كتاب يستعيد الجائحة التي نكبت العالم في الحرب العالمية الأولى: كان يا ما كان… الإنفلونزا الإسبانية
في كتابها «جائحة عام 1918: قصة الإنفلونزا الأشد فتكاً في التاريخ» (منشورات مايكل أومارا ـ 2018)، تأخذنا كاتارين أرندولد إلى عام 1918، حين غزا فيروس تنفسيّ العالم، فقضى على 100 مليون شخص! لقد فنيت عائلات بأكملها في منازلها، ومات الأطفال جوعاً لأن أهلهم المصابين كانوا عاجزين عن الحركة، بل إنّ بعضهم قتل أطفاله خوفاً عليهم من الجوع؛ واستحالت العواصم مدن أشباح بكل معنى الكلمة! عندما تُلِم ببلد ما أعراض وباء غير معروف، فمن الطبيعي لجوء العلماء إلى التاريخ في محاولة لمعرفة ما يجري. هذا ما يتم فعله حالياً بالعلاقة مع جائحة كورونا أو كوفيد- 19. ولأنّ التاريخ القريب يحوي أحداثاً شبيهة، إن لم تكن أخطر، فإن الحدث ذا العلاقة هو ما يسمى «الإنفلونزا الإسبانية»، فمن الطبيعي العودة إليه لمعرفة بعض الحقائق التي قد تفيدنا في هذه الأيام العصيبة. ومن فوائد استشارة أحداث عام 1918 تحديد استراتيجيات الصحة العامة للتخفيف من تأثير تفشي المرض عبر ما يُعرف بالتدخلات غير الصيدلانية، أي الأمور التي يجب التقيّد بها عندما لا تتوافر أدوية مضادة للوباء.
لقد اخترنا كتاب «جائحة عام 1918: قصة الإنفلونزا الأشد فتكاً في التاريخ» (منشورات مايكل أومارا ـ 2018) لكاتارين أرندولد، لأنه الأحدث عن المادة والأكثر تفصيلاً؛ فالكاتبة صحافية ومتخرّجة جامعية في مادة علم النفس، ما يمنح عملها أهمية إضافية. كما أنّ الكتاب يتعامل مع تأثيرات ذلك الوباء في دول عديدة، معتمداً على مصادر أولية وتقارير سرية لم تكن متاحة من قبل.
يورد الكتاب أنّه في عام 1918، غزا فيروس تنفسي جديد سكان العالم، وقضى ما بين 50 مليون و100 مليون روح بشرية، أي ما يعادل 220 مليوناً و430 مليون شخص وفق عدد سكان العالم اليوم. وباء الانفلونزا الإسبانية ــــ كما بات يعرف بين العامة ــــ اكتسب اسمه من البلاد التي انتشر فيها ومنها، على ما يقال. فإسبانيا كانت دولة محايدة خلال الحرب العالمية الأولى، ولم تفرض رقابة صارمة على صحافتها، ما مكّنها من نشر الروايات المبكرة عن المرض بحرية. نتيجة لذلك، ظن العامة خطأً أنها مصدر الوباء. ففي أواخر ربيع عام 1918، أرسلت خدمة إخبارية إسبانية تقريراً إلى مكتب رويترز في لندن يقول إن «شكلاً غريباً من المرض ذي الطابع الوبائي ظهر في مدريد، لكنه ذو طبيعة معتدلة، ولم يتم الإبلاغ عن حالات وفاة بسببه». لكن في غضون أسبوعين من التقرير، أصيب أكثر من مئة ألف شخص به، منهم ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر، وكذلك مجموعة من كبار سياسيي البلاد، إضافة إلى ما بين 30٪ و40٪ من الأشخاص الذين عملوا أو عاشوا في مناطق محصورة مثل المدارس والثكنات والمباني الحكومية. هذه الأحوال فرضت خفض الخدمات العامة لأنه لم يعد يتوافر ما يكفي من الموظفين الأصحاء للعمل، فيما عجزت الإمدادات والخدمات الطبية عن مواكبة الطلب. سرعان ما عزت الصحافة البريطانية وباء الإنفلونزا الإسبانية إلى طقس البلد الجاف، ما أوحى بأن المناخ الرطب في بريطانيا قد يوقف انتشار الإنفلونزا هناك.
مع مرور الوقت، سيتم إعطاء المرض العديد من الأسماء المختلفة، كما لو كان الوصف الصحيح قد يساعد في علاجه. في بريطانيا، كان يعرف باسم «فلاندرز غريب»، والألمان، الذين اشتبهوا في البداية بأنه سلاح بيولوجي، أطلقوا عليه اسم «بليتزكاتاره». أما سويسرا الناطقة بالفرنسية، فقد أطلقت عليه اسم La Coquette، وعرف في أجزاء من آسيا باسم «حمى بومباي».
بدأ تفشي المرض خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى عام 1918. ويعتقد المؤرخون اليوم أن الصراع ربما كان مسؤولاً جزئياً عن انتشار الفيروس. فعلى الجبهة الغربية، أصيب الجنود الذين يعيشون في ظروف ضيقة وقذرة ورطبة بالمرض وسوء التغذية، ما أدى إلى إضعاف جهاز المناعة.
خلال صيف عام 1918، بدأت القوات بالعودة إلى أوطانها، وأحضرت المستعمرات معها الفيروس الذي انتشر عبر المدن والبلدات والقرى في البلدان الأصلية للجنود. في بريطانيا، توفي نحو ربع مليون نسمة في ظروف مروعة، وسجلت الولايات المتحدة ثلاثة أرباع مليون ضحية، أي خمسة أضعاف إجمالي الوفيات العسكرية في الحرب، وخفض الوباء متوسط العمر المتوقع فيها بأكثر من 12 عاماً. أما إجمالي الوفيات الأوروبية، فبلغ أكثر من مليوني روح. كانت بداية الانتشار هناك مفاجئة، وظهرت أعراض مروعة، بما في ذلك نزيف في الرئتين والأنف، وتحوّل لون الجلد إلى الأزرق بسبب نقص الأوكسيجين والاختناق حتى الموت «من الجوع إلى الهواء»، حيث تمتلئ الرئتان بالدم والقيح. أولئك الذين لم يستعيدوا وعيهم أبداً، كانوا المحظوظين. توفي آخرون بسبب السعال الدائم وعدم المقدرة على التنفس، ما قاد إلى نقص في وصول الأوكسيجين إلى الدماغ، وبالتالي إلى أحد أشكال الخرف. وكان من بين الذين أصيبوا بالوباء رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج، والرئيس الأميركي وودرو ويلسون، والكاتبان روبرت غريفز وفيرا بريتن.
في الهند، قضى نحو 17 مليون شخص نحبهم منهم، نحو 14 مليون في الهند البريطانية. وفي أفريقيا، قضى نحو 2% من مجموع السكان، من بينهم مئة ألف في غانا وحدها. وفي تنزانيا، مات نحو 10% من السكان، وأعقبت الوباء مجاعة قتلت آلافاً آخرين. لكن بالنظر إلى الرقابة ونقص السجلات الدقيقة وشهادات الوفاة النظامية، قد يكون إجمالي الوفيات العالمية أعلى، إذ تمّ إخفاء ظروف وفاة العديد من الجنود «لحماية الروح المعنوية». ولكن بغض النظر عن العدد النهائي للضحايا، ليس هناك من شك في أن تفشي إنفلونزا عام 1918 كان من أشدّ الكوارث الطبيعية فتكاً في تاريخ البشرية.
بدأت الكاتبة مؤلفها هذا في فناء كنيسة في إنكلترا قبل 10 سنوات، حيث يقوم أحد أشهر أطباء بريطانيا بإخراج جثة السير مارك سايكس، المشارك في مشروع تقسيم المشرق العربي، على أمل أن تحوي ما يكفي من الأنسجة الرخوة لتمكين العلماء من استخراج الفيروس. لكن ذلك لم يفلح بسبب تصدّع التابوت. فإذا بعالم سويدي يتوجه إلى أقصى المحيط المتجمد الشمالي، ليجد أن الدهون الزائدة على ضحية الإنفلونزا احتفظت بما يكفي من فيروس عام 1918 في واحدة من العينات الأربع التي أخرجها للمساعدة في تحرير نسب الحمض النووي الريبي للفيروس.
إضافة إلى طبيعتها، كان أكثر الأعراض المروعة للانفلونزا الإسبانية ـــ دوماً بحسب الكاتبة ــــ انتقالها على نحو مذهل. في حالة الإنفلونزا التقليدية، يحضن المصاب الفيروس لمدة أربع وعشرين ساعة على الأقل لغاية أربعة أو خمسة أيام قبل أن يصبح المرض واضحاً. أما العلامات الأولى، فهي الصداع والقشعريرة والسعال الجاف والحمى والضعف وفقدان الشهية، ما يؤدي إلى التعب المعمم. لكن التعافي الكامل واستعادة القوة الكاملة بعد الانفلونزا يستغرقان أسابيع عديدة أو أكثر. ما يمكن أن يخلط بين الأمور هو أنه رغم أن الإنفلونزا كيان سريري مميز ومعترف به، فإن العديد من المرضى وبعض الأطباء يميلون إلى تجميع معظم الأمراض التنفسية تحت مصطلح شامل هو «الإنفلونزا». في منظورنا نحن العامة، فإن حالة الإنفلونزا تعني أكثر بقليل من أيام قليلة من العمل، وأقراص الباراسيتامول ومشروبات الليمون الساخنة على الأريكة.
على النقيض من ذلك، كانت الإنفلونزا الإسبانية أكثر عدوانية وسرعة في التموضع. خلال الموجة الثانية المدمرة من الوباء، انهار الضحايا في الطرقات وهم يعانون نزيفاً في الرئتين والأنف. تحولت جلودهم إلى اللون الأزرق الداكن مع «زرقة الهيليوتروب» المميزة التي يسببها فشل الأوكسيجين حيث تمتلئ رئاتهم بالقيح، وغالباً ما تُرك أولئك الذين تعافوا مع إرث مدى الحياة من الأمراض العصبية ومشاكل في القلب والخمول والغموض.
لقد فنيت عائلات بأكملها في منازلها، وكان الأطفال يموتون جوعاً لأن أولياءهم كانوا في أسرّتهم عاجزين عن الحركة؛ بل إن بعض المشوشين قتلوا أطفالهم مقتنعين بأن ذريتهم سيتضورون جوعاً من دونهم. في جنوب أفريقيا، ألقيت جثث عمّال المناجم القتلى والمحتضرين من القطارات وتركت على طول المسار. مدن بأكملها أضحت أشباحاً حيث توقفت الحياة اليومية. وفي واشنطن وكيب تاون، نفدت التوابيت لدى المتعهدون، بينما في فيلادلفيا، أدى نقص مساحة الدفن إلى لجوء مجلس المدينة إلى حفر القبور الجماعية بمجارف آلية. تكهن بعضهم بأن هذا الفيروس لم يكن إنفلونزا على الإطلاق، بل طاعون، وخشوا فناء الجنس البشري.
يذكّرنا الكتاب بأن الحرب وقت عظيم لنظريات المؤامرة. لذلك ليس من المستغرب أن يعتقد كثر أن الإنفلونزا من صنع الإنسان، مع الادعاءات التي تم توزيعها بأن الغواصات الألمانية ألقت بمسبب الوباء على سواحل البحر أو أنها خلطته في عبوات «أسبرين باير». أما في المجتمعات المغالية في تديّنها، فكان يُنظر إلى الإنفلونزا الإسبانية على أنها عقاب إلهي للطبيعة البشرية الخاطئة بشكل عام ولبدء الحرب على نحو خاص.
تقول الكاتبة في مؤلفها الذي يحوي 23 فصلاً ومجموعة كبيرة من الرسوم والمصورات ذات الصلة: «بينما قتلت الانفلونزا الإسبانية العديد من الأشخاص المشهورين، بمن فيهم الرسام النمساوي إيغون شِيْلِه، بقي معظم ضحاياها مجهولين ولا من يحزن عليهم، عدا عائلاتهم المباشرة، بمن فيهم أجدادها. في أجزاء عديدة من الصين وأفريقيا والهند وروسيا التي كانت في خضم ثورة أكتوبر، عنى عدم وجود سجلات دقيقة أنّ ملايين الضحايا لم يتم تسجيلهم، وضاعت قصصهم في رعب الوباء». لذلك اختارت الكاتبة التركيز على القصص الشخصية التي تم حفظها وتسليمها من خلال الذكريات العائلية والوثائق والمذكرات وحياة الأفراد الأكثر شهرة. ونظراً إلى أن غالبية هذه التجارب تم استخلاصها من التجربة البريطانية والأميركية مع الإنفلونزا الإسبانية، فإن تركيز هذا المؤلف على الغرب أمر لا مفر منه، مع أنه يتطرق إلى تأثير الإنفلونزا الإسبانية على الهند البريطانية وجنوب أفريقيا ونيوزيلندا.
شكلت الإنفلونزا الإسبانية أكبر تحدّ لمهنة الطب في زمن الحرب، مثل كيفية ترويض الوباء من خلال العلاج والسيطرة والاحتواء، نظراً إلى التأثير الهائل للمرض في كلا الجانبين، أجرى الجيش الكثير من الأبحاث. ففي حين رفضت السلطات المدنية الإنفلونزا باعتبارها إلهاءً عندما كان يجب التفكير في الحرب، بدأ الأطباء العسكريون في بريطانيا والولايات المتحدة البحث عن حل بناءً على أبحاثهم في أمراض وبائية أخرى مثل التيفود والكوليرا، لكن تم تقييد أيديهم. لم يعرفوا بالضبط ما الذي كانوا يتعاملون معه. بفضل ميزة الإدراك المتأخر، نعلم أن الإنفلونزا سببها فيروس؛ لكن في عام 1918 ظن العلماء أنه مرض بكتيري. في نهاية المطاف، ستؤدي البحوث العلمية في تلك الأوقات المرعبة إلى اختراقات كبيرة، مثل الاعتراف بأن الانفلونزا يمكن أن تؤثر في البشر والطيور والخنازير، وتصنيف الأنواع الفرعية الثلاثة لفيروس الإنفلونزا من الأنواع A, B, C. لكن لا بد من أنّ ذلك بدا سباقاً يائساً مع الزمن في خريف عام 1918 حين كان علماء الطب يجهدون لتطوير لقاح مع زملائهم الذين كانوا يموتون من حولهم.
في الفصول الأخيرة من المؤلف، استكشفت الكاتبة البحث في فيروس (H1N1) الذي قام به الفيرولوغي الأميركي جفري تاوبنبرغر لاستخراج عينات من أجسام عمّال المناجم النرويجيين المدفونين في التربة الصقيعية القطبية الشمالية. وحاولت ــ على حدّ تعبيرها ـــ أيضاً إلقاء نظرة خاطفة على المستقبل والنظر في الاحتمال المثير للقلق من أن «السيدة الإسبانية»، كما كان الوباء يعرف، قد تعود إلينا، وإن كان ذلك تحت ستار مختلف. وها نحن نشهد هذه العودة!
صحيفة الاخبار اللبنانية