في المقهى، شاهد السوريون انطلاقة التلفزيون!
دمشق ــ خاص بوابة الشرق الأوسط الجديدة
كانت الحكاية حكاية المقهي، فما من مقهى في دمشق إلا ويجري فيه السؤال على ألسنة الجالسين : “هل سنتفرج على الإذاعة ، وتظهر صورة المذيع مثل السينما ؟!” وقال بعض الجالسين . إنه شاهده . فاسمه التلفزيون، وهو أكبر من الراديو بثلاث مرات ، ويشبه الصندوق الخشبي وله طرف من الزجاج يظهر فيه المذيع في الإذاعة !
كان ذلك في شهر تموز قبل ثمانية وخمسين عاما، وانتظر الناس عدة أيام قبل أن ينتشر الخبر بين الناس، بأن الدولة ستوزع أجهزة التلفزيون على بعض المقاهي ليشاهد الناس افتتاحه !
نعم ..
ففي مساء الثالث والعشرين من تموز عام 1960 .. أضاءت الصناديق السحرية التي صار اسمها الشاشة الصغيرة ، أضاءت أمام دهشة المتجمعين حولها في المقاهي والساحات العامة. وظهر الدكتور صباح قباني على الشاشة، وأعلن انطلاقة التلفزيون العربي السوري، من أستوديو جبل قاسيون بصفته أول مدير له ..
كانت سورية قد شهدت قبل أكثر من عامين على ذلك التاريخ إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة بين الرئيسين السوري شكري القوتلي، والمصري جمال عبد الناصر، وقد ولد مع التلفزيون العربي السوري تلفزيون توأم في مصر، وقد جاءت انطلاقة البث التلفزيوني بمناسبة ذكرى ثورة تموز، وكان الجميع مشغولين بالحدث، فهذا الحدث الكبير، جاء بعد عشر سنوات فقط من ميلاد أول شبكة تلفزيونية في العالم في مدينة نيويورك الأمريكية..
وسريعا تشكلت طواقم العمل، وأخذت تشق الطريق الواسع الذي نسير فيه اليوم . اشتغل الرواد على أول مرحلة في إنتاج البرامج التلفزيونية والدرامية، وكان الشغل يجري على ثلاثة خطوط هي :
الدراما التلفزيونية .
الأخبار .
البرامج .
كانت سورية تخوض غمار بناء حضارة عظيمة بعد استقلالها الذي قدمت من أجله تضحيات كبيرة، ومثلما هو الإبداع يشق طريقه في المسرح والسينما والإذاعة شهد التلفزيون إبداعات متتالية، من بينها ولادة أول بذرة درامية للكوميديا من خلال برنامج الإجازة السعيدة .
أطل الفنان الكبير دريد لحام عبر الشاشة الصغيرة، ليصنع أشهر شخصية كوميدية في عالم التلفزيونات العربية هي شخصية غوار.. كان دريد لحام صورة الدراما السورية وهي ترسم البسمة على شفاه الناس ، وكان معه نهاد قلعي وخلدون المالح ومحمود جبر ، وانضمت إليهم قافلة طويلة من الأسماء المبدعة .
كاسر التلفزيون العربي السوري، ذلك الجهاز السحري الذي اعتقد كثيرون في المقاهي أنه صندوق تظهر منه الصور، كاسر الزمن الذي عاشته البلاد، فأمسك بالهوية الوطنية والثقافية والاجتماعية التي حملها السوريون وضحوا من أجلها وجسدها الاستقلال..
ويوما بعد يوم، وتحول التلفزيون العربي السوري إلى ضيف دائم يجلس في صدر البيت، وحمل مضمونا وطنيا، فلم يكن أمام الأعداء إلا محاربته والسعي لتفريغه من محتواه ومضمونه، وكان ذلك في معركة طويلة، نتذكر منها يوم قصفه الطيران الحربي الإسرائيلي عام 1973 في حرب تشرين ..
ظل التلفزيون العربي السوري قامة كبيرة في الإعلام العربي والإقليمي، وسنة بعد سنة، كانت فنونه تكبر وتشق طريقها وتصمد في وجه الرياح العاتية، وكانت كوادره تذهب إلى العواصم العربية لتساعدها في بثها التلفزيوني الوليد . ثم كاسرت الدراما كل الفنون الأخرى التي تعرضها الشاشات العربية ، وقال كثير من النقاد العرب إن التلفزيون العربي السوري هو تلفزيون الأسرة العربية.
عام 2011 اندلعت الحرب في سورية ، وكان الإعلام سلاحا من أخطر الأسلحة التي استخدمت ضد الشعب السوري، وذات ليلة من ليالي الحرب، وكان ذلك في حزيران عام 2012 هُوجمت القناة الإخبارية السورية ودمرت وأحرقت في موقعها القديم في دروشا وسقط ثلاثة من الإعلاميين والعاملين فيها.
وبعد أقل من عام، وتحديدا في تشرين الأول عام 2013 تعرض مبنى التلفزيون العربي السوري في ساحة الأمويين بدمشق بهجمتين متتاليتين بسارتين مفخختين، وتهاوت السيارتان عند جاره الغربي دون أن تهتز القلعة التي ظلت تبث الدراما السورية.
وعلى مدار أيام الحرب استُهدف مبنى الإذاعة والتلفزيون بقذائف الهاون والقذائف الصاروخية دون جدوى، وبعد أكثر من سبع سنوات عادت دمشق إلى أمنها ، وهاهو التلفزيون العربي السوري يشعل نور شمعته الثامنة والخمسين ، ونسي السوريون أنهم شاهدوه ذات يوم في المقهى!