قصة لوحة دمشقية نادرة !
نشر مواطن سوري هو الدكتور عبد الرحمن قرنفلة لوحة على صفحته في موقع الفيس بوك، هذه اللوحة تصور الباب الثالث من معرض دمشق الدولي في الستينات من القرن الماضي، والصورة تسجل لحظة تاريخية على غاية الشفافية والجمال، ومن يدقق فيها يتذكر بالفعل أيام المعرض الساحرة التي كان الدمشقيون يحيونها من أول يوم في المعرض إلى آخر يوم فيه..
يسهرون بجواره على ضفة نهر بردى ، أو يتجولون في أجنحة المعرض وكأنهم يتعرفون على كل دولة من دول العالم المشاركة فيه، أو يراقبون تدفق المياه الملونة من قلب النهر في مشهد عجائبي ساحر رغم بساطة الفكرة التي تتعلق بتسليط الأضواء الملونة على النوافير !
ما الذي تثيره هذه اللوحة فينا ؟!
في ذاكرة السوريين يتألق جمال مدينتهم بمعالم طبيعية هي الأنهار السبعة التي فيها، وأهمها الفرع الرئيسي من نهر بردى الذي يخترق قلب المدينة متدفقا بمياهه العذبة من جهة الغرب إلى جهة الشرق..
لقد جف هذا النهر، مياهه القادمة من ينابيع بردى والفيجة والخضرا وبسيمة لم تعد تكفي حاجة الشرب للمدينة، فقد كانت دمشق تعد بمئات الألوف، فأصبحت تعد بالملايين، وكانت المياه تستخدم للشرب والنظافة وري أشجار البرتقال والكباد والجارنك ودوالي العنب والورد الجوري والياسمين والخبيزة والشمشير والشب الظريف والليمون الحلو والحامض ..
أما اليوم، فمياه نهر بردى لاتكفي لأنها مهدورة، الفائض القليل الذي يتدفق في المجرى مخلوط بمياه الصرف الصحي والأوساخ .. تفوح منه روائح كريهة وتتجمع فوقه حشرات من كل الأنواع، أكلت الحضارة الزائفة جماله ورمته في كومة الأشياء الضارة بالبيئة!
كذلك ضاع اللون الأخضر من المدينة، وانتشر هالوك المخالفات السكنية يحيط بالمدينة فيزنرها بحزام اسمنتي يخنقها بلهاث الناس الذي فيه، ودخان الحافلات التي تغص براكبيها.
تقلصت الغوطة التي صنعها النهر إلى آخر حد ممكن، صارت مسرحا لعمليات الكر والفر بين الجيش والمسلحين، لم تعد الغوطة غوطة . صارت الغوطة غولا من اليباس والحرب والموت والذكريات المحزنة ..
وعلى ضفة النهر التي كان المعرض يتألق جنوبها، والتي سحرت الفنان المجهول الذي رسمها .. على هذه الضفة يمر الدمشقيون اليوم، وخاصة طلاب الجامعات والجنود في شرود واستعجال دائم ، كل ينتظر مصيره ويعيش مأساته ..
لا أحد يمكنه استعادة المجد القديم لهذا المكان ، لا أحد من هؤلاء يمكنه أن يتصور أن المكان الذي يمر فيه الآن كان قد شكل لوحة آسرة بطبيعتها جعلت فنانا مبدعا يسجلها للتاريخ ..
لندقق قليلا في اللوحة .. ياللسعادة الغامرة في بساطة الحياة : لا أحد يحلم بالديمقراطية، ولا أحد يتمنى الاستيلاء على السلطة، ولا أحد يكره الآخر، ولا أحد يفكر بأن يصبح جاسوسا ، ولا أحد يبحث عن ملجأ له في أفق البحار..
المسألة ببساطة هي أن السوريين كانوا بسلاسة مياه الشرب العذبة، فمن غيّر طبيعة الروح التي كانت تميزهم ، فصارت الحرب كارهم وشغلهم الشاغل!
يالهذه اللوحة ما أجملها، في زحمة الحرب والموت والنسيان !