في ذكرى “معركة الكرامة” استعادة الوقائع بعيدًا عن العواطف والأساطير..
شكّلت معركة الكرامة في 21 من آذار (مارس) عام 1968 الانطلاقة الفعلية للكفاح المسلح، ونقطة تحول في الثورة الفلسطينية بعد ثلاثة أعوام على انطلاقها. وقد كتب وقيل الكثير عن تفاصيل واهمية هذه المعركة، التي انتصر فيها الجيش الأردني وقوات الثورة الفلسطينية على القوات الإسرائيلية المهاجمة بعد الهزيمة المدوية في عدوان عام 1967 وخسارة الضفة الغربية بالإضافة الى سيناء وغزة والجولان. وقد شرعنة معركة الكرامة الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن بعد ان حاول الأردن منع هذا التواجد بكل الاشكال وملاحقة واعتقال الفدائيين. لكن الغطاء الذي شكلته مصر والعراق وسورية للتواجد العسكري الفدائي على الأرض الأردنية اكبر من قدرة الأردن على منعه والوقوف بشكل حاسم ضده.
وتنطبق على معركة الكرامة المقولة الشهيرة أن “للنصر الف اب، والهزيمة تبقى يتيمة”. اعتبر نصر الكرامة اول انتصار في مواجهة مباشرة بين الثورة الفلسطينية واسرائيل، اكتسبت حركة فتح زخما استثنائيا واندفع المتطوعون من كل فج عميق فلسطينيين وعرب للانضمام في صفوفها.
وثقت كتب التاريخ دورا كبيرا للجيش الأردني وبالأخص للواء “مشهور حديثة الجازي” في حسم المعركة وهزيمة القوات الإسرائيلية المتقدمة.
لكن السؤال الذي يطرح في ذكرى المعركة اليوم، هل كانت البطولات التي تحدثت عنها كتب التاريخ حقيقية؟ ام مبالغ فيها؟ وماذا جرى في فعليا في معركة الكرامة؟ وهل ساند الجيش الأردني الفدائيين في المعركة مخالفا القيادة العليا للجيش ورغبة الملك؟ ام ان الجيش الأردني هو صاحب النصر الأول والأخير، ولم يكن دوره المساندة فحسب؟
بعد خمسة وخمسين عاما على تلك المعركة يمكن سرد بعض الحقائق بناء على تقاطع شهادات ووثائق عن مجريات غير تلك التي وثقت.
كانت ثلاث تشكيلات فلسطينية متواجدة في الأردن “فتح، والجبهة الشعبية التي أتت نتاج اندماج” جبهة التحرير مع حركة القوميين العرب “انفصلوا لاحقا”، وقوات التحرير الشعبية التابعة لمنظمة التحرير قبل انضمام فتح لها، وكانت بقيادة وجيه المدني وبهجت أبو غربية ويحيى حمودة. كانت هذه التشكيلات تعاني من ملاحقة أجهزة الامن الأردنية بقيادة “محمد رسول الكيلاني” التي كانت تعتقل افرادها وتنقلهم الى الحدود السورية بعد تجريدهم من السلاح. ومن اجل تجنب الملاحقة ومنع الملك حسين من انهاء الوجود الفدائي، تجمع الفدائيون بالمئات في ثلاث أماكن الأولى منطقة “الكريمة” وقرية الكرامة “وفي غور الصافي”. وهو ما دفع الملك حسين الى دفع قوات الى هذه المناطق لاقتلاع الوجود الفلسطيني.
قبل حوالي الشهر من معركة الكرامة حاصر الجيش الأردني قرية الكرامة لثلاثة أيام، وطلب من الفدائيين تسليم السلاح ونقلهم الى خارج الأردن. لكن ضغوط سياسية وشعبية حالت دون اندلاع معركة بين الفدائيين والجيش الأردني وتراجع الملك عن قرار الصدام مع التجمعات الفدائية.
قبل معركة الكرامة باسبوع نفذت مجموعة فدائية قادها الشهيد “أبو علي الأخضر” عملية في منطقة “عين يهف” استهدفت حافلة في مستعمرة “تمناع” وقتل كل الإسرائيليين في الحافلة، بدأت إسرائيل على اثر ذلك تحشد تجاه الاغوار.
امام انكشاف نوايا إسرائيل بشن هجوم كبير على الكرامة اختلف القادة الفلسطينيين لكيفية المواجهة، كان الخلاف بين الجبهة الشعبية وقوات التحرير الشعبية من جهة وحركة فتح من جهة أخرى وكانت إمكانات الفدائيين محدودة للغاية، ولا تسمح بخوض معركة مع الجيش الإسرائيلي. كان الرأي المبني على حسابات عسكرية صرفة هو انتشار الفدائيين خارج الكرامة، لكن ياسر عرفات رفض الفكرة وقرر المواجهة وتحويل الكرامة الى “ستالين غراد”. كان في ذلك الوقت حوالي 1400 مقاتل فلسطيني من جميع الفصائل داخل قرية الكرامة. كان ياسر عرفات حسب مصادر تاريخية موثوقة على علم عبر ضباط أردنيين ان الجيش الأردني سوف يتدخل، لكنه احتفظ بهذه المعلومة ولم يفصح عنها خلال المناقشات مع الفصائل حول كيفية المواجهة. ولهذا لم يؤيد فكرة الانتشار وعدم خوض مواجهة غير متكافئة مع الجيش الإسرائيلي.
انتشرت الجبهة الشعبية وقوات التحرير الشعبية بعيدا عن الكرامة، وتقدمت القوات الإسرائيلية بعد قصف مدفعي في محور اول من جسر اللنبي الى الشونة الجنوبية ثم الى الكرامة، ومن محور اخر شمالي الى مثلث العارضة واتجهوا جنوبا الى الكرامة. انسحبت قوات فتح بقيادة ياسر عرفات من القرية مع بدء المعركة رغم ان القرار كان المواجهة داخل الكرامة. بقيت اعداد محدودة من الفدائيين داخل القرية، بعضهم كان داخل مدرسة من المتطوعين الذين لم يتلقوا التدريبات العسكرية، وقد اعدمتهم القوات الإسرائيلية امام جدار بعد ان القت القبض عليهم.
اشتبك الجيش الأردني مع القوات الإسرائيلية المدرعة وهو ما لم تحسب إسرائيل حسابا له. قرر اللواء الأردني “مشهور حديثة الجازي” ضرب التجمعات الإسرائيلية وارتال الدبابات المتقدمة بالمدفعية، مخالفا أوامر الملك حسين. تلقى مشهور حديثة أوامر بوقف اطلاق النار من قيادته، لكنه لم يمتثل للأمر الا حين تأكد ان الجيش الإسرائيلي انسحب من المعركة.
قاومت مجموعات فدائية صغيرة محدودة الإمكانات، الا ان النصر الحاسم، وهزيمة إسرائيل كانت من صنع الجيش الأردني، ولولا هذا التدخل لكانت إسرائيل تمكنت من القضاء على الوجود الفدائي في الكرامة والمناطق المحيطة بها.
استثمرت فتح الانتصار، واكتسبت زخما كبيرا على المستوى الشعبي الفلسطيني والعربي، وعلى المستوى العربي الرسمي. بالمقابل جرى تضخيم البطولات الفلسطينية في الكرامة، وكتبت اساطير عن الملاحم البطولية، لم تكن لها علاقة بالوقائع الحقيقة للمعركة.
في هذه الذكرى ومع استرجاع الوقائع، والاحداث، تبرز أهمية إعادة صوغ واقعية وبدون عواطف او تحيز للتجربة الفلسطينية خلال اكثر من سبعة عقود خلت. ولابد للأجيال المقبلة ان تطلع على حقائق التاريخ بشكلها المجرد دون إضافات. لاحقا وفي عام 1970 وقع الصدام الدموي بين الجيش الأردني وقوات الثورة الفلسطينية فيما عرف بـ”ايلول الأسود” خسرت المقاومة الفلسطينية على اثرها ساحة مهمة في مسار الصراع مع إسرائيل، حكي عن أخطاء وخطايا، وكتب عن مؤامرات وادوار مشبوهة. لكن كانت النتيجة واحدة وهي ان نصر الكرامة اجهض في النهاية. ودخلت الثورة الفلسطينية مرحلة أخطاء وخطايا أخرى في ساحة جديدة وحقبة أخرى في لبنان. لكن السؤال الذي ما زال معلقا الى اليوم هل الأخطاء الذاتية للتجربة الفلسطينية في الأردن ولبنان هي الأساس في النكسات، ام ان الثورة الفلسطينية كانت ضحية المؤامرات التي رسمت سيناريوهات الحكاية من أولها حتى اليوم.