قرن مضى
في مطلع القرن الماضي والاستعمار بأشكال مختلفة ما زال يخيّم على المنطقة، كنا رغم ذلك واثقين، ليس من أنفسنا ولكن من التاريخ. كان ثمة خطة على التاريخ أن يتمرحل فيها. يخرج الاستعمار أولاً وتقوم محله دولة مستقلة ويتواصل صراع سياسي متعدد الاتجاهات في برلمان للأمة بكاملها يحتوي اختلافاتها الاثنية والثقافية والدينية. كان كل شيء يوحي اننا على هذا الطريق، في مصر ولبنان وسوريا على الأقل كانت هناك أحزاب وسياسات، الدين نفسه تمثّل في تنظيمات تجاري هذا الواقع السياسي، كانت سبقت بالطبع مذابح طائفية لكن الهيمنة لم تكن مطلب الجماعات الدينية، الأصولية لم تكن غائبة لكن التنظير السلفي الشرعي بقي بعيداً. دمغ الدين بالعنف واعتبار العنف أعلى فرائضه لم يكن قائماً، الآن ونحن في مطالع القرن الحادي والعشرين لا نزال في الموضع نفسه، قرن كامل لم يبدل شيئاً، بل نحن إذا جاز أن نوازن بين تقدم وتأخر عن بدايات القرن الماضي، لا نخطئ إذا قلنا إننا، أياً تكن الأسباب، تراجعنا قياساً على قرن مضى واننا اليوم في درجات من التخلف لا حدود لها.
لو أشحنا عن السياسة أو أهملناها فحسب، لعلمنا أننا في هذا الباب لم نحقق شيئاً مذكوراً، لم نراكم ما يسعنا أن نبني عليه. الوحدة القومية التي علا نفيرها في يوم، صارت اليوم أضغاثاً، تحققت وحدة أو اثنتان ثم هوتا بدون ضجيج. بعد ذلك بدا الحلم نفسه مجرد أهواء وتخرصات ومضغ أفواه. ما انتهى إليه لم يزد عن ديكتاتوريات عسكرية لم تكن في الواقع سوى خرائب دول وخرائب جيوش ومافيات عائلية، وبالطبع فإن التحديث والتنمية والاشتراكية لم تكن سوى عناوين فارغة. أما الخليط الايديولوجي فليس سوى غثاثات فكرية ونظرية. كان كل شيء رميماً وانهدامات وعمارات على الفراغ، وفي إمكاننا ان نتكلم عن قرن كامل انقضى في العسف والهراء والادعاءات الزائفة. لقد بنينا خلال قرن مباني دولة ومباني مجتمع واقتصاد ومباني عسكرية لم تقدر على الصمود وانهارت من تلقائها ولم تترك سوى خربطات ومزاعم واختلاقات.
لم نراكم، قد تكون هذه كلمة السر. لم نراكم شيئاً في السياسة ولا في الاجتماع ولا في الثقافة، ولا نبالغ إذا قلنا إننا في كل هذه المناحي لم نزد عن العودة إلى الصفر وإلى المربع الأول. لسنا نعرف أشكالاً للدولة ولا نستطيع أن نفرز فيها الطائفي من العائلي من العشائري من المافياوي. والأرجح ان دولنا قامت على خرائب مجتمعات. لم نراكم، إذا حدنا إلى الثقافة، أدركنا أننا في هذا الباب لم نؤسس شيئاً. إذا حدنا عن النتاج الأدبي الذي لا نملك له عياراً واضحاً أو النتاج الفني، للسبب نفسه، فإننا لا نستطيع الزعم اننا حققنا شيئاً في أقرب المناحي إلى الأدب والفن، أعني بذلك نظرية الأدب والفن أو النقد الأدبي والفني. في هذا المجال نملك فقط ادعاءات فحسب، محض أسماء لم تترك وراءها ما يستحق أن يعوَّل عليه. ينبغي القول إننا في هذه الحقول لم نضرب بسهم. هذه الحقول لا تستمدّ من الموهبة والسليقة فحسب، بل تستمدّ، وبالدرجة نفسها، وربما بدرجة أكبر، من الإطلاع والثقافة في عمومها. فالشعريات، وهذا هو الاسم المصاقب للنقد، انما تستمد من التاريخ الأدبي والفني والفلسفة وهذه، بالإضافة إلى النتاج الأدبي والفني، مسارات لها في كل حقبة زمانها وساعتها ومنتهياتها. نستطيع أن نسمي روائياً أو شاعراً أو مصوراً أو موسيقياً لكننا لا نستطيع بالسهولة نفسها أن نسمي مفكراً في هذه الحقول أو ناقداً، فحيث لا تكفي الموهبة، إن تكن حقاً كافية وهذا ليس بدون ريبة، وحيث يحتاج الأمر إلى ذخيرة من المعرفة وجهد ثقافي نكاد لا نجد شيئاً ذا بال. في وسعنا على هذا الأساس أن نتكلم عن عوز ثقافي بل وعن محلٍ في هذا المجال، وإذا تكلمنا عن هذا العوز، فإننا نصل إلى ثقافة ليست سوى تلاوين ومظاهر وأزياء فحسب، ولا تقدر من هذه الناحية أن تؤسس أو تحقق شيئاً.
لم يكن فقط قرناً فارغاً من ناحية الثقافة، بل كان أيضاً قرناً مثالياً لطرح المشكلات التي لا قدرة على حلها، بل هو القرن الذي لم يستطع أن يحل أياً من مشكلاته في كل المناحي، وتركها جميعها عالقة. ولعل ما يجري اليوم في ما تسمى بالربيع العربي علامة على تشبث هذه المشاكل وفقدان أي تراكم يؤسس لحلها أو إجرائها وتسييلها على الأقل. لعل ارتطامنا بالديموقراطية يتم الآن على هذا النحو، انه ارتطام يفجر في حدوثه كل المترسبات التي لم تجد طريقها إلى العلاج. وفي النهاية لا نعجب إذا كانت الردود الأولى، لأول وهلة، هي عنف هذه المترسبات التي تسبق على أي سياسة وأي دولة وأي مجتمع. لا نعجب إذا ابتعدنا عن الدولة والمجتمع، إلى مشكلات تقنية، هي الأخرى لم تجد علاجاً كافياً ولم نعثر على أدوات حلها. لنفكر بمسألة تقنية كقصيدة النثر، لنجد أن ما أثارته هذه القضية يتصل بمحيط أوسع بكثير منها، مسألة مثلها تثير قضايا تتصل بالدين وبالأصل وبالتنزيل وبالقومية والقبليات والبداوة والحضارة، أي أنها تتصل بمحيط من مترسبات جميعها لم تجد انكشافاً كافياً وجميعها لم تنفتح ولم تنبسط ولا زالت على نحو ما محجوبة ممتنعة، بحيث إن أقل المسائل وأكثرها تقنية، تستثير، ودفعة واحدة، كل هذا المحيط المترسب الذي لا يمكن الفرز فيه، ولا يمكن تصنيف مشاكله أو ترتيبها، وإنما هو سديم من المشاكل، لا عجب إن استفزت جميعها، وبالقدر نفسه، الدين أولاً بوصفه المربع الأول وبوصفه الأصل.
صحيفة السفير اللبنانية