كتابة توجع القلب وتضحك الشفاه
في إحدى مقالاته كتب عزيز نيسين الكاتب التركي المعروف بكتابته الساخرة قصة حدثت معه يقول فيها: “وأنا منزو في زاويتي البعيدة، إذ بثلاث نساء ورجلين يقتربون مني، ويبدأون طرح الأسئلة المتلاحقة علي: هل تضحككم القصص التي تكتبونها؟ من يدري فقد تضحكون كثيراً عندما تكتبون.
يقول نيسين: من الواضح أنهم يريدونني أن أضحك أنا الآخر مع كل قصة أكتبها، أما أنا فكنت ساكتاً على الدوام، عادوا ليسألوا: ربما لا تضحكون أليس كذلك؟ إنه شيء محير ألا تضحكوا أبداً!
يقول نيسين: هذه الأسئلة كانت توجه إلى ذلك المخلوق الغريب الذي لا يعرفونه، ومن خلاله يريدون معرفة أكثر عني، فتابعوا تساؤلاتهم: يجب أن تكون هناك حادثة أضحكتك كثيرا يا روحي، هيا قص لنا واحدة منها، هنا أجابهم نيسين: “أنا لا أستطيع أن أضحك من كتاباتي”.
ربما يكون في هذه القصة اعتراف غير مباشر من كاتب ساخر بأن كتابة السخرية هي الوجه الآخر للرصانة والجدية، أو الواجهة الأخرى الخفية للحزن أو الألم، فالألم رصين بطبعه، والكتابة عنه بمفارقات السخرية أكثر إنتاجا لألم من نوع آخر، بمعنى أن السخرية قادرة على تشخيص الوجع بدقة، إذ تضع يدها عليه كما لو أنها تجس دملا على وشك الانفجار وهذا دور آخر تمارسه الكتابة الساخرة بجانب تشخيص الألم، فهي تحرضه أيضا على الخروج، وتعطيه الأمان وتفرد أمامه مساحة جريئة ومريحة بنفس الوقت حتى يتفرد بالظهور.
فالسخرية هي الكتابة القادرة على تنفيس دمامل الوجع شيئا فشيئا حتى تمنع الالتهاب والاحتقان الذي غالبا ما يتسبب في انفجار عنيف، فالقارىء الموقوت بالأسى والمحتقن بالضغوطات الكثيرة بدءا من الخاص وليس انتهاء بالعنف الذي يلقي شراسته ووحشيته على العالم، يجد في كتابة ساخرة مثلا عن القتل الهمجي الذي تمارسه الجماعات المتطرفة في العالم، وقتا يشبه لحظات سلام نادرة بعيدة عن الرعب ومشاهد الفزع.
وإذا كانت الكتابة بكافة أشكالها من مقالة وقصة وشعر ورواية هي عملية تعرية للواقع وتناقضاته، فإن الكتابة الساخرة ليست مجرد نكتة أو دعابة تمارس تأثيرها الضاحك وحسب، وإنما تعد كتابة قريبة بألفاظها وتناولها الأسلوبي البسيط من القارىء بنفس البساطة التي تستطيع الوصول وإيصال الهدف منها إلى ذهن القراء بمختلف شرائحهم ومستوياتهم الفكرية.
فالكتابة الساخرة شكل كتابي عابر للطبقات الاجتماعية على اختلاف اتجاهاتهم وتكتسب بهذه الصفة ثراء أسلوبيا ومعرفيا وشجاعة في تعرية وكشف وتناول الكثير من المواضيع التي تمر الكتابة بأشكالها الأخرى بمحاذاتها ولا تشق طريقا في غمارها المحظور.
وربما تكون المادة السياسية هي أكثر المواد الغنية والمغرية لتناولها بسخرية، ذلك أن محاذيرها كثيرة والكتابة بمباشرة ومن غير تغليف يجلب الكثير من المتاعب لكتابها، أما ما تقدمه الكتابة الساخرة من إشارات في شكل يدعو إلى الابتسام أحيانا أو الضحك أحيانا أخرى وفي مرات كثيرة يدعو إلى حالة تشبه البكاء مشوبا بالقهقهة المريرة.
حين سئل أكثر من كاتب ساخر عن تلك الضحكة التي تراود الألم عند قراءة المادة الساخرة أجاب الأغلبية بتعابير مختلفة لكنها تحمل معنى واحدا بأنها شيء يشبه المطعوم الذي يحصن الناس من الأمراض، تلك الإبرة التي تخز وتوجع لكنها تخفف من كآبة الواقع وقد يستمر مفعولها طويلا.
وعن تلك الضحكة أو الابتسامة التي يطلقها القارىء في وجه هذه الكتابة تمنى أكثر من كاتب ساخر لو أنها تكون ضحكة غبية، ذلك أن السخرية تتقمص أحيانا لغة الغباء اللاذع والتعامي المقصود غير أن الضحكة لها ألف عين وعقل مفتوح على اكتشاف الأسى.
بكل مكوناتها تعتبر الكتابة الساخرة كتابة متمردة وجريئة، فهي كتابة غير نمطية في تناولها لمحتواها، بالإضافة إلى إلى خروجها عن المألوف في اختيار اللغة والاسلوب الذي تتوجه به إلى القارىء، كتابة تتمرد على الكتابة النمطية، وأسلوب متمرد على التقسيمات الفنية فلا هو بالمقالة ولا بالقصة أو الخاطرة، وتكتمل فيه دائرة التمرد حين تتمرد الابتسامة أو الضحكة عند القارىء على الأسى المختبىء وراء الكلمات، تتمرد على الوجع وتنهي مشروع المخاطرة التي بدأها الكاتب بلغة وختمها القارىء ببسمة متعالية على الألم.
ميدل ايست أونلاين