قراءة في مذكّرات الرئيس أمين الجميل: حوار لا بدّ منه على طريق إعادة بناء الوطن [1]
أتوجّه إلى الرئيس الجميل بعد قراءة مذكّراته المعنونة «الرئاسة المقاومة»، بالسؤال: هل تنفع الكتابة؟ بمعنى إن كانت التجربة التي تؤرّخ لها، فخامتك، والتي تمتدّ لأكثر من أربعين عاماً مليئة بالأحداث، مضمخة بالدماء، مثقلة بالعناء وكيد الأعداء وخيانة الأصدقاء وغدر الحلفاء، إن كانت كلّ هذه السنوات بكلّ ما فيها من دروس وعبر لم تدفعك إلى قول الحقيقة كاملة، ولم تجعلْك تنطق بالموعظة التي نطقت بها هذه الأحداث، فهل ستنفع كتابتي المتواضعة؟
لا أظنُّها ستنفع، ولكن لا بدّ من تسجيل رأيٍ حازم نؤكّد فيه باليقين، أنّ ما عشته وعشناه يدفعك إلى استنتاجات واضحة ما كان ينبغي فيها التردّد، ولا ينفع فيها بالتأكيد نصف الرأي وبالتأكيد تدعمها آلاف الحقائق الدامغة، وعلى الأقل كما قال الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
إنّ ما ينبغي أن يُستنتج يلخّص بما يلي:
أولاً: إسرائيل العدو الرئيسي للبنان وخاصة للمسيحيين، وعلى الأخص للموارنة الذين استعملتهم غطاء وتبريراً لعنصريتها وعدوانها.
ثانياً: مهما بلغت أخطاء سوريا وخطاياها والتي قد نضيف إلى ما قلته عنها أضعافاً مضاعفة، ولكنّها تبقى هي التي حافظت على وحدة لبنان ووحدة جيشه ومؤسّساته ومنعته من الانزلاق إلى الذوبان من خلال التبعية للعدو الصهيوني ومخطّطاته الجهنّمية. وقد ثبت أنّ أخطاء سوريا وخطاياها تبقى ضمن التكتيك أو السياسات الصغرى، أما الاستراتيجيات أو السياسات الكبرى فقد أثبتت أنها أذكى من الجميع، وأقدر من الجميع على المحافظة على المبادئ الكبرى، والدليل أنها لم توقّع اتفاقاً مع إسرائيل ولم تخضع للسياسات الأميركية ولم تسلّم قيادتها لأحد، ولكن لأي إنسان مخلص أن يسأل: هل الخطايا المشار إليها لا تجرح الاستراتيجية الكبرى؟ أترك الجواب للتاريخ.
ثالثاً: المسلمون شركاؤك في الوطن شئت أم أبيت، كما هم لا كما تحب وترغب، بأخطائهم وتدينهم أو علمانيّتهم، لن يقوم لبنان إلّا بجناحيه بغض النظر عن الأقلية والأكثرية.
رابعاً: لبنان جزء من العالم العربي بالتأكيد، ولأنّه يتمتّع بالحرية والتنوع فإنّه مؤهّل لإصلاح الأوضاع العربية إذا انحرف العرب نحو الخطيئة الكبرى ـــــ الاستسلام للمشروع الصهيوني، ولا يجوز أن نتنصّل من العروبة ونحاربها عندما تكون عروبة المقاومة والوحدة ونتزلّف إليها عندما تصبح عروبة التطبيع والذل والعار والانتفاع المالي والاقتصادي.
خامساً: لن تكون أميركا والغرب كلّه أحرص من شركائك في الوطن على مصلحتك وأمنك ومستقبلك، والغدر الأميركي، أو بالحد الأدنى عدم الاكتراث والإهمال للأزمة اللبنانية لا يجوز أن يكون مفاجئاً لأحد، طالما أنّ اللوبي الصهيوني هو المؤثّر الرئيسي في القرار الأميركي.
سادساً: وكذلك فرنسا لن تبقى الأم الحنون ولعلّ كلمة وزير الخارجية الفرنسي الأخيرة تعبّر بشكل كافٍ: ساعدوا أنفسكم لنساعدكم.
سابعاً: نرضى بالوجه العربي للبنان كحدّ أدنى وفق تعبير الميثاق الوطني عام 1943، ونفخر بالثقافة اللبنانية المتميّزة التي تستفيد من الثقافات الغربية المتعدّدة، ولكنّ الثقافة الغربية التي أفلحت في التكنولوجيا وفي كثير من القوانين والتشريعات المعاصرة، لم تفلح في العلاقات الإنسانية والحفاظ على العائلة، وتبقى الثقافة الشرقيّة متفوّقة في مجالات متعدّدة، فلا تبعية في الثقافة ولكن استفادة بوعي وحذر.
ثامناً: ما كنت أتمنّى أن تكون مذكّراتك كمذكّرات شاعر أو كاتب حالم، وإن كان هذا الجانب العاطفي والشاعري في شخصية فخامتك موضع احترام وتقدير، ولكن لن يكون وداع شجرة الميموزا مثلاً في قصر بعبدا أهم من بعض التفاصيل التي تمّ إغفالها. مذكّرات رئيس يجب أن تكون مليئة بالعبَر والمواعظ ليُبنى من خلالها وطن جديد، وليس فقط لنبكي على الأطلال وكأننا فقدنا حبيباً أو تركنا منزلاً في صحراء.
تاسعاً: لن يصبح «التعامل» مع إسرائيل بأيّ شكل من الأشكال، ولا بأيّ مقياس من المقاييس، مساوياً لـ«التعامل» مع الفلسطينيين أو السوريين أو الإيرانيين، أو غيرهم من العرب والمسلمين. لا يصحّ أن يستوي هذا مع ذاك، لا في النية ولا في الهدف ولا في الأضرار ولا في أي احتمال من الاحتمالات، ولا بأس أن نحكّم في ذلك الكتاب المقدّس والتاريخ والجغرافيا والأنتروبولوجيا، والتجربة القديمة والحديثة، وكلّ المقدّسات والقيم التي يعتمد عليها البشر.
عاشراً: ليست هذه الأوراق مخصّصة لمناقشة فكرة ولاية الفقيه والتي لا يمكن أن تسمى تبعية على الإطلاق. وعلى كل حال ليس ثمة من هو مبرّأ من الأخطاء، وهذا الموضوع يحتاج إلى حوار مطوّل في مكان آخر.
بعد هذه المقدمة، أقول:
قرأت مذكّرات الرئيس أمين الجميّل باهتمام بالغ، وذلك بعد نصيحة من الصديق الصحافي قاسم قصير، الذي أرسل لي مقطعاً قصيراً مصوّراً عن تعليقه على هذا الكتاب، خلال حفل التوقيع في بكفيا. سررت لدعوته إلى بكفيا ولكلامه هناك، وسألته فقال: «الكتاب فيه وثائق مهمّة وباعتبارك عشت هذه التجربة عن كثب فإنه سيكون من المفيد أن تقرأه وأن تعلّق عليه». وهكذا كان… والواقع أنني وأنا في التاسعة والعشرين من العمر تقريباً، أي عند انتخاب الرئيس أمين الجميّل رئيساً، بدأت أشعر كأنّ الرئيس أمين الجميّل خصمي الشخصي، ليس فقط خصم المجتمع الذي أنتمي إليه، فيما كنت أشعر كما الكثيرين بأن بشير الجميّل كان عدوي الشخصي، وليس مجرد خصم، فهو الذي قتلني على الهوية، وهو الذي أتى بالاحتلال الإسرائيلي، وهو الذي أراد أن يبني لبنان على أنقاض كلّ ما هو شريف وثمين في هذا الوطن. أمّا أمين الجميّل فكما رحّب العرب به بعد اغتيال بشير، كان مرحَّباً به، وارتدى صورة رجل الانفتاح والحوار، ومن أجل ذلك حاز 77 صوتاً بكلّ سهولة، ومن أجل ذلك خفتت أصواتنا كمعارضين، لفترة قصيرة نسبياً، فيما كانت مرتفعة مدوية لدى انتخاب بشير (مدوية في حدود مجتمع مدينة صيدا وما حولها وقتها). ولكن للأسف، إنّ أداءه سبّب خيبات كبيرة، وكان يمكنه أن يتلافاها لو كان يتمتّع بالحزم والشجاعة الواجبة في اللحظات التاريخية التي عاشها وعشناها معه، ولا بدّ من ملاحظات رئيسية:
أولاً: أهم ما في الكتاب
إنّ أهم ما في الكتاب بالتأكيد، هو الحوار الذي دار بين الجنرال الإسرائيلي (إينان) عضو الوفد الإسرائيلي للمفاوضات، وقد طفح كيله (حسب تعبير فخامتك)، فصاح: سوف أعلّم أولادي فنّ التفاوض كي يحلّوا مكاني، كناية عن الوقت الطويل الذي استغرقته هذه المفاوضات فضلاً عن صعوبتها، فردّ عليه نظيره اللبناني العميد (عباس حمدان): وأنا سأعلّم أولادي فنّ المقاومة وسنرى من سينتصر. ثم عقبت بكلام واضح: أثبتت الأحداث أنّ حمدان على حق (ص123). كلمات مدوية، تستحقّ أن تكون عنواناً للكتاب، تستحق أن تضعها مثلاً في صفحة خاصة في أول الكتاب وبالخط العريض، ولكنّها مرّت هكذا بثلاثة أسطر ضمن الكتاب يكاد لا ينتبه لها القارئ، لماذا يا فخامة الرئيس؟ لماذا الواحد منّا عدو نفسه وأهله ووطنه عندما يحكِّم الغريزة أو التعصب الطائفي أو الحزبي؟ لماذا تُغفل الحقائق وتُطمس الوقائع؟ أقول هذا لأنك في آخر الكتاب، وبكل استخفاف في الصفحة (393)، قلت: «انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان بعد احتلال دام 22 عاماً، فسادَ البلاد بأسرها جوّ من الأمل فقدت مقاومة حزب الله مبرر وجودها وسلاحها»، الله أكبر، هذا الذي تستحقّه منك المقاومة فقط؟ ثلاثة أسطر على لسان عباس حمدان، وسطر ونصف عن فقدان المبرّر للمقاومة. 22 عاماً من المقاومة الباسلة، آلاف الشهداء، جهود لا يمكن إحصاؤها، إشاعات، أكاذيب ومؤامرات داخلية وخارجية لم تخفّف من اندفاعها، العالم كله يمتدحها ويتعلّم منها، الأمين العام للأمم المتحدة يزور الأمين العام لحزب الله في الضاحية الجنوبية مهنّئاً ومعتذراً، فلقد كان العالم كلّه يتمنّى أن تقع مجازر في القرى المارونية، في قرية سعد حداد مثلاً القليعة، علما الشعب، في إبل وعين إبل ودبل وغيرها، ضربة كف لم تحصل، منزل سعد حدّاد لم يمسّه أحد، لم يتعرّض أحد لعائلات العملاء الذين هتكوا الأعراض وسفكوا الدماء وخانوا العهود والمواثيق… إلخ. كلّ ذلك لا يستحق منك كلمة تقدير واحدة؟ فقدت المقاومة مبرّر وجودها؟ الله أكبر، نعم الله أكبر، لأنّه لا منجى من هذا التزوير وهذا الإنكار، إلا الالتجاء إلى الله الذي يعلم السرائر ويعامل الناس بأعمالهم ــــــ إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين ـــــــ القرآن الكريم، نعم يا فخامة الرئيس لقد كانت صدمة لي هذه المفارقة بين هذه الأسطر القليلة، ولكن كما قال الشاعر:
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
ثانياً: اتفاق 17 أيار
وصلت إليك الرسالة الجانبية من الإسرائيليين قبيل توقيع اتفاق 17 أيار المشؤوم، والتي استنتجت من خلالها أنّهم لا يريدون هذا الاتفاق، وأخبرك من أخبرك أن الإسرائيليين أوصلوا الاتفاق إلى هذه النقطة ليس عن قناعة، بل ليتلافوا العقوبات الأميركية، بسبب أنّ شارون قد تجاوز الاتفاق ووصل إلى بيروت، متجاوزاً نهر الأوَلي كما كان متفقاً عليه. وبالتالي، لم يكونوا يريدون هذا الاتفاق، فماذا لو أنّك في لحظتها أعلنت إلغاء الاتفاق وواجهت جمهورك
بهذه الحقيقة، بل الحقائق التي بين يديك، كم كنت وفّرت على الوطن وأهله؟ ستقول فخامتك، بل كان سيكون هذا ذريعة لبقاء الاحتلال، وهل توقيع الاتفاق ليس احتلالاً وذُلّاً؟ أو أنّ الذي حصل كان أفضل؟ لو أنّك فعلت هذا، كنت ستكون بطلاً في كلّ المقاييس والمعايير.
تسعة أشهر من القصف والقتل والدمار، من 17 أيار 1983 حتى 6 شباط 1984، الموعد الحقيقي لسقوط هذا الاتفاق، وما تخلّل ذلك من معارك في بيروت الغربية والشحار الغربي وبحمدون وقرى الجبل، وشقّ طريق الكرامة وقصف الضاحية قصف الدمار بما يشبه الإبادة، وإعادة خطوط التماس وتبادل القصف… بالتأكيد، إنّ الوضع كان سيكون أفضل بكثير لو أنّك أعلنت إلغاء هذا الاتفاق من جانب واحد بخطوة بطولية جريئة، ونحن هنا لا نتحدّث عن موجبات البدء بهذه المفاوضات، نتحدث انطلاقاً ممّا ذكرته في كتابك، وليس من موقعنا الرافض أصلاً للمفاوضات.
ثالثاً: بيروت الكبرى
بيروت الكبرى التي اعتبرتَ أنها إنجاز، كيف؟ وقد مهّدت لها بالدماء والقمع، بالخطف باختفاء بعض الفلسطينيين في منطقة صبرا وشاتيلا، من دون أن نعلم لهم مصير بعد ذلك. وماذا عن الاغتيالات؟ من قتل الشيخ حليم تقي الدين؟ من وضع المتفجّرة لوليد جنبلاط في القنطاري؟ من وزّع السيارات المفخّخة في بيروت الغربية؟ من حاول اغتيال الشيخ عبد الحفيظ قاسم من خلال متفجّرة (كراج حبوب)؟ هذا غيض من فيض ممّا رافق أو كان نتيجة مشروع بيروت الكبرى، ثمّ هل يحقّ لمؤرّخ برتبة رئيس جمهورية مدعماً بالوثائق المؤرشفة، أن يتجاوز الحديث عن صلاة العيد في الملعب البلدي بتاريخ 11/07/1983 بإمامة الشهيد الشيخ حسن خالد، حيث كانت الجملة الأهم: «لا نريد أن تكبر بيروت ليصغر لبنان». هذه الجملة كانت شعار هذه الصلاة الجامعة، التي ضمّت خمسين ألف مصلٍّ في الطريق الجديدة بحسب جريدة «السفير». أمّا جريدة «النهار» والتي كانت إلى جانبك وقتها، فأتت بالخبر في الصفحات الداخلية وبأسطر معدودة، بينما كان الخبر في جريدة «السفير» على عرض الصفحة الأولى تحت عنوان «خمسون ألفاً كبّروا لخطبة المفتي». هذه الجملة الأهم في هذا الحشد التاريخي، كانت من اقتراح الرئيس سليم الحص شفاه الله وعافاه، وكانت الكلمة المفتاح التي كبر لها الجميع. كيف يمكن إغفال هذا الموقف الشعبي (السنّي) العارم ضد إجراءاتك البوليسية القاسية التي كانت تهدف إلى بيروت الكبرى على حساب الوطن، وعلى حساب كلّ المبادئ المحترمة وأين سيمون قسيس من كل هذا؟ وهنا، لي بعض المشاعر الشخصية بعد هذه الصلاة التاريخية: إذ إنني خرجت على رأس تظاهرة من الملعب البلدي إلى مقابر مجزرة صبرا وشاتيلا، وكان العيد الأول الذي يمرّ على هؤلاء الشهداء الأبرياء ــــــ عنوان التكامل بين الصهيونية وبعض المتصهينين المسيحيين، ولا نتّهم كلّ المسيحيين بالتأكيد ولا كل الموارنة حتماً ــــــ هناك ألقيت كلمة نارية، وأنا على الأكتاف أو على منبر حجر من الأرض، وكانت سيارة جيب عسكرية (ويليس) تقف على بعد أمتار قليلة علناً وليست مستترة، وأحد الجنود ينقل خطابي كلمة كلمة لرؤسائه. خُيّل إليّ أني أخاطبك مباشرة، وأنّ الجندي ينقل كلامي وهو يقول الزبون يقول كذا… الزبون يقول كذا… خُيّل إليّ أنّه ينقل الكلام إليك شخصياً في القصر الجمهوري المطل على المكان الذي نحن فيه، ولا يتكلّم مع وزارة الدفاع، ذلك لاهتمامك بالتفاصيل في بعض الأحيان، هناك شعرت أنك خصمي المباشر، من دون أن يكون ثمة لقاء أو مواجهة مباشرة مع فخامتك.
إذن، إسمح لنا فخامة الرئيس، لا يحقّ لك أن تفخر بمشروع بيروت الكبرى وهو لم يكن يوماً إلّا جزءاً من المشاريع الفاشلة المضرّجة بالدماء المثقلة بالظلم التي ارتبط اسمك باسمها، وللأسف الشديد.
ولا بدّ من تتمّة لما حصل في الفترة التي كانت تمهّد لمشروع بيروت الكبرى: ذلك أنّ بوّاب بناية اسمه أحمد فهدا من بلدة مركبا الجنوبية، كان يعمل لدى الوزير الراحل ميشال إده في منطقة القنطاري، شاهد على ما يبدو الذين حضّروا للانفجار الذي استهدف وليد جنبلاط وقتها، في 02/12/1982، لم يُصَب في الانفجار، ولكنّه اختفى تماماً بعد الانفجار ولم يُعلم عنه شيء حتى الآن… بعد مرور هذا الوقت، ليس هنالك من يخبر أبناءه وأحفاده ما الذي جرى له وكيف اختفى ولماذا؟
ما كنت أتمنّى أن تكون مذكّراتك كمذكّرات شاعر أو كاتب حالم وإن كان هذا الجانب العاطفي موضع احترام وتقدير
وطالما أنّ الحديث عن الشهيد المفتي حسن خالد رحمه الله، فلا بدّ أن نذكر أننا كنّا عنده في بيته المؤقت في الروشة، في ظلام دامس في المنطقة، وانقطاع للاتصالات وأجواء من التوتر… وكان قد سكن هذا المنزل مؤقتاً، حتى لا يضطر إلى اجتياز الحاجز الإسرائيلي خلال ذهابه وإيابه إلى دارته في عرمون. خلال وجودنا، جاء درّاج من القصر الجمهوري (باعتبار انقطاع الاتصالات)، وسلم سماحته رسالة صغيرة من فخامتك: اقتراح قمة روحية لبنانية لاستنكار «مجزرة بمريم»، فاستشارنا، وكان جوابنا جميعاً: «لماذا قمة من أجل «مجزرة بمريم»، (2 أيلول 1983)؟ ألم تحصل هنالك مجازر أخرى، ماذا عن صبرا وشاتيلا (وفيهم لبنانيون كثر)، ماذا عن تلّ الزعتر، وعن ضحايا القصف العشوائي…؟ فكان جوابه: «هذه حديثة، وتلك قد مرّ عليها وقت طويل»، وأمسك القلم ووقّع الموافقة، ثم قال بعد توجيه انتقادنا لفخامتك: هذا أفضل رئيس جمهورية حتى الآن… واضح، كأن ذلك في الفترة التي تبنّت فيها سوريا هذا الشعار.
رابعاً: تحرير صيدا
لقد كانت زيارتك إلى صيدا، يوم الأحد 17 شباط 1985، إثر الانسحاب الإسرائيلي مباشرة، ونحن لا نزال في بيروت، سبقتنا إلى مدينتنا، باعتبار أنّ الصهاينة أعلنوا يومي السبت والأحد منع تجول. لقد كانت زيارتك إلى صيدا عنواناً لشخصيتك الملتبسة، حيث هبطتَ بالمروحية في ثكنة صيدا وانتقلتَ مع الوفد المرافق إلى سرايا صيدا القريبة، بسيارات مدنية تم إيقافها عند طرَفي الطريق بتدبير أمني مميّز لتتم الاستفادة من عنصر المفاجأة. كانت الفعاليات قد جُمعت لك في السرايا، وبينهم المطران أغناطيوس رعد، مطران الروم الكاثوليك، الذي كان قد تعامل علناً مع العدو الإسرائيلي، فثار لذلك مفتي صيدا والجنوب الشيخ سليم جلال الدين رحمه الله، في وقفة تاريخية، رافضاً أن يشارك في الاجتماع ـــــ عميل ـــــ ولو أنه كان يحمل لقباً دينياً، فوقف غاضباً، وقلّما كان يغضب، مردّداً بيت أحمد شوقي المشهور:
وللحرية الحمراء باب
بكلّ يد مضرجة يدق
فتمّ إخراج المطران، ولكن مَن الذي دعاه ومن المسؤول عن هذا الخطأ الجسيم؟ وليس هذا هو الأهم، إنك بكلمتك المقتضبة زوّرتَ التاريخ، واستخففت بعقول الناس، فقلت إنّ هذه الأرض حرّرتها المقاومة اللِبنانية، هكذا بكسر اللام، وهذا التعبير كان يعني وقتها «القوات» اللبنانية، ولم يكن يعني المقاومة التي واجهت إسرائيل وانتصرت. كان فقط المطلوب منك أن تضمّ حرف اللام على الأقل، أو أن تقول المقاومة الوطنية اللبنانية، إن كان يصعب عليك أن تقول المقاومة الإسلامية. وكنت تستطيع أن تقول إنها مقاومة أهلنا وشعبنا أو أهل الجنوب، أو أي كلمة أخرى، ولكن كان تعبيرك صدمة قاسية للمقاومة والمقاومين ولأهلنا في صيدا الذين قدموا شهداء كثراً.
هذه الزيارة، وهذه الكلمة، ستبقى عنواناً لشخصيّتك التي فاقمت الأزمات اللبنانية في عهدك. لا تظن يا صاحب الفخامة أنّك بكلمة أو بزيارة أو بلفتة دبلوماسية أو بهدية رمزية، تستطيع أن تغيّر وقائع دامغة، وهذا جزء رئيسي ممّا فعلت خلال السنوات الست القاسية، التي كنت فيها رئيساً.
وحتى تكتمل الصورة، نقول إنّ البعض برّروا للمطران رعد «عمالته»، بأنها كانت ردة فعل على مجزرة كفرنبرخ ــــــ الشوف، التي ذهب ضحيّتها كثيرٌ من أقاربه… وليس هذا تبريراً مقبولاً بالتأكيد، ولكن الواقع يقول إنّه استقال بعد ذلك من منصبه وهاجر إلى كندا ومات هناك. ولعلّ الكنيسة قد طلبت منه الاستقالة على الأرجح، لأنّ دوره كان محرجاً لها، ولا ينسجم أبداً مع دوره كمطران وكرجل دين.
خامساً: سمير جعجع؟
نسأل مرّة أخرى، هل يحقّ لرئيس جمهورية ورئيس حزب أن تكون مقاربته للأمور شخصية أو ذاتية؟
لقد كان انتقادك لـ«القوات» اللبنانية، ولسمير جعجع، انتقاداً خجولاً ضعيفاً في مراحل الكتاب كافة، ثم أصبح قاسياً قوياً لدى تعرّضه لشخصك الكريم ولعائلتك، وصولاً إلى إخراجك من لبنان، هل كانت هذه أهم جرائمه؟ هل المقياس هو ما سبّبه لك من إزعاج ولعائلتك، أم ما أقدم عليه من تدمير وإتلاف لوثائق بيت المستقبل؟ على أهمية هذه الجريمة! أم أنّ ثمة ما هو أكبر من ذلك بكثير؟ ماذا وقع في شرقي صيدا مثلاً؟ بل في صيدا نفسها، بعد الانسحاب الإسرائيلي الذي تم بيسر وسهولة، وتسلّمت الأمن قوةٌ منتقاة من الجيش اللبناني ساهم في تشكيلها الشهيد رفيق الحريري، وكانت أهم أعماله وقتها، وكان كلّ شيء على ما يرام ولم يكن هناك من خطر أو خوف على أهلنا المسيحيين في شرق صيدا، أو حتى كان ذلك الهجوم المجرم ظهر يوم 18 آذار حيث قسّمت «القوات» اللبنانية صيدا إلى شطرين، وجعلت من حي القياعة خط تماس مع الهلالية والبرامية وعبرا وماهو بعدها… وبدأ القصف من شرقها على غربها، وحبست عائلات بأسرها بين الشطرَين… أصبحت القياعة التي هي حي صيداوي داخلي خط تماس مع القوات اللبنانية. لقد كان الهجوم الذي استمرّ حتى 26 نيسان خدمة كاملة للعدو الصهيوني، لم يكن هناك أي احتمال لأية مصلحة محتمَلة للبنان أو للمسيحيين على الإطلاق، ولو بنسبة واحد بالألف، ولكن كان تنفيذاً للخطة الإسرائيلية التي كانت تنصّ على أنّ المناطق التي تنسحب منها إسرائيل يجب أن تتقاتل وأن تُدمّر حتى يقول الإسرائيلي للرأي العام العالمي الغبي، إنّ وجود إسرائيل كان حاجة لأمن اللبنانيين، وإنّ اللبنانيين أعجز من أن يحكموا بلدهم.
عند الانسحاب، وبعد المخاوف التي بثّها العدو الإسرائيلي عن مصير المناطق التي سينسحب منها، وبعد فشل محاولة اغتيال مصطفى سعد رحمه الله في 25 كانون الثاني 1985 ــــــ أي قبل الانسحاب الإسرائيلي بحوالى 22 يوماً فقط ــــــ في أن تُحدث فتنة داخلية كما صرّح بذلك العملاء إثر الانفجار مباشرة، قام جعجع بتقديم هذه الخدمة المأجورة إلى العدو الصهيوني، ولم يكن في وارد أن يتعلّم من أخطاء عام 1983 عندما انسحبت إسرائيل من الجبل من دون تنسيق مع الجيش اللبناني، ولا مع حلفائها «القوات» اللبنانية، وزوّدت الدروز كما «القوات» بالسلاح اللازم للتدمير الذاتي، فكانت المجازر وكان الدمار، وكانت الكارثة، ولا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين، ولكنّه ليس بمؤمن كما هو واضح.
ها هي إسرائيل تنسحب من شرقي صيدا وصولاً إلى أطراف جزين، وتجد «القوات» اللبنانية نفسها ملزمة بالانسحاب، ليصعد المسلّحون من صيدا وتحلّ الكارثة. لقد كان تعليق محافظ الجنوب وقتها (حليم فياض) في غاية الدقة، فقد قال يوم 18 شباط: خوّفونا ممّا بعد الانسحاب، وها نحن نعيش في أمان بعد الانسحاب الإسرائيلي، وضرب مثلاً على ذلك شخصية «راجح»، العدو الوهمي في فيلم «بيّاع الخواتم» للرحابنة والسيدة فيروز.
كان تشبيهاً بليغاً، ولكنّ عمالة جعجع فوّتت علينا فرصة الفرح بهذا الانسحاب التاريخي. هل يمكن أن يُغفل ذكر هذه الحقبة المهمة والمميزة من تاريخنا المعاصر؟ وهل يمكن أن تُقوَّم «القوات» اللبنانية، فقط من خلال أخطائها في الساحة المسيحية؟
إنّ إخفاء أو إغفال نصف الحقيقة قد يكون معادلاً لأسوأ أنواع الكذب، خاصة عند كتابة التاريخ والإدلاء بالشهادة لله وللوطن وللعائلة أيضاً، وإن مثل هذه العمالة ظهرت في أكثر من محطة خلال الحرب اللبنانية.
صحيفة الأخبار اللبنانية