في ذكرى الذي لا يغيب: محمود درويش
ليس أبهى من حضور الغياب. فمحمود درويش يسكن الذاكرة والقلب واللغة.. بل انه قد أسهم في صنع وجداننا، وأخرج فلسطين من الماضي ليجعلها شرط المستقبل الافضل.
كانت فلسطين اسطورة، فجعلها شمس حياتا المقبلة، نتغذى بدم شهدائها ـ ونزهو بحجارة فتيتها الابرار الخارجين من قصائده، مثقلين بشميم البرتقال ورائحة التراب المقدس والحجارة المباركة.
هو الحلم الذي كتب سيرة المستقبل، متخففاً من اثقال حاضر الهزيمة وبؤس التنازلات التي تلتهم الارض.
ظل محمود درويش يسكن الغد، ويخاطبنا منه، فيعجزنا اللحاق به، ونتفيأه ونحن نسعى اليه فيه.
لقد “سجّلنا” جميعاً، منذ اول بيت وحتى آخر ملحمة. حاكمنا فحاسبنا قادة وفدائيين متقاعدين، مسؤولين من ابناء الهزيمة وباعة الانتصارات الممكنة، وظل يحدو للنصر الآتي متحدياً اليأس والتنازل واستعجال التسليم بالواقع المهزوم.
خرج من سجن العدو، وطاف بين سجون الاشقاء يبحث عن فلسطين البرتقال والورد والتراب المبارك بدماء الشهداء.. وحين أدرك أن “السياسة” قد التهمت “الجهاد” عاد إلى الارض المحتلة لكي يقتل اليأس فيدفنه في ترابها الذي سينبت آلاف المقاتلين، اطفالاً وفتية وفتيات مثل “عهد”.
*****
التقينا، أول مرة، في القاهرة، امام ابواب جامعة الدول العربية..
كان قادماً من موسكو التي اقام فيها نحو سنة، قبل أن يقرر أن يتعرف إلى امته التي علمته الشعر، بعنوان “المتنبي”.
ولقد هرب من فيض الاشواق التي غمرته بقبل الاعجاب والتقدير الينا، في تلك المجموعة التي كانت قد ضاقت مثله من اجتماعات الثرثرة الرسمية التي لا تفعل غير طمأنة العدو إلى أن الغياب العربي سيطول.
جاء الينا مدفوعاً بغريزته التي طالما هدته إلى “الصح”، فتعارفنا، لنكتشف انه يعرفنا فرداً فرداً من خلال المتابعة.
أردنا أن نُعرفه إلى القاهرة القديمة، فقال انه يفضل المستقبل والنظافة، لأنه يعيش في التاريخ..
وحين قرر أن نكون اصدقاء كان عليّ أن اخضع لشروطه التي لا تُناقش..
وهكذا كان عليّ، بعد شهور، أن اصحبه مع منتصف الليل إلى دمشق، حيث فُجع بضآلة نهر بردى، ذلك الخريف، مقارنا بالنيل، وحيث قرر أن نعود ظهراً إلى بيروت بينما سوريا جميعا، بأدبائها وشعرائها وفتياتها ورجالها والنساء، واهل الدولة، قد تجمعوا فملأوا المرجة بآلامهم واشواقهم ودموعهم للترحيب به، في حين كان يهمس لي: هيا، أعدني إلى بيروت!
اذا اردت أن تكون صديق محمود درويش فعليك أن تخضع لمزاجه..
لكنني في الطريق إلى دمشق اكتشفت اشياء كثيرة فيه وعنه، منها انه يحب غناء عبد الوهاب، ولا يسمعه الا عاليا،
ثم انه يدرك أن “خروجه” من فلسطين سيكون موضع حساب مفتوح… لذلك فقد تقبل، متهاويا، ما وصفه به رجل “الكفاح المسلح” عند “الحدود” بين لبنان وسوريا، قائلاً بنبرة القاضي: أنت خائن..
وقبل ان يرد محمود درويش الذي تهاوى جبروته، فجأة، أكمل ذلك الشاب النحيل، عميق السمرة، وفي عينيه عاصفة غضب: نحن نموت لندخل ارضنا المحتلة، وأنت تكون فيها فتخرج…
وحين حاول الشاعر العظيم أن يدافع عن نفسه ويشرح عبثية وجوده في الداخل، حيث لا يكاد يخرج من “التوقيف” حتى يُستدعى ثانية فيسجن اياما، ثم يخرج ليعود فيُستدعى إلى استجواب جديد تليه اياما من التوقيف، حتى فقدت “اللعبة” بالسجن والاضطهاد والبؤس المقيم فيها، بالتكرار، أي معنى.. رد ذلك الفتى غامق السمرة: لا ينفع العتاب، في غياب الحساب.. ها انت هنا الآن..
وحين استقر محمود درويش في بيروت كان يزورنا، في “السفير” بين الحين والاخر، فنتبادل اثقال الهموم ضاحكين .. لاسيما بعد ما تم تفجير الحرب الاهلية التي كانت ذريعتها فلسطينية، بينما اسبابها العديدة لبنانية بالدرجة الأولى، وان كان فيها للعرب دور هامشي، ولأميركا دور مهم، في حين يبقى الدور الاساسي للعدو الاسرائيلي.
ذات يوم دخل عليّ محمود درويش كالعاصفة، وبادرني بقوله: لقد دعيت إلى الجزائر، وسأذهب إلى بلد المليون شهيد فرحاً.
قلت: ولسوف تكون قصيدتك “سجل انا عربي” اول ما تنشد هناك..
قال بنبرة غضب: اعوذ بالله! انت تعرف انني لا اطيق أن القي هذه القصيدة امام جمهور عربي.. ماذا يعني أن تقول للعرب “سجل انا عربي”.. خير، انهم كلهم عرب، فبماذا تتباهى عليهم. إن قيمة هذه القصيدة أن تطلق في وجه العدو الاسرائيلي المحتل..
لكنه حين عاد من الجزائر جاءني مسلما بحسن تقديري للموقف. قلت: أن وضع الجزائريين كان اسوأ من وضعكم في فلسطين. لقد منعوا من أن يكونوا “هم” بهويتهم الاصلية، ولغتهم، ودينهم، لا الارض ارضهم، وكأنهم عابرون فيها، ولا الحاضر لهم ولا المستقبل.
*****
في الذكرى العاشرة لغياب الذي لا يغيب، محمود درويش، أحب أن استعيد وتستعيدوا معي، آخر مكالمة هاتفية، قبل سفره لإجراء الجراحة التي كان يعرف انها ستودي به.
قال محمود درويش: لم اشأ ان اغادر من دون ان أودعك… لقد حسمت أمري وقررت ان أواجه الموت، مرة اخرى…
نضح القلق في صوتي وأنا احاول فتح باب النقاش مجدداً: ولكن الأطباء في بيروت قد نصحوك
ـ أعرف، وكذلك الأطباء في فرنسا… لكنها معركتي!
قلت: هذه معركة غير متكافئة.
ـ أعرف، وأعرف أيضا أنه لا بد منها. لم أعد أطيق مواصلة هذا التحدي. لقد سئمت ان أعيش في قلب موتي. أتعرف، من الممتع أن تنازل الموت، ولكنك في لحظة ما ستكتشف ان لعبتك مفضوحة. ان تعرف انه يعرف أنك تعرف النتيجة، وأنك تعابثه.
ـ ولكنك يا محمود لست فرداً لتقرر وحيداً ما يشترك معك الناس فيه…
قاطعني: اعرف ما سوف تقوله، لست ملك نفسك، وليس لك ان تقرر. تصور: أنا ملكية عامة! في كل تصرفاتي عليّ الا اكون أنا…
انتبه! يجب الا تقبل وردة من تلك الحسناء. انتبه! أنت تمثل القضية فلا يجوز ان تضحك بصوت عال! ويجب ان يكون كلامك مدروساً. لقد بلغ الامر ببعض الناس ان استنكروا ذهابي الى مدينتي، بحجة انها صارت تحت الحكم الاسرائيلي! ونسوا انني حتى حينما اكون في رام الله فأنا تحت الحكم الاسرائيلي! لن اتحدث عن الدول الاخرى… ثم انني عشت نصف عمري تحت هذا الاحتلال، وأنا أكثر من يعرفه بينكم جميعا، حتى لا اقول انني أحد القلائل الذين يعرفونه حقا.
ـ بل أردت أن أحدثك عنك بوصفك ملكية خاصة لمحمود درويش… لقد حذرك الأطباء من ان اي جراحة قد تحرك الوحش الكامن في شرايينك!
قاطعني ضاحكا: حتى الكولسترول عند محمود درويش مختلف
ـ انه مثلك، جبار! ألست جباراً علينا جميعا
ـ ولكنه جبار عليّ فقط! انه يفرض عليّ التحدي بين ان اعيش أسيره ما تبقى من عمري وبين ان أهزمه ولو بالموت.
ـ كأنك تتحدث عن الانتصارات العربية التي نقدم فيها هدايا مجانية الى اسرائيل.
وختم محمود درويش مكالمته الوداعية بأن قال انه لن يبتعد عن مكانه لأنه منذ زمن طويل بات يعيش خارج المكان والزمان لان شعره صاره…
الى اللقاء، يا شاعر زماننا، الذي أكرمنا القدر بأن عشنا في زمانه..
صحيفة رأي اليوم الألكترونية