في ذكرى أم كلثوم| جنازة الست
لماذا ارتدت أم كلثوم النقاب فى العام الذي حكم فيه الإخوان مصر؟ منذ عامين تقريباً، حدثت الواقعة. فوجئ أهل مدينة المنصورة في دلتا مصر، بإلباس بعض المجهولين تمثال سيدة الغناء العربي فى المدنية نقاباً، في إشارة إلى وضع مصر تحت حكم الإسلاميين. ولكن لماذا أم كلثوم؟
يقودنا السؤال إلى مشهد آخر تماما، حدث منذ أربعين عاما تقريباً. مشهد جنازة «الست» التي صنفت بأنها من أكبر ثماني جنازات فى التاريخ الإنساني (شارك فيها نحو 4 ملايين). كل مصر فى الشارع، لم يتحدث أحد عن «الحرام» أو «الحلال» الكل يبكي فقد غابت الست التي وضعها التاريخ فى المكانة التى لم يضع فيها أحد، هي «الفلاحة» التي حكمت العالم العربي بحنجرتها، هي جزء من تاريخ الفن الحضاري العربي وجزء من تاريخ الزعامات الشعبية أيضا. إنها المرأة اللغز، أو السر، صوت السماء. مئات الكتب وآلاف المقالات حاولت البحث والإجابة عن سؤال: سر هذه السيدة. سر خلودها، برغم تعاقب أزمنة وحكام وثورات ومطربين وملحنين..
كانت جنازة أم كلثوم هي آخر الجنازات الشعبية فى تاريخ مصر.. بعد ذلك تحولت هذه الجنازات إلى جنائز رسمية باهتة، قبلها كانت جنازة سعد زغلول «الأكبر والأعظم» بل تفوق جنازة عبد الناصر. رفعت فيها الجماهير النعش على اكتافها من ميدان الأوبرا وحتى مدافن الإمام. وكان الحزن شاملا كل الفئات والطبقات والأحزاب..فسعد هو «الأب الروحي للأمة كلها» حسبما يشير نجيب محفوظ في مذكراته. وهو الأمر ذاته الذي حدث مع النحاس باشا عام 1965، الذي فرض عليه حصاراً شديداً، ومُنع من الظهور أو الإشارة إلى أي اخباره فى كل وسائل الإعلام، ويوم وفاته حذرت السلطة الناصرية الجمهور من «التجمع» وتهديد المشيِّعين بحجة ان الشعب مولع بالجنازات.. فقد خرج الملايين لتشييع زعيم الوفد واعتبرت الجنازة يومها رد اعتبار شعبي للوفد وزعيمه.
لم تكن جنازة عبد المنعم رياض جنازة تقليدية عادية، نحن أمام قائد عسكري استشهد برصاص العدو، وكان في الصفوف الأولى يتفقد قواته. طغى على المصريين – كما يقول الكاتب محمود عوض – وقتها شعور بأن استشهاد رياض هذا أعاد الاعتبار إلى العسكريين جميعاً، هذا النوع الجديد من العسكريين الذين يقع على أكتافهم إعادة الاعتبار للعسكرية المصرية وإعادة بناء القوات المسلحة. فضلا عن شعور آخر بالغضب الإيجابى».
لم تكن الجنازة تقليدية، خرجت جموع المصريين بعفوية للمشاركة، حتى أن عبد الناصر ذاب بين الناس، الذين اقبلوا عليه يعزوه ويخبروه «معك ثلاثين مليون عبد المنعم رياض..»، وسط هذه الجموع اختفى طاقم الحراسة تماما، ليحيط هؤلاء الناس بالرئيس وتتشابك ايديهم لتصبح طاقم حراسة للرئيس الذي قال يومها لمعزيه: ذهبت إلى الجنازة لمشاركة الناس وليس لتقبل العزاء فى رياض، العزاء الوحيد عندي، وعند عبد المنعم رياض، وعند كل العسكريين المصريين، هو تحرير الأرض». الأمر ذاته حدث مع عبد الناصر نفسه الذي سار فى جنازته أربعة ملايين مصري فى القاهرة وحدها وأقيمت له جنازات شعبية فى كل المحافظات، بل في عدد من الدول العربية. وكذا الأمر فى جنازات عبد الحليم حافظ، وطه حسين، وهي الجنازات التى سار فيها الملايين، خرج الناس لوداعهم احتفالا بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع… أما محمد عبد الوهاب فقد كان حظه أنه مات فى عهد مبارك الذي كان يخشى شعبه، وهو نفس ما حدث مع نجيب محفوظ.. الذي تحولت جنازته الى جنازة رسمية بفضل السيد الرئيس الذي كان حضوره كفيلا بتحويل جنازة أي رمز شعبي إلى أمر رتيب، تخنقه القيود الأمنية. أم كلثوم هي رمز ذوبان كل الطبقات، والقيود..إنها السحر الذي تخشاه السلطة حتى بعد رحيلها ..من هنا قد تتنقب أم كلثوم..وقد تنسى رسمياً!
صحيفة السفير اللبنانية