كتب

فوزي ذبيان: لبنان في مذكرات شرطي!

منير الحايك

فوزي ذبيان: لبنان في مذكرات شرطي!… ابتدع فيليب لوجون مصطلح «الميثاق السيرذاتي» (العقد القرائي) الذي يعني إقرار المؤلّف إقراراً صريحاً لا لبس فيه بأن ما كتبه صورة مطابقة عن حياته، ويمكن الإعلان عن هذا الميثاق عبر أشكال متنوعة، كالعنوان والعنوان الفرعي والإهداء والمقدمة وكلمة الغلاف، أو عبر أحاديث صحافية، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي في أيامنا هذه.

فوزي ذبيان: لبنان في مذكرات شرطي!

نحن أمام «مذكرات شرطي لبناني – 24483» (منشورات المتوسط) لفوزي ذبيان، أي أمام عنوان يوحي بما سبق وذُكِر…، لكن النص ممهور أيضاً فوق العنوان بمصطلح «رواية». لذا لا يستطيع المتلقّي التأكيد على سيرية المذكرات، ويحيلنا ذلك إلى أننا أمام نصّ إشكاليّ من ناحية التصنيف والنوع الأدبي.

يبدأ النص بإقرار من الكاتب، بأنّه، أي فوزي، يقرر الانخراط في سلك الدَّرَك، ويقول والده عنه للعميد «فوزي ذكي وطويل وشاطر، وبيعرف يحكي إنكليزي». ويخبرنا بأن رقمه العسكري هو «24483» بعد كلام الأب بسطر واحد. تبدأ الأحداث، التي نعرفها عبر البَوح أو التذكّر، مع دورة الدرك الأولى، والـ850 مشاركاً في تلك الدورة عام 1993، العام الذي شهِد انطلاقة لبنان الجديد بنسخة «اتفاق الطائف» الشهير، أي الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية. وقصدنا بالانطلاقة، عام تسلّم رفيق الحريري والمخابرات السورية وجنبلاط وبري (وجعجع لعام واحد) زمام الأمور في لبنان المستجدّ. ورغم أنّ النصّ لا يشير إلى علاقة بين أسباب انخراط الشخصية بالدرك وبين تلك الانطلاقة، إنما لا يمكن للمتلقي اللبناني الفصل بين الأمرين، وخصوصاً أنّ النصّ سيكون مُثقلاً بأخبار لبنان في تلك المرحلة، وسيكمل مع مواقف الكاتب السياسية والاجتماعية الواضحة والصارخة أحياناً.

يكمل القارئ تقليب الصفحات وفي ذهنه أنّ النص لبنانيّ الهوى والكتابة، ولبنانيّ التلقّي، وقد استمرّت قناعتنا بأنّ النصّ لن يجذب أيّ قارئ عربيّ آخر، حتى ما قبل منتصفه، عندما انتقل إلى الخدمة في الجنوب. فالكاتب آخذ في سرد تفاصيل خدمته في بيروت، ذاكراً أحداثاً تُشعِر من يعرف المدينة وشوارعها وأحياءها وأزقّتها بحنين لطيف، ونوستالجيا قد يكرهها أحياناً، بتوجيه من الكاتب. وهنا مكمن القوة الغريبة في أسلوب ذبيان، الذي كان يطلق مواقف واضحة من السياسة والسياسيين، وخصوصاً في تلك المرحلة من الوجود السوري، وطريقة حكم البلاد التي يعرفها الجميع، وهم، بمختلف مواقفهم، يجمعون على بشاعتها. تلك المرحلة تنقّل فيها في بيروت بين ثكنات عسكرية مختلفة، منذ عام التطوّع حتى عام 2002، يوم نُقِل إلى الجنوب، وهناك يأخذ السرد منحاه المختلف.

لقد خدم فوزي في طرابلس أيضاً، وحكى الكثير عن المدينة وأهلها وعلاقته بها، لكنّ النقلة المختلفة في السرد حصلت عندما انتقل إلى الجنوب. ولأنه عسكريّ، ومواقفه تجاه المقاومة أو «حزب الله» على وجه الخصوص واضح، فقناعاته كانت صريحة بأنه أقرب إلى الطرف الآخر. كانت «الصدمة» إن صحّ التعبير، عندما أصبح على تماس مباشر بعناصرها، وقد يكون السبب أيضاً تكشّف حقيقة أن لا سلطة فعلية للشرطي، والجندي، هو يردّها إلى السلاح الآخر، ولكن أسباب ضعف تلك المؤسسات كثيرة ومتشعّبة في لبنان، ومن يعرف حال هذا البلد، يعرف تلك الأسباب جيّداً، وقد ذكرها ذبيان في الكثير من المواقف التي حصلت، ولكنه ركّز مباشرة على ذلك الطرف.

الجميل في النص أنّه يستفزّ من لا يوافق ذبيان في بعض مواقفه، لكنه يقنعك لأن ما توافقه عليه من آراء وحِدّة في تلك المواقف هو المسيطر، ولأنه يقول الأمور بمسمياتها التي اعتدنا سماعها على ألسنة الناس العاديين وفي التجمعات الصغيرة في بلادنا، وخصوصاً أنت تقرأ النص بعد فشل الثورة وانفجار المرفأ وبعد الأزمة، وبعد مرور كل ذلك على خير، وعودة حكّامنا أنفسهم إلى السلطة!

لغة البَوح في النصّ سلسة وجذلة، مرّت المحكية اللبنانية في حوارات ومقاطع مختلفة، وهي مبرّرة وضرورية، لكنّ مأخذنا على النص مرتبط بلغته على مستويين: الأول تداخل بعض الكلام المحكيّ مع السرد الفصيح من دون مبرّر، بمفردات أفقدت الجذالة متانتها، أما المأخذ الآخر، وهو ما قد يراه بعضهم قوّة، هو «المسبّات اللبنانية» التي كثرت بشكل مبالغ فيه. نصّ قويّ في تفاصيله، فكما يُطالب الكاتب الفلسطيني بالتفاصيل لحفظ السردية الفلسطينية، نرى الكاتب اللبناني، ابن هذه البيئة الهجينة، الغريبة العجيبة، واجب عليه، كما فعل ذبيان، أن يحفظ سرديات هذا البلد المختلفة والمتشعّبة والغريبة كغرابته. ولعلّ مذكرات هذا الدركي واحدة من سرديات يحتاجها من سيقرأ عن بلاده مستقبلاً، رغم تشاؤم النصّ تجاه هذا المستقبل.

ونختم مع مقاطع ثلاثة من نهاية الكتاب، للتأكيد على أنّ النصّ مذكّرات وليس رواية: «ماتت أمّي بعد سنتين من تقاعدي فوق سريرها بين يديّ. أغمضت عينيها اللتين هما بوسع السماء، وأيقنتُ في التالي من الأيام أن دعاء أمّي ذاك كان بمنزلة الإنذار، فالعالم… ليس على ما يرام، ولن يكون». هذا بَوح الابن الحقيقيّ الصادق بتجربته الشعورية، ويكمل: «لستُ أدري إذا ما كانت السيرة الذاتية هي ذاتية بالفعل، فذوات الذكريات لا تتحقق إلا عبر ذواتٍ أخرى، كما أنبأني هذا الكتاب «مذكرات شرطي لبناني»». وهنا يحيلنا هذا الكلام إلى التقديم النظري لما يقوله لوجون، ليفتح أبواباً أمام التصنيف الجديد للنصّ. أما المقطع الأقرب إلى ذائقتنا، فكان ذاك المتعلّق بلبنان، من كاتب ونصّ «لبنانـِــيَّي» المحتوى والمقاصد والمتلقين: «يقول أحد الفلاسفة… إنّ التاريخ لا ينتهي، هو كلام صائب إلى حدّ كبير، وبالنسبة إلينا في لبنان، ما يزيد من صوابيته تتمّته التي تقول:… ولكنّ المستقبل قد انتهى». وهذا ما يجعل المتلقّي، اللبناني والعربي، يكتشف أخيراً بأنّ النصّ كان يقصده ويقصد بلاده أيضاً.

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى