قطيع من الأوطان
ثمة الأوطان الجغرافية… أو الوطن الجغرافي، المعرّف بالحدود والجبال والأرض والمياه، سكانه زراعيون، وصغار لقمة، ولصوص ليليون يفرضون، بالقوة، الانتهاك المؤلم لسلام الطبيعة الأول .
في الوطن الجغرافي… ثمة خوف بدائي: (خيانات الفصول!)
وثمة الأوطان ـ الدولة… أو الوطن الدولة، سكانه ينتظرون سماء الوزارة، ومطر المديريات، وطابور أي شيء !
في الوطن الدولة… ثمة خوف ابتدائي: (جنايات العجول !)
في غياب المحبة لهذا الوطن، وذاك… ثمة “الوطن المعنوي”. سكانه لايأملون ولا يخافون ولا ينتظرون. جماعة يعتنقون، من غير فلسفة، خياراً مؤلماً هو: العزلة . وهي التي تنتج الفنون والآداب. وهم الذين، يوسعون المساحات المزروعة ، الخضراء والنضرة ، للوجدان الإنساني . فينمو، في الخيال ما دمرته، في وطن الجغرافيا، نزوات الفصول وما خربته برعويتها، أقدام العجول. وهم الذين، في صناعة جمال الأشياء، يفضحون باب الجحيم الواقعي المطلّ على حدائق الفردوس، في مدائن الوطن ـ الدولة. .
…………….
في بلادنا العربية ما هو وطن الجغرافيا، والدولة، والوطن المعنوي.
وفي روح كل منا ذلك الشخص الذي لا يعترف بالحدود ولا بالدولة.
وتحت ظلال أشجار البلاد يجلس متأملاً (فكرة الوطن) في ذاكرة الطفل، (ومحتوى) فكرة الوطن في وجدان الفتى، (مآل) فكرة الوطن في ما سيغدو، على وجه اليقين، هاوية النهايات السحيقة في شيخوخة تورث الأحفاد الغرباء: اللافكرة واللاواقع. تورث الأحفاد…النقصان!
الوطن المعنوي بديل لهجرة الجسد، حين “القلب” مؤسس، في مكان ، للحب. و”العقل” مجسّد في أي زمان، لقوة الحياة.
و”الخيال” مهندس لكل خراب العبث الجغرافي، واللاعدالة، وصولاً إلى الموت، بكل فنونه القتالية العابثة، في “وطن الدولة”!
قلت الخيال؟… كل شيء يفوق الخيال، حين تغدو حياة فرد واحد… ثمنها الرصاصة التي تقتلها!
“الوطن المعنوي” مكان لسكان الشتات البعيد ، واللاجئين ، والمهجرين ، وذوي الهويات الضائعة ، والمنبوذين.
الوطن المعنوي هو للغرباء في أماكنهم، والمقيمين الإجباريين في الخوف والقسوة والجوع وانعدام الأمل.
الوطن المعنوي يناسب كل الأجناس ، وكل الأشخاص الذين شردتهم أفكارهم وانتماءات أرواحهم. الذين ملوا، مللاً جميلاً من الاصطفاف على الهامش الأبدي.
الوطن المعنوي هو ما نسكنه غداً… ونغادره الآن.
الوطن المعنوي هو الذي ينقذك من المنافسة، غير الشريفة، مع الوطنية الطنانة للفاسدين، حيث يرفعون علماً على سارية، على حائط أخير من وطن لم يعد فكرة ولا جغرافيا، وإنما ندبة في الذاكرة!