كتائب تقاتل وأخرى تتربص لتقبض على الحكم (عمر قدور)
عمر قدور
لم يعد يكفي الحديث عن أخطاء لبعض الكتائب المقاتلة ولا عن تراكمها، لأن تكرار التجاوزات وتوقيتها أكبر من أن يضعها في مرتبة الأخطاء فحسب، وما لم تُتخذ مواقف جذرية على وجه السرعة فقد تكون الثورة مهددة مما يسمى داخلها، بمستوى لا يقل عن تهديد النظام المتربص بها.
مجلس القضاء الموحد في محافظة حلب يصدر مع مستهل شهر رمضان التعميم الرقم 23، يهنئ فيه بقدوم رمضان وينذر من يفطر علناً في محل عام بالحبس لمدة سنة، كما ينصح «الإخوة المجاهدين أصحاب العذر بعدم المجاهرة بالإفطار حتى لا يُتهموا في دينهم». الهيئة الشرعية في حلب تعتقل ناشطاً إعلامياً ذهب لمطالبتها بفتح المعبر بين المناطق المحررة من المدينة وتلك التي تسيطر عليها قوات النظام، من أجل تسهيل عبور الأغذية إلى الشطر الثاني من المدينة.
الناشط وفق الأخبار عبّر لعناصر الهيئة عن رغبته في قيام دولة ديموقراطية علمانية، فرأى هؤلاء أن طلبه يجعله بحكم المرتد وأمهلوه ثلاثة أيام للتوبة عنه، مع بقائه قيد الاعتقال. في اليوم السابق لاعتقاله، كان عناصر إحدى الكتائب أطلقوا النار على تظاهرة أمام المعبر المذكور تطالب بفتحه، وهي ليست المرة الأولى، فقد قامت «النصرة» قبل ذلك بأشهر بإطلاق النار على تظاهرة في حي بستان القصر، تندد بممارساتها. عناصر من دولة العراق والشام الإسلامية «تنظيم القاعدة» يعتقلون أعضاء المجلس المحلي في بلدة تل أبيض التابعة للرقة، الهيئة الشرعية في الرقة أيضاً سبق أن اعتقلت ناشطة «محجبة» كانت تبيع فناجين قهوة رُسم عليها علم الثورة ليذهب ريعها لتمويل وجبات غذائية توزع على الفقراء في شهر رمضان. الناشطة تلقت التعذيب على يد سجانة تلقب بـ «الذبّاحة»!
ما سبق ليس سوى رأس جبل الجليد كما يُقال، فقبل نحو شهر هاجمت عناصر من «جبهة النصرة» مدينة يبرود المحررة بقصد الاستيلاء عليها، وللتأكيد فـ «يبرود المحررة» مدينة فيها مجلس محلي مدني يديرها منذ خروج قوات النظام، ولم تُسجل له انتهاكات أو ممارسات شبيهة بتلك التي اشتهرت بها الهيئات الشرعية. أيضاً قبل أكثر من شهرين ذاع التسجيل الذي يُظهِر أحد مقاتلي المعارضة وهو يأكل قلب عنصر من قوات النظام، وللمصادفة أتى التسجيل ليغطي في وسائل الإعلام العالمية على المجازر التي كانت قوات النظام ارتكبتها للتو في البيضا وبانياس. المصادفة ستتكرر أيضاً مع اقتحام القصير والمجازر التي حدثت فيها، إذ سيتبرع مسلحون في مدينة حلب بالتغطية على أخبارها فيقبضون على طفل بذريعة الكفر ويقومون بإعدامه أمام ذويه وجمهرة من أهل حارته، الحدث الذي سيأخذ صدى واسعاً في وسائل الإعلام الغربية.
يذهب بعضهم كالمعتاد إلى أن تركيز وسائل الإعلام الغربية على انتهاكات كتائب المعارضة لا يخلو من التسييس، ويروم إلى تشويه صورتها وخدمة النظام. هذا القول لا يفتقر إلى الموضوعية تماماً، فالواضح أن وسائل الإعلام المقصودة لم تضع الحدث السوري أو الانتهاكات الممنهجة للنظام على رأس أولوياتها، ولا ريب في أن بعضها غير بعيد عن الإسلاموفوبيا، لكن الأصل يبقى في عدم إتاحة الفرصة لها. فإذا كانت حقاً تتصيد انتهاكات المعارضة فمن الأوْلى بالأخيرة أن تكون بعيدة عن الانتهاكات التي تشوّه صورة الثورة ككل، بخاصة لأنها لا تتوقف عن توسل الدعم الدولي وعن إدانة تخاذل الغرب.
بعضهم لا يكترث أصلاً بصورة الثورة في الخارج، وعلى رغم ضحالة هذا التوجه إلا أنه يهمل أيضاً صورة الثورة في عيون أبنائها، تحديداً صورتها في عيون أبناء المناطق المحررة. أهالي هذه المناطق الذين يتحمّلون القصف المتواصل والحصار وشظف التجويع، يفعلون ذلك كرمى لحريتهم، لا ليقعوا تحت استبداد جديد، وليسوا في حاجة لمن يعلّمهم دينهم أو يملي عليهم أساليب عيشهم. أهالي حلب مثلاً، والذين ينذرهم بلاغ مجلس القضاء الموحد، درجوا منذ زمن طويل على الاحتفاء بشهر رمضان، وبمشاركة واسعة من اللامتدينين أو المتدينين الموسميين. الإفطار العلني يكاد أن ينعدم في بعض الأحياء أو يكون استثناء في أحياء أخرى، لكن قسماً من المطاعم يواصل تقديم وجباته لمن شاء، ولم تُسجل سابقاً حوادث اعتداء على المفطرين.
ما يلفت الانتباه أن الكتائب التي ترتكب الانتهاكات ليست هي التي حرّرت مناطق نفوذها الحالي، أو لم تكن لها اليد الطولى في التحرير، وهي في غالبيتها العظمى غير منضوية ضمن «الجيش الحر». في أكثر من مكان وحالة، لم تقدّم تلك الكتائب الدعم الضروري للمقاتلين الذين كانوا يعانون نقصاً في العتاد والذخيرة أمام قوات النظام، بل ظلت منشغلة بفرض رؤيتها الخاصة للحكم مع انهماك بعضها بجمع «الغنائم». مثلاً في حادثة معروفة قبل أسبوعين، لم تتحرك الكتائب الداعمة للهيئة الشرعية في الرقة لصد رتلٍ من قوات النظام، الذين تصدوا للرتل ودمروه كانوا من تشكيلات لا تنتمي إلى الهيئة وفكرها الأيديولوجي، وفعلوا ذلك بمساعدة كبيرة من الأهالي.
لا يغيب عن بال المتابعين وجود صلات سابقة لجماعات «القاعدة» والتكفيريين بالنظام السوري، الصلات التي توطدت مع سقوط نظام صدام. هذا لا يعني بالضرورة بقاءها كما هي حتى الآن، لكن الخدمات التي تقدّمها للنظام بانتهاكاتها تثير مزيداً من الريبة، فهي على الأقل لا تتوقف عن تقديم العون الإعلامي اللازم له. إن وضع كثير مما حدث في إطار الانتهاكات الفردية أو المصادفة يتغافل عن أن مجموعها يشكّل منهجاً مستمراً، وإذا كانت المعركة الكبرى لا تزال مع النظام فمن الأوْلى أيضاً أن تكون المعركة مع كل ما من شأنه أن يخدمه.
لقد تلكأت المعارضة طويلاً في إدانة كتائب السرقة والتعدي على خصوصيات السوريين، وتلكأت أيضاً في إقرار مدوّنة تنظم إدارة المناطق المحررة، بحيث لا تبقى أسيرة الأهواء الأيديولوجية أو المصالح الخاصة.
كثيرون، ومنهم مسؤولون غربيون، يقرّون بأن المتطرفين في سورية قلّة. السؤال: لماذا إذاً يُسمح لهم بالتحكّم بالغالبية؟
صحيفة الحياة اللندنية