قهوة ومقامات…

مازالت “القهوة ” ـ مثل لونها ـ كلمة آسرة، شراباً ومكاناً وثقافة لدى كل الشعوب التي عرفت وحمّصت وطحنت هذه الحبيبات الساحرة التي اكتشفها الرعاة مع قطعانهم في بلاد اليمن والحبشة .

أحيط هذا المشروب الساخن القاتم بهالة من الغموض والقصص المشوّقة ..وحتى الحزينة والمفجعة الممتدّة من الأيادي السمراء النحيلة التي أدماها القطاف إلى تلك التي توقّع على بياض الفناجين أخطر الصفقات في الغرف المغلقة .

اختلف في مذاق القهوة واستعاراتها المجازية العشاق والشعراء والعرّافات وأبطال السلم والحرب، فهي العذبة تحت شفاه المحبين، الدافئة في خيام الاستقبال والباردة على طاولات السأم والانتظار، وهي مرّة في المآتم وعصيّة الارتشاف في ساعات الغضب وتحت طبول الحرب.

فناجين القهوة مخطوط غامض السطور، تتسلّى بقراءته نساء الشرق الحائر في الصالونات، تمتهنه الغجريات ويعدّ به العاطلون والمعطّلون ما مضى من العمر على أنغام رائعة عبدالحليم حافظ التي كتبها الدمشقي المدلل نزار قباني .

لفناجين القهوة لدى التونسيين قصة غريبة ونادرة، إذ يقسمون بها في المجالس قائلين “ورأس ها الشاذليّة ” …وذلك نسبة إلى العالم الصوفي المعروف أبي الحسن الشاذلي، وهو أوّل من جلب مادة القهوة وعرّف بها بين مريديه الذين يتناولونها في حلقات الذكر عندما كانوا يقيمون الليل طرداً للنعاس وطلباً للنشاط في زاويته المقامة على ربوة خارج سور المدينة، ومازال الناس إلى حدّ الساعة يصحبون معهم أباريق القهوة ويصعدون إلى زاويته التي كانت في الأصل مغارة يتعبّد فيها أحد الرهبان المسيحيين .

أمّا المفارقة الطريفة فتتمثّل بإقلاع أحد أكبر شيوخ الطريقة الشاذلية في تونس عن القهوة وهو إبراهيم الرياحي، وحين سألوه عن السبب أجاب ” تركتها للعوام حين رأيتها تنزل من عليائها ويتناولها السفهاء والدهماء “.

….ومع ذلك ، فعلتها وارتشفت قهوتي هذا الصباح في أعلى التلّة عند مغارة الراهب القدّيس ومن بعده مقام الوليّ الصالح الذي تتسلّقه القبور شوقاً وقد تركت خلفها المنازل والأسواق والأحقاد الصغيرة، كان السكون والوداعة سيد المكان وكان مذاق القهوة أشهى من أي وقت مضى .

أيتها القهوة التي تعطّرت بأنفاس هذا الشيخ الجليل ومريديه المخلصين، عمّدي كلّ الشفاه التي تحطّ فوقك هذه اللحظة بروح المحبّة والسلام ولا تكوني فاتحة للضغائن والدسائس والحروب، عودي إلى صباح أهل الشام أنساً ووئاماً وهم الذين أضافوا إليك القليل من الهال والكثير…الكثير من البهجة وحب الحياة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى