكريم الذي أسداه له مسؤلون سياسيون، من بينهم شمعون بيريز، صاحب القانون الذي يحظر أي اتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي سُجن بسببه، كل ذلك كان يظهر التقدير الذي حظي به الرجل لدى الرأي العام. وكان قبل وفاته بقليل قد جاءه صحافي يسأله عما قد يكتبه على شاهد قبره، فأجاب : فلتكتبوا: «لقد حاولت».
صحيفة السفير اللبنانية