قراءة في ‘إسطاسية’ خيري شلبي

الرواية آخر ما كتب الروائي الراحل وهي تدور حول سيدة قبطية تقيم حدادا دائما على ابنها المقتول في قريتها والقرى المجاورة.
إسطاسية آخر ما كتب الراحل خيري شلبي، وإسطاسية هو اسم لسيدة قبطية ثكلى قُتِل ابنها ولم تستطع العدالة الأرضية أن تجلب لها حقها وتم الإفراج عن المتهمين لعدم كفاية الأدلة فلجأت إلى القضاء الأعلى وإلى السماء. ونجحت في إقامة حداد دائم في قريتها وفي القرى المجاورة لمدة ست سنوات أصبح الناس محاصرين بصوتها بما فيه من حزن والتياع، متأثرين به إلى حد كبير ووصل الأمر إلى قناعتهم بأنه إذا كان تأثرهم بلغ هذا الحد، فما بال السماء وهي منبع العدالة، والتي لا بد أن تستجيب لهذه المرأة الثكلى ولهذا الدعاء المتواصل كل يوم. وأصبحت القرية تعيش في حالة توتر، وتكاد تعرف الجاني لكنها تعرفه بشكل غامض ينقصه التحديد وتريد أن تتحدد الأمور وأن ينتهي البلد من حالة الذنب التي تعيش فيه كلها وأن تأخذ العدالة مجراها وأن تصمت هذه السيدة التي يشبه ندبها صوت الضمير والإلحاح الذي يضرب في قلوب الناس ليل نهار، كأنه يتوعدهم بالأذى إذا لم يشاركوا في البحث عن قاتل ابنها.
تدور أحداث الرواية في قرية من قرى كفر الشيخ قريبة لما يُعرف بالبراري، ومعظم سكانها ليسوا من الفلاحين المستقرين. كانت منطقة البراري تعيش على الصيد والقنص، وفجأة أعطت الحكومة هذه الأراضي الشاسعة للذين يقدرون على زراعتها ومن يستصلح قطعة أرض يتملكها. ووضع القادرون أيديهم على هذه الأراضي الشاسعة وهم ليسوا فلاحين في الأصل فاختلط الحابل بالنابل وأفسدوا العلاقات. يقول عنهم خيري شلبي على لسان أحد الشخصيات في الرواية “لقد تخمرت فيهم روح الصحراء الغدارة القاسية، روح الإغارات الدائمة للقنص والسلب والسبي وتقطيع الرقاب بغير حساب لخطف النياق والأغنام والقوافل، لقد صدعوا بنية المجتمع في شمال الدلتا وطبعوه بلون من العنف أشد فتكا ووحشية من المغول والتتار، إن التحاقهم بالمجتمع المدني الحضري أغراهم به فأساءوا استغلاله، صحيح أنهم تماهوا معه قليلا فاستصلحوا الكثير من الأراضي البور في البراري بمياه جوفية وطلمبات وماكينات، إلا أنهم في المقابل نشروا في البراري شريعة الغاب وسيادة القوة الغاشمة”.
تبدأ الرواية بعودة حمزة حامد البراوي بطل الرواية إلى القرية بعد أن حصل على ليسانس الحقوق، ليجد “إسطاسية” أرملة المقدس جرجس غطاس تدعو فجر كل يوم على من قتل ولدها محفوظ الحلاق، وتدفع نداءات إسطاسية وحرقتها حمزة البراوي لفتح التحقيق في قضية مقتل ولدها التي حفظت ضد المجهول، بحثا عن العدالة وتحقيقها وتدريبا له على عمله المتوقع في النيابة، خصوصا عندما يشعر أن نظرات أهل البلدة تتهم عائلته كلها بهذه الفعلة الدنيئة، فالراوي ينتمي إلى عائلة “البراوي” التي يرصد شلبي عبر روايته تاريخها في القتل والإجرام، حيث يتسبب العمدة “عواد البراوي” عم حمزة الذي كان شريك محفوظ القتيل في ماكينة المياه في إشعال المنافسة بين عائلة البراوي وعائلة عتمان، والتي يمثلها الجزار عبدالعظيم عتمان، والذي يعرف بكراهيته للأقباط، وتزداد هذه الكراهية بعد أن يدخل “محفوظ” شريكا في ماكينة المياه مع العمدة.
كانت عائلة العمدة متهمة في نظر الناس بمسؤوليتهم عن مقتل محفوظ على الأقل بالإهمال والطرمخة على الجناة الحقيقيين الذين لا شك من وجهة نظر الناس أن العمدة يعرفهم أو يعرف كيف يكشفهم.
بعد أن تسمع إسطاسية نبأ مقتل ابنها محفوظ، تتهم الجزار عبدالعظيم عتمان الذي يكره الأقباط بأنه القاتل، لكن المقدس عازر صبحي ينفى عنه التهمة، ويبرؤه، ثم تتهم عائلة أبوستيت بمقتل محفوظ، لكن محاميهم الماهر أثبت أنهم كانوا في دمياط وقت حدوث الجريمة، وقرب نهاية الرواية تتكشف الخيوط عندما تقرر زوجة العمدة الاعتراف لحمزة أن زوجها لا يفعل شيئاً دون مشورة أخيه عابد، الذي يعد أس بلاء العائلة كما تصفه، ويكشف سيد أبوستيت صديق عابد وعواد العمدة، الذي كان ينفذ لهم كل الشرور، باقي ما غمض من القصة، حيث اعترف لحمزة بكل أخطائه السابقة لأنه سيذهب بعد أيام للحج تكفيرا عن ذنوبه، ويقول أبوستيت للبطل إن قاتل محفوظ جرجس غطاس ابن إسطاسية هما ابنا عمه العمدة عمار وعبدالغني عواد البراوي، المسجونان في قضية أخرى لم يكن لهما بها أدنى علاقة، وقد انتهز العمدة شجارا دار بين عبدالعظيم عتمان ومحفوظ ابن إسطاسية. ومن هنا، فإنه اعتقد أن قتل محفوظ ستلصق تهمته بعتمان حتما، واحتال عابد البراوي على المعلم جرجس غطاس أبو الضحية وأخذ أرضه، ولكن الابن محفوظ أظهر للعمدة أوراقا تثبت أن هذه الأرض ملك لعمته ماتيلدا غطاس وبالتالي لا يمكن التصرف فيها بالبيع أو الإيجار، خاصة أن محفوظ هو الوارث لها ومن بعده تعود ملكيتها إلى الكنيسة.
تنتهي الرواية بزواج حمزة من ابنة خاله راندا، التي انتقلت للعيش مع أمه في الريف، وافتتح حمزة مكتبا للمحاماة في بلدته، لتكون أولى قضايا المكتب من إسطاسية ضد عمه عابد البراوي بشأن الأرض التي اغتصبها، حيث جاءته إسطاسية ومعها كل الأوراق التي تثبت حقها في هذه القضية، وافق حمزة انتصارا للحق وبتشجيع من زوجته راندا، متسائلا في نهاية الرواية: “هل هي صدفة أن يتحول طموحي في النيابة العامة إلى طموح في مهنة المحاماة، وأن تكون قضية إسطاسية هي أول قضية تدخل مكتبي؟”.
ميدل إيست أونلاين