«فورين بوليسي»: هل تستطيع أمريكا أن تنتصر على الصين إذا قامت حرب؟
فريق العمل
ناقشت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية أسباب كون الولايات المتحدة غير مستعدة لخوض حرب مع الصين. وذلك في تقريرٍ أعدَّه ريتشارد أبو العافية، نائب رئيس قسم التحليل في «تيل جروب» لاستشارات الطيران.
وفي مستهل تقريره، يُشير الكاتب إلى أن الأسلحة تصدرت عناوين الأخبار مرتين خلال الأشهر القليلة الماضية. المرة الأولى: عندما سحبت الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان سريعًا وتركت وراءها حفنة من طائرات خفيفة ومعدات عسكرية أخرى. والمرة الثانية، عندما شكَّلت أمريكا وأستراليا وبريطانيا معًا شراكة أمنية جديدة تُعرف باسم «AUKUS» لإنشاء أسطول صغير من غواصات تعمل بالطاقة النووية لصالح البحرية الأسترالية.
الصين وأمريكا: طرفا الصراع
ويُوضِّح التقرير أن هذه التطورات تُبيِّن طرفي طيف الصراع: وهما مكافحة التمرد ومنافسة القوى العظمى. وتُظهر تلك المستجدات أيضًا كيف تحافظ الصراعات العالمية ومشتريات الأسلحة في الغالب على نمط منتظم؛ إذ ظلت القوى العظمى لقرون تتأرجح بين هاتين الركيزتين ذهابًا وإيابًا. ومع تبلور «محورها نحو آسيا» حاليًا، تجد أمريكا نفسها في منتصف هذه الدائرة بالضبط ولم ينفعها ما أعطته من أولوية لحروب مكافحة التمرد أو يصب في صالحها، مع تزايد خطر المواجهة مع الصين. ومنطقة المحيط الهادئ ليست مركزًا لمنظومات مكافحة التمرد القصيرة المدى، ومع ذلك، فلن تُمثل هذه الأسلحة رادعًا مفيدًا في مواجهة الصين.
العالم والاقتصاد
وقد تكون الأسلحة التي تخلت عنها أمريكا في أفغانستان مثالًا نموذجيًّا لما قد يحتاجه طرف من أطراف طيف الصراع. إن وسائل النقل العسكرية الخفيفة المهجورة والمروحيات العتيقة الطراز والمنظومة التكتيكية للطائرات غير المأهولة، بالإضافة إلى مروحيات الهجوم الخفيف تعد نوعًا من معدات غير مكلِّفة نسبيًّا، والتي تُستخدَم في النزاعات المنخفضة الحدة في مناطق نائية، والمعروفة أيضًا باسم حروب مكافحة التمرد، أو في بناء الدول أو في الحروب البسيطة. وليس لهذه الأسلحة أي تأثير رادع؛ إذ تستخدم فقط في القتال، وبمجرد التخلي عنها، تصبح فائدتها منعدمة تقريبًا؛ لأن تقنياتها غير متطورة وسرعان ما تصبح غير قابلة للتشغيل.
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن غواصات الشراكة الأمنية المعروفة باسم «AUKUS» في الطرف المقابل من طيف الصراع مفيدة في ردع أي عدو، وإذا لزم الأمر، شن حرب ضد الأعداء المنافسين، مثل الصين، كما أن مدى هذه الغواصات وقوة نيرانها أكبر بكثير، والأهم هو استمراريتها. ويُعد تتبع تلك الغواصات أمرًا يحتاج إلى قدر من البراعة الاستثنائية، وبكين نفسها ليس لديها كثير من الخبرة أو المعدات المُخصَّصة لتتبعها.
وأفاد التقرير بأنه لا يوجد أي تداخل بين هذين النوعين من الأسلحة. ومن النادر أن تُستخدَم الغواصات النووية في حروب مكافحة التمرد، ضد طالبان على سبيل المثال. كما لا تُستخدَم أيضًا الطائرات المقاتلة المتطورة أو الصواريخ الفائقة السرعة أو طائرات الشبح المُدمِّرة من أجل هذا الغرض. ولا توجد صلة بين طائرات النقل الصغيرة ومروحيات «بلاك هوك» العتيقة وطائرات سوبر توكانو التي تعمل بالمحركات التوربينية المتروكة في أفغانستان وبين التنافس مع القوى العظمى. وسوف تمثل تلك الأسلحة في حروب المحيط الهادئ مجرد مسؤوليات، وليست ممتلكات.
تدهور العلاقات بين بكين وواشنطن.. إلى أين؟
يلفت التقرير إلى أن هذين النوعين من الأسلحة وأخبارها تعكس حلقة الصراع، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في غيرها من القوى العظمى أيضًا. ويعتقد عديد من الدول، بعد أي صراع كبير، مثل الحروب النابليونية أو الحروب العالمية أو الحرب الباردة، أن ألد أعدائها قد قُضيَ عليه نهائيًّا، ولم يعد هناك أي عدو منافس يُمثل أي مشكلة لها. وتفترض تلك الدول أنه بالنظر إلى الاحتياجات الأمنية العالمية والقيود المفروضة على الموارد، يجب أن تُركِّز قرارات مشتريات الأسلحة والعناصر الأساسية للقوة على مكافحة التمرد. ثم يظهر عدو أكثر جدية ويثبت أن جميع هذه الافتراضات تعد خطأً فادحًا.
ولنتأمل العقدين الماضيين فيما يخص شؤون الدفاع في الولايات المتحدة. فبعدما كانت ميزانيات الدفاع الأمريكي خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي استمرت عقدًا من الزمان، ارتفع الإنفاق الدفاعي الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول). إذ كانت الميزانية الفيدرالية للسنة المالية 2000 تبلغ 464 مليار دولار. وظلت هذه القيمة تتضاعف حتى بلغت الميزانية 820 مليار دولار بحلول السنة المالية 2011. وظلت الميزانية في السنوات القليلة الماضية في تزايد نسبي متجاوزًا مبلغ 700 مليار دولار، ومنها ميزانية السنة الأولى من إدارة بايدن.
ويشير التقرير إلى أن هذه الزيادة في الميزانية ذهبت معظمها إلى الحروب في العراق وأفغانستان. ولنلقي نظرة مثلًا على سلاح الجو والبحرية، الأقل مشاركة في تلك الحروب. وأفاد معهد ميتشل لدراسات الفضاء الجوي أن متوسط ميزانية القوات الجوية خلال المدة من 1990 حتى 2003، بلغ 24%، بعد خصم الإنفاق على الفضاء، من إجمالي إنفاق البنتاجون. وخلال المدة نفسها، كانت حصة القوات البحرية 31% من الميزانية، وبلغت حصة القوات البرية 25%.
ولكن بعد ارتفاع ميزانية الدفاع، تغيرت تمامًا حصص القوات الجوية والبحرية في الميزانية. وخلال المدة من 2004 و2013، زادت حصة القوات البرية إلى 34%، وانخفضت حصة القوات الجوية، بعد خصم الإنفاق على الفضاء، إلى 20% فحسب، وانخفضت حصة القوات البحرية في الميزانية إلى 26%.
وفي الوقت الراهن، ومع خروج القوات الأمريكية من أفغانستان ومن العراق إلى حد كبير، يساور الحزبين الديمقراطي والجمهوري قلق بالغ بشأن ظهور الصين بوصفها قوة صاعدة. وكتب الملياردير الأمريكي، جورج سوروس، مقالًا نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية في أغسطس (آب)، قائلًا إن: «العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تتدهور سريعًا وقد تفضي إلى حرب».
أمريكا ليست مستعدة لمواجهة أي عدو نِدٍّ لها!
يؤكد التقرير أن الجيش الأمريكي ليس مستعدًا استعدادًا جيدًا لمواجهة أي عدو منافس محتمل وصاعد. وعلى مدار العقدين الماضيين، أُنفقت مبالغ هائلة لشراء مركبات مدرعة خفيفة وسترات واقية ومنظومات استطلاع تكتيكية، وطائرات النقل المروحية ذات المدى القصير. بينما لم يُنفق إلا قليل على الوسائل الإستراتيجية التي تحافظ على استمرارية عظمة أي قوة عظمى.
ويُعد ما حدث في سلاح الجو الأمريكي أفضل مثال على ذلك؛ إذ طوَّرت الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي أفضل طائرة مقاتلة في العالم: وهي «إف-22». وبدلًا من إنتاج 750 طائرة من هذا النوع – حسبما كان مخططًا- توقف الإنتاج عند حد 187 طائرة فقط، وكانت آخر طائرة أُنتجت في عام 2012، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تقديم أولوية حروب مكافحة التمرد على ما سواها.
ويضيف التقرير أن الأشخاص، الذين كانوا يرفضون إنتاج «إف-22» أو تمويل أي نوع من الأسلحة ذات التقنية العالية، ظلوا طوال العقد الماضي، يدَّعون أن «هذه الطائرة لم تُستخدم حتى في العراق أو أفغانستان». وعلى نحو مماثل، توقف إنتاج الشبح المُدمِّر (بي-2) المدهشة عند حد 21 طائرة، بينما كان يُخطط لإنتاج 132 طائرة منها. ونتيجةً لهذه الاقتطاعات وغيرها، يبلغ متوسط عمر طائرات سلاح الجو الأمريكي نحو 30 عامًا. وهذا يعني زيادة تكاليف الاستدامة، وإنفاق مبالغ ضخمة على أعمال الترقية للحفاظ على فعالية الطائرات لمواكبة التكنولوجيا الحديثة، فضلًا عن زيادة المخاوف المتعلقة بالسلامة بسبب تقادم هياكل الطائرات والأنظمة.
الذاكرة الإستراتيجية
يقول كاتب التقرير إن وضع واشنطن الحالي يُمثل الجولة الأخيرة من فقدان قوة عظمى لذاكرتها الإستراتيجية. وكانت الولايات المتحدة، في ستينيات القرن الماضي، قد خصَّصت موارد ضخمة لقتال المتمردين الشيوعيين في فيتنام، حتى في ظل ما يمثله الحكم السوفيتي من تهديد خطير على أوروبا الغربية.
وفي الوقت نفسه، كانت القوات الأمريكية في أوروبا على مستوى «قوات التمركز المسبق (البعثات)». وكان يُعتقد عمومًا أنه نظرًا إلى أن الولايات المتحدة لم تلتزم بتزويد حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلا بقوات ضعيفة، فإن استخدام الأسلحة النووية يظل السبيل الوحيد لغزو أوروبا للاتحاد السوفيتي.
وحتى الوقت الراهن، يعتقد بعض الناس أن السؤال الأهم بشأن حرب فيتنام هو: كيف كان بإمكان الولايات المتحدة تحقيق النصر في تلك الحرب باستخدام تقنيات أفضل لمكافحة التمرد بدلًا من الإجابة عن سؤال أكثر أهمية مفاده: هل كان استخدام الموارد في فيتنام أفضل من الدفاع عن حلفاء غربيين مقربين ضد خِصم مباشر؟ وإذا كان الأمريكيون أعاروا السؤال الأخير مزيدًا من الاهتمام، فإنه كان من الممكن أن تصبح فيتنام أحد الدروس المفيدة بشأن مخاطر الانحراف الإستراتيجي عن المضي قدمًا في مكافحة التمرد.
وألمح التقرير إلى أن المواقف العسكرية لأمريكا وبريطانيا عكست خلال الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية نمطًا متشابهًا. فبعد عدة عقود من إرسال قوات صغيرة إلى جميع أنحاء العالم للتعامل مع حالات طارئة صغيرة نسبيًّا، تسبب صعود ألمانيا واليابان بوصفهما تهديدات إستراتيجية خطيرة في الإصابة بصدمة كبيرة.
وفي القرن الذي تلا الحروب النابليونية، ركَّزت بريطانيا على حروب صغيرة في أماكن مثل أفغانستان. وبحلول أوائل القرن العشرين، لم يكن جيش بريطانيا مستعدًّا لمواجهة أي عدو ندٍّ لها مثل ألمانيا. وعبَّر الممثل روان أتكينسون، في مسلسل «بلاكادار الرابع» على قناة «بي بي سي»، عن هذا الأمر بأفضل طريقة حينما قال: «كنت أمتلك 15 عامًا من الخبرة العسكرية وأتقنتُ فن طلب المشروبات المُسكرة وإغواء النساء باللغة السواحيلية، وفجأة، ظهر نصف مليون ألماني مُدجَّجين بالسلاح وكانت صدمة كبيرة».
إعادة تمويل الثالوث النووي!
يلقي التقرير الضوء على وضع الجيش الأمريكي الحالي، مشيرًا إلى أنه يُجسد نموذجًا آخر لهذه الظاهرة. إذ نفذت الولايات المتحدة انسحابًا فاشلًا لقواتها من أفغانستان أسفر عن كارثة إنسانية. لكن إدارتي ترامب وبايدن اتخذتا القرار الحكيم نفسه: سحب الجيش الأمريكي من الحروب غير ذات الصلة بمنافسة القوى العظمى أو حتى المخاوف الجيوسياسية الرئيسة. ويرى بول آر بيلار، خبير مكافحة الإرهاب، في مقال نشرته «فورين بوليسي» أن: «الانسحاب من أفغانستان لا يرتبط حاليًا بعمليات مكافحة الإرهاب تحديدًا. لكن الأهم من ذلك كله، وجود مشكلات أكثر إلحاحًا في المحيط الهادئ».
ويختتم الكاتب تقريره بالإشارة إلى أن ميزانية الدفاع الأمريكي تركز حاليًا على المنظومات التي تجعل من أمريكا قوة عظمى. إذ تتميز آخر ميزانية لإدارة ترامب وأول ميزانية لإدارة بايدن بارتفاع قياسي للإنفاق على تجارب تطوير الأبحاث وتقييمها، وهو البند الذي يهتم بابتكار أسلحة جديدة عالية التقنية وأساس تكنولوجي لإنشاء منظومة جديدة. كما سيحصل سلاح الجو الأمريكي على الطائرة المقاتلة من الجيل التالي للهيمنة الجوية والشَّبح المُدمِّر (بي-2).
وسوف يُعاد تمويل الثالوث النووي (الصواريخ التي تطلق أرضًا والغواصات والطائرات). ويُعد هذا المسار القوي لميزانية الدفاع، مع تجديد تأكيد برامج الأسلحة عالية التقنية والأكثر فاعلية وغيرها من الأدوات الإستراتيجية، جزءًا من دورة تاريخية. بالإضافة إلى أنه يُمثل فرصة للولايات المتحدة للتفكير في هذا النمط الدوري والاستفادة من أخطاء الماضي، على أمل الاستمرار في التركيز على المصالح الوطنية الحاسمة الطويلة المدى.
عن فورين بوليسي
ساسة بوست