في كواليس الشرق الأدنى (4) الـســـــلام الضــــــائـــــع عبد الناصر يخرق المحرمات وكيسنجر لتركيع مصر (اريك رولو)

اريك رولو

ترجمة د. داليا سعودي

كان العام 1970 منذراً بالشؤم من أوجه عدة. فقبل ذهابي إلى مصر في يناير (كانون ثاني)، لاحظتُ تعاقب كل أنواع النزاعات على الدول المجاورة. إذ تلت حربَ 1967 الحرب عبر الحدود.
لم يكن يمر يومٌ من دون أن يتسللَ بعض «الكوماندوز» الفلسطينيين إلى إسرائيل لارتكاب عمليات اعتداء. فتشنُّ الدولة اليهودية غارات ضد الدول التي تؤوي قواعد الفدائيين، على سبيل الإجراء الانتقامي. وكان عدد الضحايا المدنيين، واتساع مدى الخسائر، يثيران حنق الشعوب، ويزعزعان استقرار الحكومات القائمة، العاجزة عن السيطرة على الموقف.
في ديسمبر (كانون الأول) 1969، فرضت «البلدان الشقيقة» على لبنان – وهو الحلقة الأضعف في العالم العربي – اتفاقاً مع القيادة الفلسطينية المركزية، أفضى إلى مواجهات لا نهاية لها.
حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على حق إنزال ميليشياتها بجنوب لبنان والقيام بعملياتها التخريبية في إسرائيل عبر الحدود. وقد كانت الضغوط التي مورست على بيروت من الشدة بحيث فُرِض على البرلمان اللبناني أن يتبنى، بشبه الإجماع، «اتفاق القاهرة» الذي أبرم تحت رعاية سامية من جمال عبد الناصر. وكان الرئيس المصري، ذو الدور الحاسم، ينوي بذلك مناوشة الدولة اليهودية التي كان قد أعلن ضدها «حرب استنزاف» في ربيع العام نفسه.
أثناء إقامتي في بيروت، لاحظتُ الشرخ الناشئ في نسيج الشعب، المنقسم ما بين مؤيدين وخصوم لا للحركة الفلسطينية، وإنما للحريات المفرطة التي كان الفدائيون يتمتعون بها على الأراضي اللبنانية. كان العديد من المسيحيين وكذلك بعض المسلمين – ممن كانت أحزاب اليمين الرئيسية قد صوتت نيابةً عنهم رغم ذلك على «اتفاق القاهرة»- يشكون في أحاديثهم الخاصة من أن بلدهم قد أُجبر على القيام بمهمة تفوق قدراته، فرضتها عليه الدول العربية التي كانت تتصرف بذلك في نزاعها مع إسرائيل «وفق عقد من الباطن». وفي مواجهة اليمين المتصف بالسلبية، تبلورت جبهةٌ من أحزاب اليسار وتنظيماته المؤيدة للكفاح المسلح ضد إسرائيل. هكذا أخذ الشرخ يتحول تدريجياً إلى هوة لا سبيل لاجتيازها. وبدأت أكثر العقول تبصراً تخشى وقوع مواجهة، لكنها لم تكن تتوقع أن تلك المواجهة ستتخذ شكل حرب أهلية رهيبة، سيشتعل أوارها بعد ذلك بخمسة أعوام، لتستمر خمسة عشر عاماً وتودي بحياة عشرات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين.
كان الوضع في الأردن مقلقاً بصورة مغايرة. فمع نهاية شهر عسل وجيز تلا حرب 1967، ظهرت ما بين الملك حسين والقادة الفلسطينيين، الذين أقاموا مقرهم العام الرئيسي في عَمان، خلافاتٌ خطيرة أدت لاحقاً إلى شقاقٍ عنيف. إذ أخذت المماحكات الناشبة بين القوات الملكية وميليشيات منظمة التحرير الفلسطينية تتكاثر، بينما كان الشعب، هنا كما في لبنان، موزعاً ما بين مؤيد ومعارض للوجود العسكري الفلسطيني. وكان من البديهي أن الأحداث ستسير باتجاه اختبار حاسم للقوة بين جيش الملك حسين والفدائيين. وقد انتهت المعارك الدامية في سبتمبر (أيلول) من عام 1970 بانتصار الأردنيين، مما أضعف الحركة الوطنية الفلسطينية بصورة ملحوظة.
رغم ذلك، كان مصير السلام في الشرق الأوسط يتحدد في مصر وليس في سواها. فقد تزامنَ وصولي إلى القاهرة في يناير (كانون الثاني) مع تصعيدِ «حربِ الاستنزاف» التي كانت قد نشبت منذ عدة أشهر بين أقوى دولة عربية وإسرائيل.
كان ذلك النزاع الكامن قد سبق بيان عبد الناصر الذي أعلن فيه أن الأسلحة لن تكفَّ عن الدوي إلا في اليوم الذي تقرر فيه إسرائيل الجلاء عن الأراضي التي احتلتها العام 1967. وكان هذا الإنذار، الذي أُعلن عنه في ربيع العام 1969، أشبه ما يكون بضربة رأس في الحائط، إذ ظل تناسب القوى يشير لصالح إسرائيل بوضوح.
كان ذلك الإنذار يُعزى إلى اقتناع الرئيس المصري بأن ليس ثمة طريقة أخرى لحمل الدولة العبرية على الأخذ بحل قائم على إعادة الأراضي المحتلة. وإذ استبد الضجر بالجيش وبالرأي العام من استمرار الوضع الراهن بلا رؤية في الأفق، فقد عتبا عليه السكوت على تلك الحال التي لا تُطاق، والتي وُصفت بحال «اللاحرب واللاسلم». كان ذلك الوضع يعد ابتلاءً صعباً بالنسبة لاقتصاد البلاد، التي حُرمت من عوائد قناة السويس، والسياحة، ومن تسويق النفط عبر سيناء. كما عملت المؤسسات الصناعية والتجارية بإيقاع بطيء نظراً للتقلبات التي شهدها الوضع العام.
كان من الواضح أن حالة الركود ستستمر طويلاً. فقد كانت إسرائيل ترفض الانصياع للقرار 242 بعد أكثر من خمسة عشر شهراً على اتخاذ مجلس الأمن له في نوفمبر (تشرين الثاني) 1967. فقد كان في تقديرها أنه من غير المقبول أن يشترط النص الصادر عن الأمم المتحدة إعادة كل الأراضي المحتلة حتى وإن كان يسمح ضمنياً بتعديلات في الحدود على أساس اتفاق مشترك، يستلزمها أمن الدولة العبرية. لكن يبقى أن القرار المتخَذ بالإجماع في الأمم المتحدة قد حظر كل «احتياز للأرض بواسطة القوة»، أي في غياب تفاهمٍ بين المتحاربين. وقد اصطدم جونار چارنج (Gunnar Jarring)، مبعوث مجلس الأمن لتطبيق القرار، بحائط سد. فقد قاطعته الحكومة الإسرائيلية، ورفضت الإجابة على أسئلته، بما في ذلك السؤال، المبرر تماماً بين كل الأسئلة، والمتعلق بترسيم الحدود «الآمنة والمعترف بها» كما تتمناها القدس. ففي الواقع، كانت الحكومة الإسرائيلية قد قررت أنها لن «تكشف عن مخططاتها» إلا أثناء المفاوضات الثنائية مع خصومها العرب. وكان هؤلاء يرفضون بقوة ذلك الإجراء، موضحين أنه سيقود بالضرورة إلى استسلامهم.
أما الأكثرُ مدعاةً للقلق بالنسبة لرجالِ القيادة المصرية، فهو انخراطُ الإسرائيليين بعزم محموم في بناء تحصينات هائلة وعصيّة على الاجتياز على طول القناة. كان ذلك هو «خط بارليف» (Bar Lev)، المصمم كي يكون غير قابل للهدم – على غرار خط ماچينو الفرنسي (Maginot) – (لكن، على عكس كل التوقعات، قام الجيش المصري بعبوره بسهولة في الساعات الأولى لحرب 1973). ولم يكن لعبد الناصر أن يرجو أن تلين مواقف خصومه: فقد كانت حكومة «الوحدة الوطنية» في إسرائيل تضم أغلبية من «الصقور» تحت قيادة السيدة العنيدة العتيدة غولدا مائير (Golda Meïr)، التي كانت قد خَلَفت المتساهل المتسامح ليڤي أشكول لدى وفاته في فبراير (شباط) 1969.
ضم الفريق الحكومي ممثلين عن اليمين القومي المتطرف بزعامة مناحم بيغن، ممن كانوا يناضلون من أجل «إسرائيل الكبرى»، التي يُراد لها أن تمتد لتشمل الأراضي المحتلة كافة. أما حفنة المنتمين لحزب العمال وغيرهم من «المعتدلين» فكانوا يمتازون عن زملائهم المتطرفين بكونهم ينادون بضم أراضٍ أقل اتساعاً، وهو ما يعد غير مقبول بنفس الدرجة بالنسبة لخصومهم العرب. فعلى سبيل المثال، كان الجنرال موشي ديان يعلن أن سيناء لا غنى عنها لضمان أمن إسرائيل، وهو رأي تم تكذيبه إبان إعادة تلك الأرض إلى مصر في إطار معاهدة السلام الموقعة عام 1979.

الغضب المصري والانتقام الإسرائيلي

أما القصة الرائجة في مجالس القاهرة في تلك الأيام، فتقول إن حنق الرئيس قد بلغ ذروته حين أخذ جنود الجيش الإسرائيلي (Tsahal) يلهون بمرح في مياه قناة السويس، مستهزئين بالجنود المصريين الرابضين على الضفة المقابلة. وما لبث أن انتشر شعورٌ بالمهانة وبالغضب بين أفراد الجيش والرأي العام، الذين طالبوا برد انتقامي عنيف. هكذا تقررت «حرب الاستنزاف»، التي بدأت بقصف التحصينات الإسرائيلية على طول القناة، تبعه تراشقٌ متبادلٌ بالمدفعية، فغاراتٌ منتظمة من جانب الطيران الإسرئيلي. وقبيل أيام من وصولي إلى القاهرة في كانون الأول/يناير، كانت إسرائيل قد رفعت من حدة التوتر بشن حملة من الغارات في عمق وادي النيل، بدءاً بالوجه البحري وحتى الوجه القبلي، مروراً بالقاهرة وضواحيها. وقد صرح لي وزير الإعلام قائلاً: «تعد أرض مصر، البالغة مساحتها ضعف مساحة فرنسا، عرضة للضرر بصورة كبيرة. فمن المستحيل عملياً حماية مليون كيلومتر مربع أو منع النفاذ عبر حدود يبلغ طولها عدة آلاف من الكيلومترات. هذا وتقوم طائرات العدو ذات السرعة الفائقة لسرعة الصوت، والتي تطير على ارتفاعات منخفضة، برحلة الذهاب والإياب ما بين قناة السويس والقاهرة في أقل من خمس دقائق، لتلقي بقنابلها في بضع ثوان. وفي معظم الحالات، لا يسعف الوقتُ طائراتنا المقاتلة ومدافعنا كي تتمكن حتى من البدء في الحركة».
وخوفاً من ردود الأفعال الشعبية، كانت السلطات تمنع بث أي معلومات حول تلك الغارات التي كانت تسفر عن سقوط العديد من الضحايا. كما كان كل الصحافيين ممنوعين من الذهاب إلى المواقع التي تتعرض للقصف. لكن بفضل علاقاتي داخل وسائل الإعلام المصرية، التي كانت على علم بحقيقة ما يجري رغم كل شيء، كنتُ مطلعاً على أخبار الضربات شبه اليومية التي يشنها طيران الدولة العبرية. وقد تعرض مخيمان عسكريان في ضاحية القاهرة للدمار يومي 23 و18 من يناير (كانون الثاني)، مما أسفر عن مقتل 87 و150 شخصاً على التوالي. بعد ذلك بأربعة أيام، احتلت قوات الجنرال ديان لمدة ثلاثين ساعة جزيرة شدوان، الواقعة في الطرف الجنوبي من سيناء، ودمرت ما بها من منشآت واستولت على ما وجدته من عتاد عسكري. وفقد المصريون على أثر ذلك مئة رجل، ما بين قتيل وجريح.
كما لم ينج المدنيون أيضاً حين استُهدفت مؤسساتٌ صناعية. إذ تم تدمير مصنعين كبيرين على طريق القاهرة – الإسماعيلية، وبالأخص مصنع «أبو زعبل». وكانت حصيلة الضحايا ثقيلة للغاية: إذ قُتل مئة شخص وجُرح بضعة مئات.
لم يعد بالإمكان خداع الرأي العام، الذي علم بما وقع من تناقل الناس للخبر. فرُفع الحظرُ ودُعي الصحافيون للذهاب إلى المواقع التي استهدفها القصف. وبعد ساعتين من انتهاء الغارة، تم اصطحابنا إلى مصنع «أبو زعبل»، أكبر مجمع صناعي مختص بصناعة الحديد والصلب في مصر. كانت ألسنةُ اللهبِ ترتفعُ من بين الأنقاض، والأجساد المبتورة الشوهاء متناثرةً بالعشرات في كل مكان، بينما كان صبيٌ في زي العمال الأزرق يحتضر وسط بركة من الدماء. كانت الجثث المتفحمة تشهد باستخدام النابالم. وعلى أثر انفجار إحدى القنابل الموقوتة المنثورة داخل المجمع الصناعي ومن حوله، اضطررنا إلى مغادرة مكان الحادث على عجل.

مدن الأشباح والركام

أما منطقة قناة السويس، التي كانت فيما مضى واجهة مصر الكوزموبوليتانية، فبدت كمشهد مؤسف. إذ لم تعد مدينة السويس سوى شبح ماضيها. فقد ظل طيران الدولة العبرية يقصفها منذ سبتمبر (أيلول) 1967 (أي بعد ثلاثة أشهر بالكاد من هزيمة يونيو – حزيران)، فتم تدمير ثلاثة أرباعها، وانخفض عدد سكانها من 260000 إلى 15000 نسمة. وأما منشآت معمل التكرير ـ الأكبر في الشرق الأوسط وأفريقيا – الممتدة مسافة عدة كيلومترات، فلم يتبقَ منها سوى ركام من الحديد الخردة المشوه.
أما مدينة بورتوفيق، التي كانت في الماضي مركزاً سكنياً ومصيفاً تكتظ شواطئه بالجموع الصاخبة، فبدت في سمتٍ مفجعٍ لمدينة خاليةٍ موحشة، قد لفها صمتٌ مُطبق، زادت من كآبته كلابٌ أخذت تعوي في وجه الموت. خلت المدينة من سكانها، الذين رحلوا إلى المخيمات المؤقتة، المقامة لإيواء مئات الآلاف من اللاجئين المهجَّرين من منطقة القناة. رحنا نجتاز عالماً مدمراً، فمشينا وسط بنايات منهارة، وڤيللات خَرِبة، وحدائق ومروج متلَفة. وقد أعلن العدو عن وجوده في الجوار: إذ كان هناك علم إسرائيلي يرفرف على مسافة 150 متراً من المدينة، على الجانب الآخر من القناة. في المحصلة، افتقد أكثر من 60% من سكان المنطقة منزلاً لائقاً، ووظيفةً، ومواردَ للرزق.
لكن حدثاً غير عادي جاء ليقطع التحقيق الذي كنتُ أجريه. ففي اليوم التالي للغارة على مصنع أبي زعبل، تلقيتُ مكالمة هاتفية من رئاسة الجمهورية تعلمني بأن جمال عبد الناصر سيستقبلني في اليوم التالي. كان رئيس الدولة المصرية نادر الإدلاء بأحاديث للصحافيين، إذ كان يوكل لصديقه محمد حسنين هيكل مهمةَ الإجابة على أسئلتهم. لذا، كانت الدعوة التي وجهها إليَّ الرئيس غير مسبوقة، على حد علمي. وكنتُ أجهل مغزاها.
كان عبد الناصر قد عبر عن أفكاره باستفاضة في الخطابات التي أدلى بها في الأسابيع الماضية. فما عساه أن يُزيد على ما أسلف لصحافي أجنبي لم يطلب، علاوةً على كل ذلك، إجراء أي مقابلة صحافية؟
لم يستقبلني الرئيس في منزله الخاص، ذلك المقر الرئيسي لعمله حيث يستقبل عادة مدعويه، وإنما استقبلني في قصر القبة الملكي المنيف الذي استُخدم في زمن الجمهورية لإقامة الاحتفالات الرسمية، وحفلات العشاء الكبرى، ولاستضافة رؤساء الدول الأجنبية. وفي القاعة الفسيحة المؤثثة على طراز لويس الخامس عشر التي أُدخلتُ إليها، بدا ناصر في أتمِّ لياقته البدنية ظاهرياً، وبدا مسترخياً وهو يستهل الحديث من مقام البوح والإسرار.
بادرني على الفور بقوله إنه في نفس تلك الغرفة التي استخدمها الملك فاروق كمكتب خاص، قام هو بإعلان تنحيه في التاسع من يونيو (حزيران) 1967 بعد الاعتراف بهزيمة الجيش المصري. ثم ذكر بشيء من الحنين المظاهرات الشعبية التي أجبرته على استعادة زمام الحكم.
وهنا أيضاً، في هذه الغرفة، مثلما أردف قائلاً، كان قد حضر إليه عشية مجموعة من الضباط يطلبون إليه الثأر من أجل قتلى مصنع «أبي زعبل». وقد قدموا إليه مشروعاً محدداً لشن أعمال انتقامية في داخل إسرائيل نفسها. وقد أسفوا بالطبع لامتناعه عن القيام بذلك منذ اليوم الأول من «حرب الاستنزاف» حتى عندما كانت طائرات الدولة العبرية تنشر قنابلها على كامل الأراضي المصرية.
«لقد أجبتُ زواري أنني أرفض اتخاذ قرارات تحت وطأة التأثر، وأن مثيلة تلك المبادرة، في جميع الأحوال، ليست منوطة بي وإنما بكامل القيادة السياسية في مصر». وفي حديثنا لاحقاً، اعترف عبد الناصر بأسباب تحفظاته: «يفوق الطيران الإسرائيلي طيراننا بنسبة ثلاثة أضعاف»، هكذا قال لي وهو يعدد أسباب ذلك التفاوت. هكذا، بعد مرور ثلاثة أعوام على هزيمة 1967، لم يكن قد نجح في إعادة بناء قواته المسلحة بصورة كافية.
ولم يكن النقاشُ غير المترابط الذي بدأه الرئيس ليناسب بطبيعة الحال الصحفيَّ الذي كنتُ. فأخرجتُ من حقيبتي مسجلاً ودفتراً صغيراً قائلاً إنه لمن الخسارة ألا يتم نشر الآراء التي يبثني إياها. وبحركة واحدة من يده، طلب عبد الناصر مني الامتناع عن تسجيل أي شيء، كما عن تدوين أي ملاحظات. مضيفاً أنه يريد «التحدث من قلبه» بلا قيود. ولم يكن من الصعب فهم أنه كان يأمل أن أردد ما سمعته في هذا الحديث غير الموثَّق، من دون أن أتمكن من ذكر ما قاله نصاً، على غرار ما يفعله كثيرٌ من رجال السياسة. وهو ما قد يتيح له عدم تحمل مسؤولية الآراء التي يدلي بها إليّ، وتكذيبها عند اللزوم. ولم يكن لدي خيارٌ آخر غير الإذعان لمطلبه.
وقد فسرت تتمة الحديث ما كان منه من حذر. فقد كان عبد الناصر يخاطر مخاطرةً لا حد لها بخرقه عدداً من المحرمات السائدة في تلك الفترة. وكان أحمد بهاء الدين، الصحافي المصري ذو الشهرة العالمية، قد ندد بتلك المحرمات بشجاعة، إذ كتب أن بعض الكلمات تتخذ بالنسبة للقادة العرب معنى «يقارب البذاءة»، منها مثلاً «مصالحة، سلام، تطبيع» مع إسرائيل. وقد خلُص إلى وجوب الإقلاع عن تلك التصرفات الصبيانية بأخذ حقائق الأمور في الاعتبار. وذلك هو ما فعله عبد الناصر بالضبط، إذ كادت الأمور التي أسرَّ بها إليَّ أن تكبِّده خسارةَ وضعِه كبطلٍ للقضية العربية.

«مصالحة، سلام، تطبيع»

في خضم حرب الاستنزاف، وبينما القوات الإسرائيلية تقوم بعمليات دامية بحجة الانتقام من اعتداءات الفدائيين الفلسطينين، ها هو عبد الناصر يصرح بلا مواربة بأنه مستعدٌ لإقرارِ سلامٍ دائمٍ مع إسرائيل لإقامةِ تطبيعٍ كاملٍ مع الدولة الصهيونية على مراحل متتالية. وقد أضاف منبهاً، أن المقابل الحتمي لذلك يتمثل في حل «مشكلتين»، مشكلة الأراضي المحتلة، ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وقد كانت المفاجأة الأخرى هي استخدامه لكلمة «لاجئين» الموجودة في القرار 242 لمجلس الأمن، وعدم ذكره، في أي لحظة، لكلمة «الشعب» الفلسطيني و«حقوقه الوطنية»، وهي المصطلحات التي صارت إجبارية في معجم مفردات العالم العربي. بالفعل، سبق أن لاحظتُ في خطاباته الأخيرة إصراره على ذكر احتلال الأراضي العربية بغير الرجوع إلى خصوصية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
وقد أكد أن إسرائيل لو كانت قد قبلت العام 1948 تطبيق قرار الأمم المتحدة المانح للفلسطينيين حق الاختيار ما بين العودة إلى إسرائيل أو الحصول على تعويضات «لكُـنّا أقررنا سلاماً نهائياً منذ أكثر من عشرين عاماً، بعد فترة وجيزة من توقيع اتفاقات الهدنة». وقد أردف قائلاً إن الوقت ما يزال مناسباً لتنظيم استفتاء شعبي وللعمل وفق اتفاق مشترك على تنسيق عودة المرشحين للتوطين في إسرائيل. لكن من الواضح أن ذلك الأمر لم يكن يمثل بالنسبة له شرطاً، إذ أضاف قائلاً: «يقدم قرار مجلس الأمن رقم 242 حلاً لهاتين المشكلتين» (الاحتلال واللاجئين)، «إذ يقدم إلى إسرائيل ضمانات تتعلق بحقها في الوجود السيادي، وفي الأمن وفي السلام، إضافةً إلى حرية عبور سفنها في خليج العقبة وفي قناة السويس». ولم يكن عبد الناصر ليجهل أن ذلك القرار لا ينص إلا على حل «عادل» لـ«مشكلة اللاجئين»، وهي صيغة فضفاضة للغاية لا تعني شيئاً ملموساً. هكذا أراد ناصر أن يعهد بالمسألة إلى المفاوضين حول السلام في المستقبل.
سألته: «ماذا سيحدث لو استمرت جميع الفصائل الفلسطينية أو بعضها في رفضها للقرار 242 ؟«
فأجاب: «ستصادفنا مشكلات على الأرجح. فمن المنطقي أن يلقى أي فعل سياسي أصواتاً معارضة، لا سيما لو كان بمثل هذه الأهمية. ولا حيلة لنا في ذلك، لكننا عازمون على مواجهة الاحتمالات كافة».
وقد وفى ناصر بعهده حين تنازع بعد عدة أشهر مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع ياسر عرفات، كما سنرى لاحقاً.
وفقاً له، كانت المشكلة الفعلية تكمن في واشنطن. فقد كان مقتنعاً بأن «الأميركيين يسعون إلى قلب نظام الحكم في مصر منذ العام 1965» لأن «هدفهم الإستراتيجي هو إسقاط جميع الحكومات التقدمية العربية، وخصوصاً منذ قيام الثورات في السودان وليبيا في العام الماضي». كان يشير بذلك إلى ما كان من وصول حركات وطنية وموالية للناصرية إلى سدة الحكم في كل من الخرطوم وطرابلس.
وتأييداً لهذه التهمة، ذكَّر عبد الناصر بأن الولايات المتحدة لم تطالب إسرائيل بإعادة الأراضي المحتلة، وهو ما يعتبره القرار 242 أمراً إجبارياً. بل إنهم قد ضاعفوا من مساعداتهم العسكرية للدولة العبرية، وأمدّوها بقاذفات ثقيلة، لا سيما طائرات فانتوم إف 4 (Phantom F4)، التي لا تملك أيٍ من الدول العربية كفواً لها. وهو ما يعني تأييدهم لتصعيد الغارات في عمق مصر لإجبارها على الاستسلام. «لكنني لن أكون أبداً الجنرال پيتان (Pétain) المصري!»، هكذا قال لي مستنكراً.
لا مِراء أن الولايات المتحدة قد قدمت للمتحاربين مشروع تسوية، وهو «مشروع روجرز»، المسمى باسم وزير الخارجية الأميركي، والذي يتضمن إعادة سيناء إلى مصر. لكن مع نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) 1969، علقت وزارة الخارجية مشروعها، مذعنة بذلك لرأي غولدا مائير التي وصفت المشروع بـ«الكارثي» قبل شن حملة غاراتها في عمق البلاد، وهي المبادرة التي لم تدِنها واشنطن.
من الواضح أن عبد الناصر لم يكن على علم – أو لعله لم يكن مقتنعاً – بأن الموقف الأميركي كان مصاباً بالفصام. فهو لم يكن الوحيد الذي يعتقد أن واشنطن ماضيةٌ في لعبةٍ مزدوجةٍ محسوبة. وفي الواقع، كان لا بد من الانتظار أعواماً عديدة قبل أن تُنشر أعمالُ المؤرخين الإسرائيليين، ومذكراتُ كل من هنري كيسنجر (Henry Kissinger)، والسفير السوڤياتي أناتولي دوبرينين (Anatoly Dobrynin)، لكي يتبدد الضباب المحيط بسياسة ريتشارد نيكسون (Richard Nixon) في الشرق الأوسط، الذي كان قد دخل إلى البيت الأبيض قبل عام تقريباً.

كيسنجر وروجرز وما بينهما

في الواقع، كان الرئيس الجديد يستمع إلى اثنين من أقرب معاونيه إليه، وكان يجد كليهما على صواب، ويمنح كليهما حرية التصرف، بينما كان الإثنان يتباغضان بمنتهى الحرارة ويحاولان، كلٌ من جانبه، توجيه سياسة الولايات المتحدة الخارجية في اتجاهين متعاكسين. كان أولهما هنري كيسنجر، مستشار الرئيس للأمن القومي، الذي لم يكن لديه من هدف سوى التغلب على الاتحاد السوڤياتي بالعمل على هزيمة، بل على إسقاط الأنظمة العربية التي يصفها بأنها «مناهضة لأميركا».
أما الثاني وهو ويليام روجرز (William Rogers)، وزير الخارجية، فكان شغله الشاغل هو التوصل إلى سلام بين إسرائيل والعرب من شأنه تعزيز هيبة الولايات المتحدة في المنطقة، مما يضعف من سطوة الاتحاد السوفياتي بها.
كان الأول يحاول إقناع نيكسون بأن استمرار الأزمة في ذلك النزاع لمدة طويلة من شأنه إجبار موسكو على تخفيف بل إلغاء تأييدها للمتمردين الڤيتناميين. وما كان الرئيس الأميركي، المتورط في عمليات القصف المدمرة في ڤيتنام ولاوس وكمبوديا، إستجابةً لإرادة «حضرة المستشار الخفي»، كما كان يُلقب كيسنجر، ما كان ليرفض إستراتيجية ذلك الأخير في الشرق الأوسط. فقد كان يسمح في ذات الوقت لوزير خارجيته بإعادة التوازن إلى السياسة الأميركية المتوافقة مع الأطروحات العربية من أجل التوصل إلى تسوية عبر التفاوض. وما زال مجهولاً إن كانت إزدواجية نيكسون راجعة إلى تردده أم إلى رغبته في اللعب على حبلين في وقت واحد. هل كان على علم بأن هنري كسنجر يستغل الالتباس المحيط بموقف الرئيس لتشجيع إسرائيل على مواصلة ثم تكثيف الحرب على مصر؟ على أي حال، كان مستشار البيت الأبيض يلتقي بانتظام مع اسحق رابين، الذي كان وقتئذٍ سفيراً لإسرائيل لدى واشنطن، وكان يطلعه على رأيه كما لو كان الأمر متعلقاً برأي الرئيس نيكسون.
وقد كفَّ رئيس أركان حرب الدولة العبرية السابق، الذي كان في ذلك الوقت في عداد «الصقور»، عن استشارة ويليام روجرز، إذ لم يكن يرضى عن توجهه «الموالي للعرب».
ووفقاً لما جاء في كتاب نشره السفير ريتشارد پاركر (Richard Parker)، المكلف في تلك الفترة بذلك الملف في الخارجية الأميركية، كتب إسحق رابين إلى غولدا مائير في سبتمبر (أيلول) 1969: «ينبغي أن يكون المرء أعمىً، وأصم، وأحمق كي لا يعيَ كم توافق الإدارة الأميركية على عملياتنا العسكرية.» وكان بذلك ينتقد بصورة غير مباشرة أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي، الذي كان يؤكد بنفس الحزم أن واشنطن راغبةٌ في إنهاءِ حرب الاستنزاف. وقد تأسست قناعة الوزير الإسرائيلي على معرفته التامة بوزارة الخارجية الأميركية، وعلى محادثاته مع ويليام روجرز. كما أنه كان محقاً إذ ألمح إلى أن كيسنجر لم يكن مكلفاً بملف الشرق الأوسط. رغم كل ما تقدم، كانت غولدا مائير تفضل تصديق سفيرها لدى واشنطن، الذي كانت تكن له تقديراً عظيماً، وتقدمه على وزير خارجيتها. هكذا، إذ استند رابين إلى أقوال كيسنجر، فقد ثبَّط حكومته عن أخذ مشروع روجرز بعين الاعتبار، وحثَّها فيما بعد على شن الغارات في عمق الأراضي المصرية. كما أخبر حكومته أن واشنطن ترحب كما القدس تماماً بانهيار النظام الناصري.
يكتب كيسنجر في مذكراته بكثير من الابتهاج: «هكذا تغلبتْ إستراتيجيتي على جثث مختلف خطط السلام التي أعدتها وزارة الخارجية». كما يهنئ نفسه أيضاً بأنه قد أقنع ريتشارد نيكسون بأن تسوية النزاع ليست إلا وهماً نظراً لاعتزام الدول العربية مسح إسرائيل من على الخريطة، أيَّمَّا كانت التنازلات التي سيُمكن انتزاعُها من الدولة العبرية. وفي سيرته الذاتية، يعلن كيسنجر عن أسفه كذلك لكون الولايات المتحدة «مصابة بوسواس مرضي يحرك فيها رغبةً ملحاحة في اقتراح خطط سلام بأي ثمن». وبطبيعة الحال، فهو يلقي بمسؤولية هذا التشوه على ويليام روجرز: إذ يكتب أن «الإصابة النفسية» التي يعاني منها هذا «المراهن المنحوس» كانت «تقلقه» لأقصى درجة.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى