فوضى القيادات في المعارضة السورية (ميشيل كيلو)
ميشيل كيلو
ليس هناك ما هو أفضل للحياة الديموقراطية من تنوع التنظيمات والقيادات. ولا تقوم الديموقراطية أصلا على التنظيم الواحد والقائد الواحد والفكرة الواحدة، ولا تعيش إلا في أجواء مفتوحة على التعدد ضمن فضاء يتيح الحركة الحرة لجميع مكوناته الجماعية والفردية، من دون ان تصطدم بعنف او تكون علاقتها عدائية، او أن تسوي خلافاتها بوسائل غير سلمية: حوارية ومتوازنة، على أن ينظم تعاملها داخل هذا الفضاء على أسس وقيم جامعة تلزم الأطراف المشاركة فيها، بما يجعل خططها السياسية قراءات مختلفة لهذه الأسس لا تقوم على إبطال ما هو مشترك فيها، ولا تمنع في الوقت نفسه قراءتها بأوسع قدر ممكن من التفرد والتميز.
لا حياة حرة وديموقراطية من دون تنظيمات متنوعة، تلتزم بالعام والمشترك والمتوافق عليه، وتعرف كيف تقدم قراءات متنوعة ومختلفة لهذا العام والجامع كناظم للعمل العام في المجالات التي تمس بوحدة الوطن: دولة وجماعات مجتمعية. هل تنتفي الديموقراطية بانتفاء الانتخابات الحرة؟ اعتقد أنها لا تنتفي إلا إذا انتفى هذا الفضاء المجتمعي والسياسي المفتوح على التنوع والاختلاف والتفاعل، المنضبط بالسلمية والحوار، برغم انها تبلغ أقصى مداها بفضل الانتخابات الحرة، التي تعبر عن الإرادة العامة وتركيبها في لحظة تاريخية معينة من حياة الجماعة الوطنية، وتشير إلى خياراتها ومواقفها من القضايا المطروحة عليها.
لا تستقيم الديموقراطية في ظل قيادات تعيش حالة تنافس غير منضبط يمكن ان ينقلب في أي وقت إلى فوضى، مثلما هي حال ساحة المعارضة السياسية اليوم، التي تغرق في بحر من الخلافات رغم ما تدّعيه جميع أطرافها من وحدة في المنطلقات والأهداف، وتؤكده حول وجود خلافات محدودة في أساليبها، لكن الغريب انها لا تجد ما يكفي من مشتركات تدفعها إلى اعتماد السلمية والحوار في علاقاتها، والإقرار المتبادل بحق كل منها في تقديم قراءة مختلفة حول ما هو مطروح في الساحة السياسية من قضايا ومسائل ومشكلات، وبضرورة التعامل معه انطلاقا من الإقرار بشرعية وجوده، لأن وجوده ضروري لتشكيل الفضاء المفتوح الذي لا توجد حرية او ديموقراطية بانفتائه.
ما الذي يمكن قوله عن معارضة موحدة الأهداف والمنطلقات والوسائل، لكنها لم تجد بعد ما تتفق عليه رغم مرور قرابة عامين على صراع قاتل يخوضه النظام الحاكم ضد شعبها وضدها؟ وإلى ماذا يجب ان نعزو هذه الظاهرة الغريبة وغير المفهومة او المقبولة، التي تتلخص في عجز قياداتها عن إبداء الاستعداد الضروري للتغلب على خلافاتها او تجاوز ما بينها من خصام وشقاق، مع انه تسبب بكوارث حلت بشعب سوريا، الذي يقدم يومياً نهراً من دمائه، من أجل تصحيح أخطائها وتخطى ما تضعه في طريقه من عقبات ومصاعب، مع أنها لا تقوده إلا من مصيبة إلى أخرى ومن المآسي إلى الكوارث؟
عرفت المعارضة السورية خلافات على مستوى قياداتها لم تتجاوزها حتى في الحالات التي شهدت تحالفات مديدة بين تنظيماتها. هذه الخلافات، جرتها إلى فوضى ضاربة مزقت ما كان بينها من إرادة موحدة، وفرقت صفوفها، التي بقيت متصلة برابط واه وضعيف، مثلما وقع في «التجمع الوطني الديموقراطي السوري»، الذي اعتقلت السلطة ولاحقت أطرافاً منه من دون غيرها، لكن من لم تلاحقهم أحجموا عن إبداء أي قدر جدي من التضامن مع حليفهم الملاحق والمعتقل، كأن إضعاف أحد أطراف التجمع وقمعه لم يكن يضر بهم، او كأنه لا شأن له بشريكهم. وإذا كان من الممكن إعادة هذا الوضع المثير للاستغراب إلى تباين طبيعة التنظيمات، فإن دور فوضى وخلافات القيادات فيه لم يقل أهمية عن دور هذا التباين، إن لم يكن أكثر أهمية منه، فقد تعددت القيادات وتضاربت اراؤها، وشرعت تدين بعضها بعضاً، مع أنها لم تتوقف عن عقد اجتماعات «أخوية» سادها التوجس وغلبت عليها الشكوك المتبادلة، فأي عمل يمكن ان ينجح في ظل قيادات تعمل في أجواء كهذه.
إذا ما انتقلنا إلى الواقع الحالي، وجدنا فوضى القيادات أشد وخلافاتها أسخف مما كانت عليه في أي زمن مضى. بعد ان تحولت علاقات القيادات إلى مجموعة مكائد محكمة، مفعمة بروح الغدر والأقصاء والطعن في الظهر، نتجت اولا عن حسابات متضاربة أشد التضارب، حجبتها عن الأنظار خطابات وحدة، لا قصد منها غير منع الشعب من رؤية الخلافات والاحتجاج عليها او المطالبة بوضع حد لها، ونتجت ثانياً عن تعارض أهداف القادة، الذين تصارعوا بجميع الوسائل والأساليب ونصبوا الأفخاخ بعضهم البعض، وعقدوا تحالفات ضد خصومهم من خارج التحالف القائم بينهم، الذي انقلب بالضرورة الى تحالف صوري لا قيمة له، وقاموا بخطوات ملموسة تحط من مكانة منافسيهم المفترضين وتقيد دورهم باسم الحفاظ على خط سياسي وهمي مشترك، وزاحموا خصومهم داخل المجلس بالاكتاف والمناكب على كل كبيرة وصغيرة، حتى ان اتفاقاً وقعه رئيس المجلس جوبه باحتجاج مكتوب وقعه مئة وستة عشر عضوا من أعضائه ونشروه خلال ست ساعات من التوقيع، فكأنهم كانوا يتربصون به وباتفاقه الدوائر، او كأنهم رتبوا بإتقان للأمر قبل وقوعه، ضاربين عرض الحائط بما كان سلوكهم يعنيه من انتهاك لحقه في احترام توقيعه بصفته رمزا وطنياً لا يجوز لإخوانه في المجلس إهانته، لما يلحقه ذلك من ضرر بالقضية الوطنية برمتها. في هذه الاثناء، كان أعضاء المجلس من الكتلة الإسلامية يحرصون على إصدار بيانات تخالف أقوال الرئيس ومواقفه، في مختلف المسائل التافهة والمهمة، مع ما أحدثه سلوكهم من فوضى في القيادة.
ترجع فوضى قيادات المجلس الى اختيار معظمها من قبل الخارج، وتبعيتها لمؤسسات وهيئات عابرة للوطنية، ذات ارتباط واه بالوطن الذي غابت عنه لفترة طويلة جداً لم تفعل خلالها أي شيء من أجله. كما ترجع الى تدني، وبالأصح انعدام، مستواها الثقافي وتهافت مستواها السياسي، الذي جعلها تعتبر السياسة فاعلية تآمرية ترى الوطن بدلالة المصالح الشخصية ومصالح التنظيم، وتتنكر لأي التزام وطني جامع او طويل المدى تجاه أي طرف او قضية. وترجع، أخيرا، الى تعلقها بالسلطة بوصفها مركز وغاية أي جهد عام، وبالسياسة مفهومة كصراع على السلطة لا يعرف التهاون ولا يقر بوجود صداقات دائمة، لحمته وسداه التمييز بين المواطنين، وإجازة جميع أنواع الأساليب والوسائل التي تتيح تحقيق الهدف الخاص، مهما كانت فاسدة.
لا عجب ان قيادات المجلس عززت فوضى التنظيمات بدل ان تحد منها او تقيدها، واتفقت على ما كانت مختلفة عليه واختلفت على ما اتفقت عليه في آن معاً، وسط علاقات كان من مصلحتها ان تسيطر عليها فوضى البرامج والخطط والأهداف، الموحدة شكلا المتباينة ممارسة ومضموناً إلى درجة التناقض، وتغرق في بحر من التكاذب المتبادل، الذي تمارسه عادة تنظيمات لا تعرف اصول الصراع الديموقراطي، فتتصارع مع «حلفائها» في المعارضة أكثر مما تصارع السلطة، من دون ان تمتنع عن إصدار اعلانات تمويهية تتعهد فيها باحترام الرأي الآخر والموقف المختلف!
تبرز فوضى القيادات من خلال الخطوات التي تصدر عن جهات إسلامية متطرفة، تظن أنها تناضل ضد النظام، مع ان خطها يخدمه تماماً، ويقنع بقية العالم بأنه كان على حق عندما رأى في الثورة السورية مؤامرة إسلامية تهدد دول المنطقة اكثر مما تهدده هو، وزعم انه يدافع عنها اكثر مما يدافع عن نفسه. الغريب، ان هذه الحماقات المتطرفة والتمزيقية لم تلق أي رد فعل جدي من منظمات تدّعي الاعتدال وتطالب بأن تكون مرجعية الشعب، التابع لها، لمجرد انه شعب مسلم، فهل كان سلوكها تعبيراً عن فوضى ضربت أطنابها في المعسكر الإسلامي، ام كان هو الفوضى القيادية التي مزقت صفوف المعارضة، لا لشيء إلا لأن هذه كانت طريقتها في تذكير الشعب بوجودها، ولأنها لم تجد مخططاً أفضل تتبعه غير تمزيق صفوف الشعب وحرق قياداته ورموزه التاريخية، في شهادة جديدة وقاطعة على العجز عن القبول بالآخر والمختلف، رغم «العهدات الوطنية»، التي تشبه المنهاج المرحلي لحزب البعث الأسدي، الذي باسمه قمع السوريون واحتجزت حياتهم السياسية طيلة قرابة نصف قرن، رغم حديثه المتكرر عن «الديموقراطية الشعبية».
لن تخرج المعارضة السورية، ومعها حياة سوريا السياسية، من مأزقها الراهن، ما لم تضع حداً لفوضى قياداتها، التي تلعب دوراً خطيراً في إطالة عمر النظام، وزيادة أعداد الشهداء، وحجب القضية السورية وراء جدران سميكة من الغموض المقلق للسوريين. ولن تبني سوريا نظاماً جديداً في ظل فوضى القيادات الحالية، التي تنتمي إلى ماضي بلادنا السياسي اكثر مما تنتسب إلى حاضرنا القائم، الذي تخطاها وتجاوز احزابها إلى غير رجعة. متى تفهم المعارضة وقيادتها هذه الحقيقة، وتقرر الانسحاب من الشأن العام؟
أخيراً: هل يعقل ان تبقى قيادات المعارضة على ما هي عليه من تمزق وتصارع أحمق، وأن يكون هناك هذا العدد الهائل من قيادات لا عمل لها إلا الشغل ببعضها وبقضية الحرية المقدسة، بينما لا توجد اية قيادة حقيقية على مستوى المجتمع ذاته، رغم ما ضحى الشعب به من بناته وأبنائه على درب حريته، الذي تفرشه بالأشواك قيادات تدّعي بأصوات صاخبة تمثيله والنطق باسمه؟
صحيفة السفير اللبنانية