فينوس غاتا والسنوات الأخيرة للروسي ماندلشتام
مَن لديه القدرة أكثر من الشاعر، على الانزلاق تحت جلد شاعرٍ آخر وإيجاد الكلمات الصائبة لقول محنته؟ من هنا قيمة النص الذي رصدته الشاعرة اللبنانية فينوس خوري غاتا لقراءة السنوات الأخيرة من حياة الشاعر الروسي أوسيب ماندلشتام (1891- 1938)، وصدر حديثاً عن دار «مركور دو فرانس».
لماذا ماندلشتام تحديداً؟ لأنه شاعر كبير طبعاً ويستحق مثل هذه القراءة، ولكن خصوصاً لأنه توفي ممسكاً بقلمه بعزم مَن قرر «الكتابة حتى النبض الأخير في عروقه»، بعدما عانى الأمرّين بسبب بيت شعري واحد سخر فيه من الطاغية ستالين وكانت كلفته السجن، ثم النفي من موسكو إلى معسكرات اعتقال مختلفة، والجوع أينما حلّ. بيتٌ شعري لم ينكره ماندلشتام أبداً، ولهذا نراه يتكرر داخل نص الشاعرة مثل لازمة أو موسيقى مأتمية: «لا نسمع سوى قروي الكرملين/ القاتل ومفترس البشر».
انطلاقاً من جهدٍ بحثي جاد وعميق، تؤازره مخيّلة قادرة على سد النقص في المعطيات المتوافرة، تخطّ فينوس بقلمٍ أسوَد بورتريه دقيقاً ومتعدد الأبعاد لشاعرٍ كان يردد قصائده حتى اللحظة الأخيرة، خوفاً من أن يموت قبل الفراغ من تأليفها. ولمسة إثر لمسة، من دون أي كلمة زائدة، تسرد حياته عبر سلسلة مشاهد مؤثّرة وصورٍ صاعقة.
يبدأ النص وينتهي بمشهد ماندلشتام على شفير الموت في المعتقل، رافضاً أن يأكل، فيمسك الجالس بقربه بذراعه ويرفعها، أثناء توزيع الخبز، للحصول على حصّته. وقبل حالة النزْع هذه كان «ثائر سان بطرسبرغ السابق» قد حاول المستحيل لمتابعة الكتابة، على رغم حظر نشر أعماله، ففي الشقق الجماعية التي سكنها، وكانت دائماً تعجّ بالوشاة، كان يلقي قصائده ليلاً على زوجته ناديا التي كانت تدوّنها وتوزّعها على أصدقائهما، قبل أن تنجح، بعد وفاة زوجها، وخصوصاً بعد وفاة ستالين عام 1953، في جمعها ونشرها. أصدقاء دفع العديد منهم غالياً ثمن هذا الوفاء للشاعر، «فرُحّلوا من منازلهم واعتُقلوا وعُذّبوا، قبل أن يلاقوا نهايةً مأسوية» مثله.
تروي فينوس كل هذا في نصّها، متوقّفةً خصوصاً عند الجوع الذي اختبره ماندلشتام وزوجته بشكلٍ يومي، فالنقص في الغذاء كان كبيراً بحيث كان أحد جيرانهما يقتات من شيّ الفئران وهي حيّة، فيرتعدان لدى سماع صريرها قبل أن تلفظ نفسها الأخير. أما الشاعر فاضطر إلى تكرار طلب المساعدة المادّية بشكلٍ شبه يومي من أصدقائه السابقين، مثل بوريس باسترناك، لسد رمقه ورمق زوجته. وهل من حلٍّ آخر خلال حملة التطهير الكبرى التي قادها ستالين خلال الثلاثينات؟ حملة تذكّرنا الشاعرة بطبيعتها ونتائجها الرهيبة: 700 ألف قتيل نتيجة الاعتقالات والإعدامات، والعدد ذاته من القتلى نتيجة الجوع المنظَّم.
من نص فينوس نعرف أيضاً أن ماندلشتام اعتُقل للمرة الأولى عام 1934، قبل أن يُنفى من موسكو إلى مدينة تشريدين، ثم إلى فورونيج. وفي أيار/ مايو 1938، حُكم بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة وأُرسِل إلى معسكرات سيبيريا.
وفي قلب هذا الجحيم، حيث «كان نصف الواصلين إلى هذه المعسكرات يموت في الأسبوع الأول»، عاش الشاعر أشهراً قليلة قبل أن يفارق الحياة. أشهُر عانى خلالها من البرد والمضايقات اليومية والحرمان، ومن الجوع أيضاً ودائماً، إلى جانب تعرّفه إلى مآسي معتقلين كثر، كعازف الكمان الذي تحمّل جميع ظروف الاعتقال المرعبة قبل أن يموت فور حرمانه من كمانه، أو السجين الذي أُوقِف ونُفي إلى سيبيريا لقطفه تفاحة من بستان يملكه أحد أفراد الشرطة السياسية، أو حفّار القبور بالذات الذي اضطُّر من أجل سد جوعه إلى التهام العشب الذي ينبت في أرض المقبرة. وخلال هذه الفترة، تجعل الشاعرة ماندلشتام يتذكّر فصول حياته على وقع أزمات الهلوسة التي كانت تنتابه، بدءاً بطفولته التي عرف فيها يُسراً وحياة هنيئة نسبياً، مروراً بحماسة الثورة في مطلع شبابه، وانتهاءً بكابوس النبذ والنفي والاعتقال.
ويهزّنا نصّ فينوس لكتابتها إياه على شكل مشاهد متسلسلة، ولكن خصوصاً لجعلها كل مشهد من هذه المشاهد يحفر عميقاً في نفوسنا. ولا شك في أن نجاحها في ذلك يعود إلى قدراتها الكتابية الفريدة، وخصوصاً إلى اقتصادها في الكلام والوسائل الذي مكّنتها من شحن نصّها بطاقة شعرية كبيرة. وبذلك تكون قد طبّقت على أكمل وجه ما كتبه الشاعر الروسي برودسكي عن مواطنته مارينا تسفيتاييفا («التخلّص من الفائض هو بذاته صرخة الشعر الأولى»)، لا لشيء سوى لإنصاف رجلٍ لم يكن قد تبقى له سوى الكلمات.
وتكمن قوة نصّها أيضاً في جعلنا نتيه داخل تسلسل أحداثه فنختبر ما عانى منه ماندلشتام بالذات في سنواته الأخيرة، أي اختلاط فصول حياته في ذاكرته وفقدانه خيط تسلسلها التاريخي الصحيح، ونتعرّف إلى سبب ذلك، أي سعي ستالين الحثيث وتمكّنه في النهاية من تدمير الشاعر جسدياً ونفسياً. وبتوقّفه أيضاً عند معاناة أصدقاء ماندلشتام، مثل الشاعرتين أخماتوفا وتسفيتاييفا، وأولئك الذين كانوا مسجونين معه، ينجح هذا النص أيضاً في تصوير عملية التدمير الشاملة التي اضطلع ستالين بتنفيذها ضد أبناء وطنه.
باختصار، تمنحنا فينوس في سرديتها صورة مفصّلة ومؤثّرة عن صراع ماندلشتام الخاسر سلفاً ضد «قروي الكرملين»، كاشفةً عند كل فرصة بربرية حقبة الثلاثينات في روسيا، ومبيّنةً في الوقت نفسه كيف أن الزمن يقلب غالباً نتيجة الصراعات التاريخية فيتحوّل الخاسر إلى منتصر أبدي. فبفضل كتابتها الحسّاسة وحسّها الدراماتورجي العالي، ها هي تعيد إحياء هذا الشاعر الكبير وأسطورة نضاله، مثبتةً بنصّها، وأيضاً بنصوص ماندلشتام الكثيرة التي تطعّمه، أن الأدب هو أحد أنجع الوسائل لمكافحة البربرية.
يبقى أن نشير في النهاية إلى تعمُّد الشاعرة نشر القصيدة التي انتقد ماندلشتام فيها ستالين في خاتمة نصّها، وذلك كشهادة على الجهد الجبار الذي بذلته زوجته ناديا من أجل جمع ونشر قصائده التي كانت متفرّقة في مختلف أنحاء روسيا، وبالتالي كي تكون الكلمة الأخيرة للشاعر في صراعه مع الطاغية.
من قصيدة ماندلشتام التي أدّت إلى توقيفه في أيار 1934: «نعيش من دون أن نشعر ببلدنا تحت أقدامنا / على مسافة عشر خطوات، بالكاد تُسمَع أصواتنا / لكن يكفي لقاء خاطِف /لاستحضار قروي الكرملين / أصابعه السمينة دهنيّة مثل ديدانٍ / وكلماته تقع كأثقال تزن مئة كيلو / يضحك في شاربيه الصرصارين الكثّين / وجذمته اللامعة تمسك بالبصر / لُمامة من القادة برقابٍ نحيفة تحيط به / أنصاف رجالٍ متحمّسون يتلاعب بهم ليلاً نهاراً / واحد يصفر، وآخر يموء، وثالث ينوح».
صحيفة الحياة اللندنية