في الزَّمن والإبداع وفوضى بورخيس
الهجرة.. هجرة الذات المُبدعة في مكانها، أو عنه إلى أمكنة أخرى، وكلاهما معاً في الزَّمن المتحوّل.. هذه الهجرة تظلّ أمراً إيجابيّاً أشمل بالنسبة إلى المُبدِع، وعليه اختراعه دوماً لأجل جوهر الحال الإبداعيّة عينها.. وكذلك ضروراتها التي تظلّ تتحدّد بالضرورات الخاصّة بها.
في الهجرة بالمعنى المزدوج أيضاً، ثمّة نوع من تضحية تعويضيّة منعزلة، تُسهم في الانقلاب على حالها، لأنّ الهجرة هنا توكيدٌ للقبض على خصوصيّة مركّبة في التاريخ. إنّها حركة الذّات داخل الماضي، وثباته أيضاً؛ فالمُبدِع محروم دوماً من مستقبله المُباشر، تماماً مثلما هو محروم من ماضيه المُباشر.. والهويّة بالنسبة إليه هنا هي النصّ الإبداعيّ كما يعيشه، أو على الأقلّ كما يكتبه. ولا جدال في أنّ ثمّة عناصر ثابتة في هذه الهويّة، وهي صفة أو سمة المُبدع في صاحبها.
على أنّ هذا لا يعني في المقابل، أنّ المُبدع لا يعرف كيف يصون “توازنه” أمام المضاعفات.. على العكس، إنّما المعنى هنا أنّ المُبدع لا ولن يصل البتّة إلى حلٍّ لمضاعفاته أو أسئلته الإبداعيّة؛ فالنصّ لديه يظلّ يولَد ويتوارى كلّ يوم على أرض التنافس والقلق عينه فيه.
إنّ المُبدع في هذا المعنى كائن آخر، يشبه الطبيعة بتناقضاتها وأسرارها وانقلاباتها على حالها، حتّى من ضمن كتلتها الجامدة الصارمة.
والمُبدع مُهاجراً في المكان والزمان، يظلّ مُعادَلة مكوَّنة من هذا المزج الوجودي الطمّاح إلى استقصاء تلك العلاقة المُفترَضة في ما بين “الذكرى” والارتباط التلقائي بما ستولّده اللّحظة.
المبدع يبحث إذن عن مناطق لا يقبض عليها إلّا في “وهمه”، وربما في جسده الذي يزداد غموضاً يوماً عن يوم.
المُبدع بمعنى آخر، يتبع ضرورته التي يحدّدها هو، أو أنّه في صدد تقليد هذه الضرورة وعدم التغافل عنها يومياً. إنّ لديه هذا الإحساس العميق بأنّه خارج الأمكنة والأزمنة كلّها دفعة واحدة. إنّه بلا قدر ولا زمان ولا صيرورة إلّا صيرورة نصّه “الماكر” و”المرتاب” في كلّ شيء.
مع بورخيس في منزل ليونور غونزاليس
في باريس، وفي منزل الناشطة الثقافية الفرنسية من أصل أرجنتيني السيّدة ليونور غونزاليس، التقيت برئة أميركا اللّاتينية، الأديب والشاعر الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس، وسألته عن علاقته كمُبدع بالزَّمن وتحوّلاته فأجابني: وحده الإبداع يجمع النسبيّ مع المُطلَق في حقلٍ إبداعي أو معرفي أو فلسفي واحد، قد يكون قصيدة أو نصّاً روائياً.. أو نصّاً علمياً في قالبٍ أدبي..(الخيال العِلمي). ولكنّ هذا النصّ الإبداعي، يظلّ أيضاً محاولة ناقصة في التجرّؤ على الزمن، لكنّها محاولة لا بدّ منها، لأنّه لا بديل عنها كسلاح للمجابهة بالسؤال والمعرفة التي قد تعيد، وعلى الطريقة الهيغلية، دمج العقل بالفكر التساؤلي الذي يستنبطه، وذلك كي تأتي الأمور أكثر نفاذاً، وأقوى حدوساً حسيّاً متدافعاً. ومنذ أن تحوّلت المعرفة العلمية إلى معرفة تقنية، وتجسّدت الفكرة بالآلة، تعقّد مشهد الزمن أكثر بالنسبة إليّ، وأصبحت المواجهة، مواجهتي له، أصعب من ذي قبل. لكنّني كنتُ وسأظلّ أواجه الزمن بالمعرفة ومتاهاتها، آخذاً بعَين الاعتبار المفاهيم الجديدة أو المستجدّة للمعرفة. فالعالَم بالنسبة إليّ موضوعٌ لامتناه، واللّامتناهي لا يُمكن مواجهته إلّا بالمتاهة واللّايقين.
= أنت سيّد المتاهات والفانتازيات، وأدبك إجمالاً يقوم على لاهوت الخرافة وغزارة المخيال لديك، ومن يقرأ كتبك، وأزعم أنّني من متابعي إصداراتك بانتظام، يخلص إلى نتيجة مفادها أنّ بورخيس، إنّما هو هذا العدمي المُستنير، والذي يتحدّى العدم بالعدم ذاته، والزمن بالزمن ذاته، فما هو تعليقك..
أجابني بصوته المتهدّج مع شيءٍ من السعال:
– لستُ أنا مَن يفرض تحدّيه للزمن.. الزمن هو الذي يفرض عليّ تحدّيه، سواء أقبلتُ أنا بالأمر أم لم أقبل. لا بدّ لي إذاً من أن أتنكّب هذه المواجهة المفروضة، والتي تتّخذ شكل النصوص التي تقرأها، وأقرؤها أنا معك، كقارىءٍ منفصل أو غريب عنها، حتّى ولو كنتُ أنا كاتبها والموقِّع عليها. أجل، أنا اقرأ نصّي في ما بعد إنجازي له، كما أقرأ نصوص الآخرين تماماً، فبورخيس الذي يكتب، هو غير بورخيس الذي يقرأ ما كتبه واستنتجه ونقده وحاوره وسفّهه أيضاً..
تسفّه حتّى نفسك؟! أجاب: نعم.. نعم بالتأكيد، فالنصّ الذي أنجزته، لم يعُد محسوباً عليّ، ولا هو خاصّتي، حتّى ولو كان ممهوراً باسمي؛ وعندما أرى في هذا النصّ البورخيسي المُحايد ما يوجِب التسفيه، أسفّهه؛ وعندما أرى فيه ما يوجِب المدح أمدحه.
= تماماً كما يُقال بالفلسفة، إنّ نقد العقل هو من إنجاز العقل نفسه.. أليس كذلك؟
– بلى، بإمكانك أن تقول كذلك، مع فارق أن المتفلسف إجمالاً، يظلّ جديّاً وغير حرٍّ بالكامل إزاء مقولاته، بخلاف الشاعر مثلاً، الذي يظلّ حرّاً حتّى من قيد نفسه، وقيد صنيعه. هيغل تكلّم مراراً عن حيلة التاريخ ودهائه، ولكنّه لم يتجاوز في هذا الموضوع أكثر من ذلك؛ وهو على العموم، ظلّ مثل سقراط يقول إنّ ما يريد الفكر أن يحقّقه هو بلوغ الشيء أو جوهره، وإن في نسق عقل آخر أو ذاتٍ متفلّسفة أخرى.
= عودة إلى الزمن وتحدّيه.. الزمن هو ما نجهله إذن، وما يتحدّاك يا سيّد بورخيس هو ما تجهله.. أليس كذلك؟ ولكن هَب أنّ المجهول كلّه، صار معلوماً كلّه، فماذا أنتَ فاعل إزاء ذلك؟
– عندما تسأل سؤالاً كهذا، تفترض أنتَ بمعنىً آخر، أنّ المعلوم صار مفهوماً بالضرورة، ولكنّ الفهم يا صاحبي، هو غالباً ما يُعيد خلق الأشياء على مستوى تصوّرات ومفاهيم واستنتاجات. وهنا تكون قد قطعتَ مرحلةً من التساؤلات التي لا تنتهي، أو ينضب معينها، وأنتَ بالتالي لا تستطيع أن تحدِّد مسافة هذه التساؤلات ولا أهمّيتها.. ما تستطيعه أنتَ هو أن تتساءل.. وتتساءل فقط.
= ولكنّ الفهم يا سيّدي هو عمليّة إبداعيّة أيضاً.. الفهم خالق المعرفة يا سيّد بورخيس.. أليس كذلك؟
– أيّ معرفة تقصد؟!.. أين هي هذه المعرفة، سواء أكانت بمنظور العِلم أم بمنظور الفانتازيا، وما محلّها من الإعراب أمام هذا العملاق الذي اسمه الزمن أو العدم.. أنتَ هنا مثلي، وكلانا مثل غيرنا، وما أكثرهم.. ترانا جميعاً “نخربش” على جدار الزمن، والزمن لا يدري أصلاً ما إذا كنّا “نخربش” عليه أم لا.
= ثمّة شاعر إزتيكي قديم (ومَن غيركَ كأميركي لاتيني أخبر بقوم المايا والإزتك وحضارتهم التليدة المتطوّرة جدّاً في زمنها، أي قبل أن يدمّرها بالكامل الغازي الأبيض بقيادة كولومبس وإرنان كورتيس منذ أكثر من 500 سنة؟) يقول: “التقطوا ما تبقّى منّا/ نحن هنا من دمارنا نزهر/ من دمارنا نعلّم الجميع بلا حساب/ فلا تخسرونا من جديد/ لا تخسروا شمسنا الداخلية/ التي لا بدّ ستسطع عليكم/ كما سطعت على غيركم من قبل/ فأطفأها جهلهم وطمعهم/ لا تخسرونا من جديد/ فتخسروا بالتأكيد رحلة مُثمرة/ رحلة مديدة لآلاف السنين/ على دروب العِلم والفلسفة/ فوفّروا على أنفسكم إذاً/ وفّروا آلافاً من السنين اللّاحقة/ فتركبوا باقتدار سفن زمن آخر/ غير زمنكم هذا/ الذي يتخبّط بكم وتتخبّطون به/ التقطوا ما تبقى منّا/ وإن كان مدفوناً تحت دماركم الأوّل لنا/ التقطوا ما تبقّى منّا/ نحن الزمن اللّاحق/ نحن الإبداع اللّاحق غير المعلّب بتجاويفكم/ ولا تكونوا مثل أسلافكم/ مملّحين بالكراهية وشهوة الدم”… ماذا تقول في هذا النصّ الشعري المكتوب باللّغة الناهواتليّة، وهي اللّغة القديمة للأزتك، تولَّت ترجمته السيّدة غونزاليس إلى اللّغتَين الإسبانية والإنكليزية، وهو نصّ يمسّ علاقة الإبداع بالزمن.. أو العكس، ومحاولات اختراق الزمن واختزال مراحله بالإنجاز العلمي والفلسفي وحتّى الفنتازي، والذي كان قوم الأزتك قد سبقوا البشرية ربما بأكملها فيه؟
علّق بورخيس بالقول بعدما أمسك عصاه السوداء بيديه الاثنتَين مُتسائِلاً: أما قلتُ لكَ إنّ النصّ الإبداعيّ هو عَين الاختراق المطلوب للزمن، وهو ما يُعوّل عليه، تماماً مثل ذلك الخطّ اللّاحم بين الفكر والوجود، أو بين العِلم والكينونة؟!.. ثمّ إنّ العقل العلمي القديم الذي انطلق من اللّايقين الأزتيكي، هو الذي قدّم إنجازاً لا يزال الجميع يشيد به، وهو الذي تحدّى الزمن، لكن مع الأسف، يظلّ الإنسان يخرّب كلّ شيء على الرّغم من دأبه لبناء كلّ شيء. ومَن يدري كيف كانت ستكون عليه البشرية من انفجارات وإنجازات علمية، في ما لو لم يُدمِّر المستعمرون الأوروبيّون كلّ هذا الإرث العِلمي والفلكي المشهود لحضارة المايا والإزتك. وأنا في الحقيقة، لا أستبعد البتّة ما قيل ويقال عن أنّ أجدادنا في وادي المكسيك، وعموم أميركا الوسطى، كانت لهم اتّصالاتهم العِلمية المتطوّرة جدّاً (بمقاييس ذلك الزمان طبعاً) مع كواكب عديدة داخل النظام الشمسي وخارجه. لقد ابتكروا، ولا شكّ، معادلاتهم العلمية والهندسية والرياضية الخصوصية التي أهّلتهم لارتياد ما ارتادوه في زمنهم، وكانوا سبّاقين على غيرهم في ذلك الارتياد.. وذلك كلّه بالتشارك الاندماجي طبعاً مع سائر تفاصيل طقوسهم وحدوساتهم وسحر معتقداتهم وخرافاتهم التي نشأوا عليها وصارت جزءاً لا يتجزّأ من شخصيّتهم وقوانين نهضتهم وتطوّرهم.
جرّافة أدبيّة
خورخي لويس بورخيس فوضويُّ إبداعٍ بامتياز. نصّه الشعري أو القصصي، يبدو غالباً خارج منطق المعايير والأنواع والمدارس والنظريّات النقدية والأدبية المُتداوَلة، ولذلك صنّفوا تجربته بأنّها من فضاء أدب ما بعد الحداثة، وقال البعض الآخر، إنّ بورخيس قد يكون أحد روّاد اتّجاه ما بعد.. بعد الحداثة. عالَم الرجل شاسع جدّاً كما الصحراء، تتآلف فيه الأشكال والأجناس الأدبية المتفرّقة والمتناقضة.. كما تتأجّج فيه أفكار اللّامعقول الصارخة، والتأمّلات واللّحظات الفارِقة، وحتّى ثورة الصمت المفتوح. وصفه مرّة الروائي المكسيكي كارلوس فونتيس في حوارٍ كنتُ أجريته معه، ونشرته إحدى الأسبوعيّات اللّبنانية، بأنّه “الجرّافة المتحرّكة التي تجتاح كلّ شيء أمامها، وليس لهذه الجرّافة الأدبية أيّ أوهام تتعلّق بالغلبة والمُغالبة”. كما أنّ دماغه الموسوعي، كشاعر وقاصّ خصوصي، لا يُمكن أن يفيض باليأس الإبداعي بتّةً، بل إنّ من ميزة بورخيس أنّه لا يعرف شيئاً اسمه اليأس الإبداعي.
بورخيس متفرّد دائماً بلغته كانفراده بذاته، وبعَماه الأسطوري الذي يشتغل من خلاله على الزمن كمخزونِ أسرارٍ استراتيجيّ. تحسّ وأنتَ تحاوره كأنّك أمام سَيلٍ جارف من الحدوس العالية المُتدافعة، أو أمام مجموعة أشخاص وأقنعة متبدّلة، يختزلها جميعاً في رجل واحد. تراه يؤوِّل كلّ شيء تأويلاً حيويّاً يحميه من الانفصال عنه، ويُذكي ميله للسفر الخصوصي فيه. ولقد أسرّ لي عندما التقيته في باريس في آذار/ مارس من العام 1983، أنّه يشتغل على أطروحة ثقافة الجسد، وأنّه سيقدّم في ذلك مباحث غير مسبوقة على حدّ زعمه؛ فالجسد كما يقول بالحرف الواحد “هو مكان اللّقيا الحقيقية للوجود الفردي، ولمعمارية الكَون كلّه في آن معاً، وهو محلّ المعرفة، وصانِع كلّ لحظة تبئير، ونقاط تبئير لوجودي، ولاستحضار غيابي وغيبوبتي معاً”.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسّسة الفكر العربي)