فــي كوالــيـس الشـــرق الأدنــى (5) البحـث عـن السـلام المستحيـل السـلاح مـن موسكــو.. والمبـادرات مـن واشنطـن (اريك رولو)

اريك رولو

ترجمة د. داليا سعودي

فإن كان في واشنطن رجلٌ لم تنطلِ عليه حيلُ هنري كيسنجر، فهو بالتأكيد أناتولي دوبرينين (Anatoly Dobrynin). كان السفير السوفياتي المعتمد لدى ستة رؤساء أميركيين متعاقبين ما بين عامي 1962 و1986، من جون كينيدي إلى رونالد ريغان، هو الديبلوماسي الأكثر شعبية في العاصمة الأميركية، كما كان الأوسع معرفة بخبايا الحرب الباردة. وإذ أتيحت لي فرصة لقائه، فقد أُخذتُ بدماثة طبيعته، وابتسامته الطيبة، وقامته المديدة الرشيقة، وأناقته المحكمة. كان هذا الرجل الأساسي في العلاقات السوفياتية الأميركية التي اجتهد في تحسينها عبر الحوار الهادئ دوماً، تُشَرَّعُ له جميعُ أبواب البيت الأبيض والكريملين. وإذ كان يتقن الحديثَ بلغة إنكليزية منمقة، فقد كانت تربطه صداقاتٌ بالعديد من رجال السياسة والوزراء والبرلمانيين وكبار الموظفين وأهل الفكر، وبعض كبار الكتاب والإعلاميين. لذا، ما كان ليخفى عليه أمرٌ من أمور الإدارة الأميركية.
اكتسب دوبرينين ثقة هنري كيسنجر، بالتحلي بالمسلك الذي حقق بفضله نجاحاته الديبلوماسية: فعلى عكس المتعارف عليه مهنياً، لم يكن يصطحب معه أيأً من معاونيه، ليخلق بذلك جواً حميمياً يناسب المصارحة والتناجي. وكانت الآراء التي يدلي بها تخلو من أي أثر أيديولوجي، إلى الدرجة التي جعلت مستشار الرئيس الأميركي يرتاب في كونه ماركسياً. غير أن ذلك الشيوعي الثابت على مذهبه كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي ومستشاراً مقرباً للقائمين على المكتب السياسي، حيث دأب على إطلاعهم بانتظام على سائر نشاطاته. وكان خصومه داخل الكرملين، الذين حسدوه على قوة نفوذه، قد لقبوه بـ«الأميركي» من دون أن يلحقَ ذلك به أيَّ ضرر.
لقد تغلب دوبرينين على عقبة الاحتفاظ بعلاقات ممتازة مع كل من كيسنجر وويليام روجرز على حد سواء، بدقة الالتزام بقواعد السرية التي كان قد طالبه بها صراحةً مستشار الرئيس.
هكذا تمكن دوبرينين من التعرف على الأطروحتين المتعارضتين في ما بين الرجلين، بل، أكثر من ذلك، تمكن من فهم مؤامرات كيسنجر لتخريب عملية السلام في الشرق الأدنى. ومما زاد من تعقيد مهمته ما كان من خداع جوزيف سيسكو (Joseph Sisco)، الذي كان من المفترض أن يكون ولاؤه لرئيسه المباشر ويليام روجرز، بينما كان يساند مستشار الرئيس نيكسون في الخفاء. وهو الأمر الذي شكا منه دوبرينين في سيرته الذاتية.
وقد تحسّر السفير السوفياتي، بشيء من المرارة، على الساعات الطويلة، الطويلة، التي كرّسها لويليام روجرز لإعداد خطة سلام من شأنها أن تحظى بقبول كل من واشنطن وموسكو في وقت واحد، بينما لم تساوره ريبة في أن تلك الخطة لن تُطرح أبداً قيد التنفيذ.
فهل يمكن الاعتماد على الاتحاد السوفياتي لدفع السلام في الشرق الأدنى؟ ألن يعمل الاتحاد السوفياتي على تخريب أي مشروع تسوية تتقدم به الولايات المتحدة لكي يمنعها من تعزيز نفوذها في المنطقة؟ أمام تلك الأسئلة التي وجهتُها إلى جمال عبد الناصر، أثناء حديثنا في قصر القبة، كانت إجاباته قاطعة: لموسكو مصلحةٌ في السلام، شريطة أن يكون سلاماً «عادلاً»، وهو ما يستبعد إذن تسليم أصدقائها العرب. (وقد حرص ناصر على ألا يقول ما سيكتبه دوبرينين في مذكراته، ألا وهو أن المشغلة الأساسية للسوفيات كانت الحيلولة دون انهيار النظام الناصري، حليفها الأهم في المنطقة).
قبل أسبوعين من إجراء هذا الحديث، كنتُ قد علمتُ من مصدر موثوق أن ناصر قد ذهب إلى موسكو سراً، غداة احتلال جزيرة شدوان، كي «يضع الكرملين أمام مسؤولياتها». فقد كان القادة السوفيات يعاملونه ببرود منذ بضعة أشهر لكونه قد شن حربَ الاستنزاف من دون الحصول على موافقتهم. بل إنهم قد تباطأوا في تسليم دفعات التسليح وسحبوا عدداً من مستشاريهم العسكريين، الذين كانوا قد أُرسلوا إلى مصر غداة هزيمة 1967.
كان مزاجهم السيئ هذا راجعاً لاقتناعهم بأن تلك الحرب الكامنة ستنتهي حتماً لصالح الإسرائيليين. لكن، أثناء محادثاته في الكريملين، التي امتدت ما بين 23 و26 من شهر يناير (كانون ثاني)، هدد عبد الناصر بتقديم استقالته إذا لم يستأنف الاتحاد السوفياتي تقديم مساعداته العسكرية، بل وزيادتها،. وإذ تأثر محدثوه من وصفه آثار التدمير التي لحقت بالبلاد، والغضب المتضخم داخل صفوف الجيش وفي الرأي العام المصري، فقد تعهدوا بتزويده أسلحة أخرى، من بينها صواريخ سام 3 أرض – جو التي لم تُقدم من قبل لأي دولة غير شيوعية. وفي واقع الأمر، كانت المساعدة العسكرية التي وُعد بها ناصر والتي سرعان ما سُلِّمت إليه، أوسع نطاقاً بكثير، مثلما تبين بعد ذلك بعدة أشهر.
من دون الرجوع إلى المعلومات المجتزأة التي كانت في حوزتي، طرحتُ عليه سؤالاً لمعرفة إذا ما كانت «المساعدة الضخمة التي يحصل عليها من الاتحاد السوفياتي لن تعرِّض السيادةَ المصريةَ للخطر على المدى الطويل».
وعلى غير المتوقع تماماً، اعترف ناصر بأن «تبعيته لموسكو (تتزايد)» بالفعل، وقد ألقى على القوى الغربية بالملامة، لكونها ترفض بيع الأسلحة له. ثم ضحك ضحكةً مجلجلة وهو يضيف قائلاً: «بصفتنا مدينين لهم، فنحن في موقع القوة بالنسبة لأولياء نعمتنا السوفيات».
كان ذلك الحديث قد استغرق أكثر من ساعتين ونصف الساعة. وإذ تشكَّيتُ مجدداً- وهذه المرة بقوة أكبر- من عدم السماح لي بتدوين ملاحظاتي، أخذ عبد الناصر بذراعي، وقد عَلَت الابتسامةُ وجهَه، واصطحبني إلى غرفة مجاورة حيث رأيتُ آلات تسجيل ضخمة ومزعجة (من طراز آلات ذلك الزمان) يشغِّلها ضباطٌ يرتدون الزي الرسمي. وجَّه الرئيس كلامه لأحدهم وأمره بتسليمي تسجيلاً كاملاً للحوار، ما زلتُ أحتفظ به إلى يومنا هذا. ولقد أحدثت تصريحاتُ عبد الناصر دوياً عالمياً في وسائل الإعلام، التي أولته استقبالاً حسناً. ونشرت صحيفة «الأهرام» شبه الرسمية نصَّ الحوار كاملاً، لتكذِّبَ بذلك مسبقاً أن عرض التطبيع الكامل مع إسرائيل موجَّهٌ حصرياً للاستهلاك الأجنبي. وفي المقابل، كانت ردود الفعل في إسرائيل محبِطة، بدرجةٍ أبعد مما كان مُتصوَّراً.
فقد رأت رئيسة الوزراء، غولدا مائير، أن تصريحات الرئيس المصري «لا تأتي بجديد»، إذ ليس بها ما يفتح الطريق أمام تسوية. وقد تذرعتْ بأن ناصر ما زال يرفض الدخول في مفاوضات ثنائية وغير مشروطة مع الدولة اليهودية، مفضِّلاً أن تتم المحادثات الأولية على الأقل عبر ممثل الأمم المتحدة، غونار يارنغ. وكان بديهياً بالنسبة لها، أن إعادة سيناء أمرٌ غير مطروح بالمرة، حتى وإن كان في مقابل السلام وتطبيع العلاقات الكامل بين البلدين. أما وزير خارجية الدولة العبرية، أبا إيبان، فصرح، من جانبه لصحيفة «لوموند»، أنه يستخلص من الكلام الذي أدلى به الرئيس المصري أن هذا الأخير لا يبحث إلا عن «تصفية الحقيقة الإسرائيلية على مراحل». وكان ذلك الموقف متوافقاً مع الاتهام المتكرر بأن الهدف الذي يرمي إليه «ديكتاتور القاهرة» هو «تدمير دولة إسرائيل» و«إلقاء اليهود في البحر».
واقتداءً بالسلطات الرسمية، رأى قسمٌ كبيرٌ من صحف تل أبيب أن الرئيس المصري ماضٍ مجدداً في عملية دعاية موجهة إلى الدول الغربية، أيدها المبعوثُ الخاصُ لصحيفة «لوموند». لكن، على حد ما أذكر، كانت صحيفة «هاآرتس» اليومية الجديرة بالاحترام، من بين المطبوعات القليلة جداً التي اقترحت في افتتاحيتها أن إسرائيل لن تخسر شيئاً لو وضعتْ ناصر قيد الاختبار، وقبلتْ اقتراحه فوراً، ووافقتْ على بدء الحوار عبر تدخل وسيط الأمم المتحدة. لكن النصيحة دُفنت تحت ركام من التصريحات الهازئة التي أطلقها رجال السياسة، المنتمين إلى اليمين كما إلى اليسار.
مبادرة جديدة لعبد الناصر
ولدى عودتي إلى باريس، كنتُ قد استبعدتُ أن ناصر سيُقْدم على مبادرة جديدة، من شأنها هذه المرة إثارة أزمة كبرى في إسرائيل، بل هي الأزمة الأكبر منذ حرب 1967. وقد تورطتُ فيها، عن غير عَمدٍ مني.
ففي منتصف شهر مارس (آذار)، بعد مرور أقل من شهرين على تصريحات الرئيس المصري إلى صحيفة «لوموند»، تلقيتُ في باريس زيارةً غير متوقعة من العقيد أحمد حمروش، وهو واحد من «الضباط الأحرار» الذين خططوا لإطاحة الملكية تحت قيادة عبد الناصر. وكنتُ قد التقيتُ به سابقاً في القاهرة، في الأوساط الناصرية اليسارية، حيث علمتُ أنه كان ينتمي قبل الثورة إلى الجناح العسكري للمنظمة الشيوعية، المعروفة باسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو)، التي أسسها هنري كوريال (Henri Curiel). فبهذه الصفة، تحمل حمروش مسؤولية طباعة منشورات «الضباط الأحرار» بواسطة الجهاز السري للمنظمة الشيوعية، التي شاركت شبكاتُها في توزيع تلك المنشورات. وخلال لقاءاتنا، لم يكن حمروش يخفي الإجلال الذي يضمره لهنري كوريال، الذي كان يزوره من وقت إلى آخر في باريس حيث كان الزعيم اليهودي المصري منفياً. كما لم يكن يخفي أيضاً مشاعر التعاطف التي يكنها لدعاة السلام من الإسرائيليين، ممن كانوا يناضلون منذ ذلك الوقت المبكر، من أجل إنشاء دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل.
أثناء حديثنا في باريس، اتجه حمروش مباشرة إلى هدف الزيارة : فقد كان مكلفاً من قِبل عبد الناصر بدعوة الدكتور ناحوم غولدمان (Nahum Goldmann) إلى القاهرة. كانت تلك خطوة غير مسبوقة في حوليات النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وكانت تهدد بإثارة عواصف من الاستنكار في الشرق الأوسط. كان غولدمان، رئيسُ المجلس اليهودي العالمي، أحدَ أعمدة المنظمة الصهيونية العالمية التي كان قد ترأسها طوال أعوام عديدة. كما كان مواطناً لدولة معادية، هي إسرائيل. فكان من المنتظر أن تندد غالبية الدول العربية بـ«خيانة» الرئيس، شأنهم شأن المتطرفين من المصريين.
لكن عبد الناصر كان مستعداً لمواجهة العاصفة. فعلى أثر حواره مع صحيفة «لوموند»، كان واضحاً أنه يسعى لإظهار رغبته في السلام، ليكذِّب بذلك الادعاءات المعادية التي أطلقتها إسرائيل. وربما كان الرهان مرتكزاً أيضاً على الأمل في تفكيك حكومة الوحدة الوطنية بزعامة غولدا مائير، التي كانت قد صرحت قبل ذلك بشهر واحد بأنها لن تتردد في الانفصال عن اليمين القومي المتطرف، الممثل داخل حكومتها الائتلافية، لو اقتنعت أن هناك دولة عربية مهتمة جدياً بتحقيق السلام.

غولدمان يقبل وغولدا ترفض

لمَّا كان حمروش يعلم أن صداقة تربطني بناحوم غولدمان، فقد طلب مني تهيئة لقاء بينهما بعيداً عن الأنظار. وحين التقيا في شقتي بباريس، كان حديثهما ودياً.
تلقى الزعيمُ اليهوديُّ بحماسة الفرصةَ التي أُهديت إليه لبدء حوار مع الرئيس المصري، فقبل بلا امتعاض المقترحات الثلاثة التي صاغها الأخير: ستكون الزيارة إلى القاهرة زيارة عامة ؛ وعلى الضيف الحصول على تصريح مسبق من غولدا مائير؛ ولن يكون للِّقاء أيُّ طابعٍ رسمي، لأن موقف رئيس المجلس اليهودي العالمي سيقتصر على عرض «رؤاه الشخصية» حول النزاع ووسائل وضع نهاية له.
كان جلياً أن «الريّس» يريد إقصاء الاتهام المتوقع بأن ثمة مؤامرة تحاك ضد حكومة القدس يشارك فيها ناحوم غولدمان بحله محل السلطات الرسمية لبلاده. ينبغي إذن أن تكون الزيارة زيارة خاصة حصرياً بين رجلين يتشاطران تقريباً الرأي نفسه في ما يتعلق بوسائل تسوية النزاع. ففي العديد من المقالات المنشورة في الصحافة الدولية، ومن بينها صحيفة «لوموند»، كان الزعيم اليهودي قد أدان كثيراً الحرب المسماة بالوقائية التي شنتها إسرائيل العام 1967، كما دافع عن الفكرة القائلة بأن السلامَ ممكنٌ إذا تمت إعادة كل الأراضي العربية المحتلة، باستثناء القدس الشرقية، التي ستُمنح، بناءً على اتفاق مشترك، وضعاً متمتعاً بالحكم الذاتي لتكون بمثابة «ڤاتيكان» مسلمة. هنا، وبصورة استثنائية، كان غولدمان متفقاً تماماً حول هذا الموضوع مع بن غوريون الذي كان، هو أيضاً، قد أدان الحرب ومن خاضوها من دعاة ضم المزيد من الأراضي.
عاد حمروش إلى القاهرة ليخبر رئيسه بقبول الزعيم اليهودي الدعوة، ثم رجع مجدداً بعد عدة أيام إلى باريس، حاملاً مشروع بيان كان من المزمع نشره في نهاية الزيارة بالقاهرة. كان النص، الذي وافق عليه غولدمان، لا وزن له بالمرة، إذ يشير إلى أن الرجلين قد قاما باستعراضٍ موسع لسائر المسائل في جو حافل بالمودة، ولا يورد أي تفاصيل أخرى. هنا أيضاً، كان الهدف المرجو هو طرح أقل عدد من الموضوعات المثيرة للجدل سواء في إسرائيل أم في العالم العربي، إذ سيكتفي الرجلان بتوصيل رسالة رمزية عن المقابلة.
هكذا استقل رئيس المجلس اليهودي العالمي الطائرة إلى القدس بقلب منشرح، وثقة تامة في حصوله لا محالة على إذن السيدة غولدا مائير لمقابلة الرئيس المصري. بل إنه قد ظن، من فرط التفاؤل، أن القادة الإسرائيليين سيسعدون بتلك الخطوة التاريخية، التي لا تُلزمهم، علاوةً على ذلك، بأي شيء.
لكن خيبة الأمل التي أصابت غولدمان كانت على قدر أوهامه. فقد تظاهرت غولدا مائير بالاهتمام بالمشروع لكنها رفضت إعطاءه موافقتها والاحتفاظ بالأمر سرأً مثلما طلب منها محدثها. فقد ادعت أن عليها استشارة مجلس الوزراء، وهي تعلم أن غالبيته العظمى سترفض، والأهم، أن الخبر «سيتسرب» حتماً، مما سيُثير ردود فعل معارِضة داخل غالبية الأحزاب السياسية. هكذا، أجبر الرفضُ العامُ الذي أعلنته الحكومة رئيسَ المجلس اليهودي العالمي على الاعتذار عن دعوة عبد الناصر، متهماً غولدا مائير بتعمد «نسف» لقاءٍ كان سيعود بالفائدة حتماً على الدولة العبرية.
نحن نفاوض العدو… لا أنت
وقد بررت رئيسة الوزراء مسلكها بالقول بأن السلطات الرسميةَ وحدَها هي المخولة ببدء حوار مع العدو، وأن هذا هو ما يعرفه بالضبط «ديكتاتور» القاهرة. فقد كانت ترى أن ذلك اللقاء لا يمكن أن يكون بريئاً، إذ لم يكن يهدف، بحسبها، إلا لإحراج الحكومة الإسرائيلية. لذا لم يكن يسعها تأييد مثيلة تلك المناورة. أما وزير الخارجية، أبا إيبان، الذي كان يبدو محرجاً، فلم يجد ما يقوله سوى أن «عدم امتثال ناحوم غولدمان للأعراف في إسرائيل» يجعله غير مؤهل للحديث إلى رئيس دولة أجنبية، حتى ولو بصفة خاصة. كما عُتِب على غولدمان أيضاً عدم كشفه عن أسماء من سعَوا بالوساطة بينه وبين القاهرة. وقد كذَّبت بلغراد الشائعة التي ادَّعت أن المارشال تيتو Tito هو محرك المشروع.
في الواقع، كان الرئيس اليوغوسلافي قد قال للزعيم اليهودي، أثناء حديث بينهما في يوليو (تموز) 1968، إنه سيحاول تهيئة مقابلة له مع عبد الناصر. لكن القولَ لم يستتبع عملاً، كما أخبرني رئيس المجلس اليهودي العالمي. وإذ لم تكن حجج السلطات الرسمية الإسرائيلية مقنعةً بالمرة، فقد أثارت توترات لدى الرأي العام، وأحدثت جدلاً لا نهاية له في وسائل الإعلام، وسيلاً من الاحتجاجات والاستجوابات والنقاشات داخل البرلمان، بينما راح المتظاهرون يتدفقون هاتفين بشعارات معادية للحكومة، مثل: «إلى المطبخ يا غولدا… إلى القاهرة يا غولدمان». وقد لقي الموقف الرسمي انتقاداً من جانب ثلاثة تنظيمات سياسية وفصائل مهمة داخل أحزاب أخرى، بما في ذلك أحزاب داخل الائتلاف الحاكم. وعلى الرغم من أن حكومة الوحدة الوطنية كانت تمثل إحصائياً 90% من السكان، فقد أشار استطلاعٌ للرأي نشرته صحيفة «هاآريتز»(Haaretz)، المعروفة بجديتها، إلى أن 63% من الإسرائيليين يشجبون ذلك الڤيتو الحكومي. أما صحيفة «چيروزاليم پوست» (Jérusalem Post)، التي لا تكل ولا تمل، فدعتْ إلى محاكمة رئيس المجلس اليهودي العالمي.

بيغن ضدي: رولو عميل مصري

وإذ ذُكر اسمي في الصحافة كوسيط بين غولدمان والقاهرة، شن زعيم اليمين القومي المتطرف، مناحيم بيغن، هجوماً شديد العنف ضد من وصفه بـ«العميل المصري». وفي خطاب ألقاه في أحد اجتماعات حزبه، الليكود، أضاف قائلاً: «لو كان رولو قد ذهب إلى الغيتوات، لكان نظم ركباناً من اليهود باتجاه معسكر اعتقال أوشڤيتز Auschwitz». وقد هاجم بالطبع مجمل كتاباتي التي ما كانت لتروق له قَط. فكلفتُ على الفور محاميين، أحدهما في فرنسا، والثاني في إسرائيل، بإقامة دعوى سب وقذف ضده، كنتُ واثقاً من كسبها. لكن جهودهما المتضافرة باءت بالفشل، إذ رفض بيغن التخلي عن حصانته البرلمانية.
أما في مصر، فسارعت وسائل الإعلام إلى محو ما اعتُبر بمثابة إهانة موجهة للريِّس. فادعت صحيفة «الأهرام» مثلاً تحت عناوين كبرى في صدارتها أن «قضية غولدمان مختلقةٌ من أولها إلى آخرها». لكن ذلك لم يحُل دون مواصلة عبد الناصر السير في الطريق الذي رسمه. وفي الخطاب الذي ألقاه في الأول من يوليو عام 1970، ابتعد عن الثنائية الاستقطابية التقليدية بأن حيَّا «دعاة السلام» في الدولة الصهيونية، ليصبح بذلك أول مسؤول عربي يقرُّ بوجودِ إسرائيليين «طيبين» إلى جوار مواطنيهم «الأشرار». إثر ذلك بأسابيع ثلاثة، أثار ناصر بعض القلاقل حين أكد صحة المبادرة التي أقدم عليها لدعوة ناحوم غولدمان، وذلك خلال اجتماع سري لقيادات الحزب الأوحد، الحزب الاشتراكي العربي. وقد أشار بالإسم إلى مبعوثه، العقيد أحمد حمروش، غير أنه لم يكشف عن هوية الوسيط، امتثالاً لما اتُفق عليه.
لكن المعلومة اكتملت بعد ذلك باثنتي عشرة سنة، في المذكرات التي نشرها مبعوثه، الذي أسدى في كتابه هذا تحيةً مؤثرةً لغولدمان، إذ أعاد على عهدته الأطروحة الخاصة بالزعيم اليهودي، القائلة بأن النزاع يقابل بين «حقَّين»، أحدهما يهودي، والآخر عربي، معترفاً بذلك بأن إسرائيل قد اكتسبت الحق في الوجود.
غطت «قضية غولدمان»، التي كانت قد تفجرت مع بداية إبريل (نيسان) 1970، على حدثٍ آخر أكثر أهمية وقع في التوقيت ذاته: ألا وهو وقف إسرائيل المفاجئ ـ وغير المبرر ـ لغاراتها في عمق وادي النيل. وقد ذكر كيسنجر تفسير ذلك في مذكراته: فقد جاءه إسحق رابين ليخبره أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد اكتشفت أن الوجود العسكري السوفياتي في مصر أكبر بكثير مما كانوا يظنون، وأنه قد وقعت بضع مماحكات بين سلاح الطيران الإسرائيلي ومشغلي صواريخ أرض جو سام 3 الروسيين. حدا ذلك بإسرائيل إلى اتخاذ قرار تفادي قتال محتمل بين طيران كل من الدولة العبرية والاتحاد السوفياتي، مما قد يفضي إلى إشعال مواجهة بين القوتين العظميين.
لم تلقَ زيارة عبد الناصر إلى موسكو في يناير الاهتمام المستحَق. فوفقاً لما جاء في تقرير أعدته لاحقاً وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (C.I.A)، كان الكرملين قد قدم لمصر أربع أو خمس مجموعات من صواريخ سام 3، فضلاً عن مهندسي وفنيي تشغيلها، بالإضافة إلى عدة أسراب من طائرات ميغ 21 بطياريها الروس، ومدافع مضادة للطائرات، ورادارات. هكذا أمسكت موسكو بزمام الدفاع عن وادي النيل عملياً، حاميةً العاصمة والمدن الكبرى على وجه الخصوص. كانت «المظلة» السوفياتية قد ثُبتت على بعد 50 كيلومتراً غرب قناة السويس، وذلك تحديداً لتفادي أي مواجهة مع القوات الإسرائيلية المرابضة على طول الشريط المائي.
وقد قدَّر الأميركيون عدد العسكريين والمستشارين الروس المقيمين في مصر ما بين 12 إلى 14 ألف شخص. هكذا تبدى عدم صحة رأي كيسنجر، القائل بأن مواصلة حرب الاستنزاف ستضعف النظام المصري والنفوذ الروسي معاً. وهو ما أرضى ويليام روجرز تمام الرضا، إذ كان يؤيد الأطروحة المعاكسة. هـــكذا حصل وزير الخـــارجية الأمــيركي على الضوء الأخضر من ريتشارد نيكسون، لإعادة طرح مشروعه للسـلام.
تم تسليم «مشروع روجرز الثاني» رسمياً إلى الأطراف المتحاربة وإلى موسكو في 19 يونيو (حزيران). وعلمتُ وقتها أن الرئيس عبد الناصر قد ذهب مرة ثانية إلى الكرملين، لكنني لم أتبين تحديداً الأسباب التي دفعته لتلك الرحلة. والواقع أنه كان قد أعلن لحُماته قراره بالموافقة على المشروع الأميركي. وقد أوضح أنه يكفيه اعتراف المشروع صراحةً بما لمصر على سيناء من سيادة لا يجوز التنازل عنها، وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 242، حتى وإن كان المشروع يمنح إسرائيل في المقابل بعض الامتيازات.
ووفقاً لأقوال المقربين منه، كان ناصر قلقاً هو أيضاً من تزايد تبعيته للسوفيات، لا سيما انه كان على اقتناع بأن حربَ الاستنزافِ لن تنتهيَ بنصرٍ مصري؛ فكان ينبغي دفع أي ثمن لإنهاء نزاع مسلح كان قد أفضى، وفق تقديرات إسرائيلية، إلى مصرع 5000 من العسكريين و2000 من المدنيين المصريين. (تكتمت القاهرة دوماً على أنباء الخسائر التي تكبدتها حفاظاً على الحالة المعنوية للشعب).
وإذ لم يكن أنورُ السادات، نائبُ رئيس الجمهورية وقتها، مُطَّلعاً على سريرة الرئيس، فقد ارتكب خطأً كاد أن يكلفه ثمناً باهظاً. فبينما كان عبد الناصر بعدُ في موسكو، أعلن السادات، في ختام اجتماع مجلس الوزراء الذي كان يرأسه بالإنابة، أن مصر ترفض «مشروع روجرز الثاني». ولكي يعاقبه عبد الناصر على إقدامه على تلك المبادرة غير الحصيفة، قاطعه فور عودته إلى القاهرة، انتظاراً لعزله في اللحظة المناسبة. لكنه لم يُقدَّر له أن يفعل، إذ توفي بعد ذلك بثلاثة أشهر، مما أتاح صعود السادات إلى سدة الرئاسة. وبالنظر بأثر رجعي، يتبدى مدى تعارض ما أظهره هذا الأخير من اندفاع معادٍ لأميركا في يوليو 1970، مع الشوق الذي شَـفَّه لكسب ود واشنطن قبل أن يسلك الطريق إلى القدس لإبرام معاهدة السلام مع إسرائيل.
وقد لاحت بارقةُ أمل حين تم قبول «مشروع روجز الثاني»، بدءاً من يوم الثاني عشر من يوليو (تموز)، على التوالي من جانب مصر، فالاتحاد السوفياتي، فالأردن. لكن الانفراجة كانت عابرة مبتسرة، إذ رفضت إسرائيلُ المشروعَ بينما راحت منظمات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة تشن حملةً شديدةً ضد ريتشارد نيكسون، المُتهم بالتضحية بالمصالح الحيوية للدولة اليهودية. غير أن تطوراً جديداً قد طرأ في الثامن من أغســطس (آب)، إذ قررت إســـرائيل الانضـــمام بدورهـــا إلى المشروع الأميركي، من دون تفسير سبب هذا التحول المفاجئ.
سينجلي غموض هذا التغيّر بعد ذلك بأعوام عدة في مذكرات كيسنجر. إذ كشف هذا الأخير أن سيِّد البيت الأبيض قد خطَّ رسالة شخصية وسرية للسيِّدة غولدا مائير، مؤكداً لها أن الولايات المتحدة لن تجبر الدولة اليهودية على تطبيق قرارات الأمم المتحدة «على حد تفسير العرب لها». هكذا خوَّل نيكسون حكومةَ القدس حرية عدم إعادة الأراضي المحتلة في مقابل السلام. لكن فاصل الخداع الذي كان قد بدأ لم يدم طويلاً. فقد شَكَت إسرائيل بعد هنيهة أن مصر تخرق قرار وقف إطلاق النار إذ تقدمت بمدفعيات سام 3 إلى مواقع أقرب من قناة السويس. فكان تقدير كيسنجر أن الموقف بات غير مقبول. أما ويليام روجرز، فدعا، على العكس، إلى التريث بانتظار إجراء تحقيق لتقصي ما إذا كان نقل الصواريخ قد تم قبل وقف المعارك أم بعده.
وحاولت وزارة الخارجية الأميركية التخفيف من وطأة الخصومة، فقالت محقةً إن صوارخ سام 3 ليست سوى سلاح دفاعي وأنه يمكن تسوية الخلاف ببساطة بالتحلي بالهدوء. وأصر ويليام روجرز على موقفه. فقد كان أهم شيء بالنسبة له هو الإسراع ببدء المفاوضات بين الأطراف المتحاربة، عبر وساطة ممثل الأمم المتحدة غونار يارنغ. ولم تكن تلك الرؤية لترضي الدولة العبرية نظراً لكون الديبلوماسي السويدي ومجمل المجتمع الدولي تقريباً لم يكونوا متفقين مع «التفسير» المثير للنزاع، الذي أوجدته حكومة القدس لنصوص الأمم المتحدة. وبلا أي إجراء آخر، تذرعت إسرائيل بذريعة خرق القاهرة وقف إطلاق النار لتعلن في الأول من أيلول/ سبتمبر عن مقاطعتها التامة لغونار يارنغ. هكذا، لم يلبث «مشروع روجرز الثاني» على قيد الحياة، إن جاز التعبير، سوى أسابيع ثلاثة. وهكذا فاز هنري كيسنجر في الجولة الأخيرة من صراعه ضد وزير الخارجية الأميركي، ولسوف يحل محله على رأس الخارجية الأميركية بعد ثلاثة أعوام.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى