كريستيان غازي الشاعر والمخرج السينمائي واليساري العنيد زوابع كريستيان (اسكندر حبش)
اسكندر حبش
صحيح أن شهرته الأكبر جاءت من السينما، إلا أنه لا يمكننا أن نتناسى مجموعاته الشعرية المتعددة، التي لا بدّ أن تشكل حضورا فعليا في الشعر اللبناني المكتوب بالفرنسية. حضور، لم يكن كريستيان غازي يهتم به في الواقع، إذ يبدو كلّ شيء عنده وكأنه لا معنى له أو لنقل، في أضعف الإيمان، كأنه مؤجل بانتظار انتصار «القضية الكبرى».
لم تكن هذه القضية مزحة، بل فعلا هي واقع حال، وهي درب لم يحد عنه، إذ كان من قلة قليلة، أخلصت ليس فقط لنضالات مرحلة الشباب، بل أيضا لكلّ تلك الآراء التي وسمته في مطلع عمره، ولم يستطع أن يتخلى عنها، لتبقى ترافقه إلى آخر أيام عمره، ليدافع عنها، بطريقة تبدو كأنها «نزق» ما، بينما في الواقع، كانت إخلاصا حقيقيا، لعمر لم يرغب مطلقا في التخلي عنه.
من هنا، لم تكن مسيرة كريستيان غازي، بمثابة «حنين» إلى ماض، بل بقيت مسيرة عليها أن تتحقق، بالرغم من «صعوبتها»، إذ تغير العالم بأسره، وبقي هو يرفض هذا المنطق، معتبراً أنه على حق، مثلما اعتبر أن الشعر الذي يكتبه، هو الأخلص لتجربته.
في الشعر ومنه، كان لقائي الأول به. كان ذلك في بدايات الثمانينيات. كنّا يومها شبيب الأمين وأنا نصدر «نشرة ميكروب». وكنّا نتردد إلى مجلة «الكفاح العربي» التي كانت صفحاتها بعهدة أحمد فرحات الذي أفرد لنا مساحة للحديث عن هذه التجربة. يومها، استطاع أحمد أن يقنعه بإجراء حديث طويل معه. وربما هو حديث لا يزال يشكل مرجعا مع كريستيان لأنه أفاض فيه وأسهب بالحديث عن كل ما يزعجه. قلة هي الأشياء التي كانت تعجبه، وربما هي منتفية أصلا، إذ من النادر أن تجد عنده مديحا لأمر ما.
تمضي الأيام، لنلتقي مجددا، وبخاصة في نهايات تسعينيات القرن الماضي، إذ كان يتردد إليّ، بشكل شبه يومي، إلى القسم الثقافي في «السفير»، حيث تشعبت أحاديثنا الكثيرة والطويلة. لأقنعه في لحظة، وبعد طول محاولات بإجراء حديث طويل معه، امتد على مدى ساعتين مسجلتين على كاسيت. إلا أنه بدّل رأيه، بعد أيام، طالبا عدم النشر. احترمت تلك الرغبة، وأضعت بعدها الشريطين المسجلين، وحين أخبرته بذلك لم يقل سوى «عال، أريح». وإن كان وافق في ما بعد على إجراء حوار نُشر في «السفير» (بتاريخ 12 ـ 6 ـ 2007) حول كتابه الشعري «دفاتر السلام» (يقع في 434 صفحة) الذي صدر بعد ما يقارب الأربعين سنة من توقفه عن النشر، أو بالأحرى «تأخر» عن النشر مثلما أحب أن يسمي هذا الابتعاد، لأنه مثلما صرح لم يتوقف عن الكتابة. قال يومها إن عدت إلى تواريخ القصائد الموجودة في الكتاب، لوجدت أنها تحيل إلى ذاك الأمر، أي عدم توقفه عن الكتابة.
اعتبر غازي أن نصوص «دفاتر السلام» تشكل قصيدة واحدة، وهي جاءت بعد أن شعر بأن «العمل قد تمّ وانتهى ونظفت كل شيء». عن أي تنظيف كان يتحدث؟ لم يرغب مرة بأن يقول لي السبب. دائما ثمة أماكن ملتبسة في كلامه. أو ربما يترك الجو ملتبسا ليوحي للآخر أنه لم يفهمه. ربما هذه النقطة، هي إحدى النقاط المثيرة للجدل في علاقاته مع الآخرين، لأنه اعتبر دائما، أن الجميع لا يفهمونه، ولا يريدون القيام بأي مجهود لفهمه.
سيرة كتاب
«سيرة» هذا الكتاب، تستحق أن تستعاد. كان ينوي نشره في لبنان، لكنه فشل نظرا إلى كلفة الطباعة. أرسله إلى بعض أصدقائه في فرنسا. بداية وافقت دار فلاماريون على نشره بعد أن قرأته، بيد أن جمعية «الليكرا» المناهضة للعنصرية، اعترضت عليه معتبرة أنه كتاب ضد السامية. روى لي القصة على الشكل التالي: «أنا سامي فكيف أكون ضد السامية؟ في أي حال، لم يصدر الكتاب وعاد إليّ. هناك أيضا دار اكت ـ سود التي قالت لي إنها مهتمة أيضا بإصدار الكتاب، وبعد أن حصلت على المخطوطة قالت لي إذا لم تعد المخطوطة إليك بعد فترة من الزمن (وقد حددتها بأشهر) اعتبر أننا لن ننشره ولن نقوم عندها بإعادة إرساله. غامرت وأرسلته بعد أن قمت بتصوير نسخة على الفوتوكوبي. لم يعيدوا إلي المخطوط. فهمت بأن فرنسا لا ترغب بإصدار الكتاب. ماشي الحال. صادف يوم أني كنت جالسا في المقهى، وكان المخطوط بين يدي، وكنت أجري عليه بعض التصحيحات، فأتى باتجاهي شاب ليسألني هل تعمل حضرتك في الجامعة، قلت له لا، لا من قريب ولا من بعيد. ولكني دعوته إلى الجلوس معي. كان أجنبياً، من والد بلجيكي وأم أميركية. بدأنا بالحديث والنقاش وكان يشرح لي ما يقوم به. كان يتابع دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت. ليقول لي إني على استعداد لترجمة الكتاب. بعد أكثر من أسبوعين تحمس للمشروع، وقال سآخذ على عاتقي ترجمة الكتاب لكني سأسافر إلى المغرب. وخلال سفري، سأبدأ بالترجمة. قلت لنرَ، لكن لمَ ترغب في ترجمته؟ أجاب ليصدر بالانكليزية. أخذ الكتاب وترجمه إلى الإنكليزية. استمر في ذلك مدّة سنة ونصف. غاب سنة ونصف السنة، لم يتصل بي خلالها. انقطع قلبي. قلت في نفسي لقد ضاع المخطوط. سلمت ذقني لشاب لا أعرفه. وذات يوم، حضر فجأة ليقول لي، هذه هي الترجمة الإنكليزية، وهذا هو المخطوط. أضاف: يجب علينا طباعته، يمكن أن أساعد في طباعته في أميركا، وإن كنت لا أعرف أحدا هناك، ليس لي أي اتصالات هناك… لكني سأجرب. من الممكن أن تطبعه الجامعات هناك. عاد ليأخذ المخطوط ذاته وسافر إلى الولايات المتحدة. هناك، وبعد 8 أشهر، اتصل بي، ليقول لي: لدي خبر مسرّ جدا، سيطبع بالإنكليزية وبالفرنسية. أجبته عال، تحفة. سألني إن كنت أوافق فأجبته بنعم. فقال لي سأرسل إليك مشروع غلاف الكتاب. كان قد اتصل بسينمائيين، وحصل على صورة من فيلمي «مئة وجه ليوم واحد»، لقد استطاع التصرف. بعد فترة، عاد ليتصل بي، ليقول سيطبعون في المرحلة الأولى النص بالفرنسية. اعتبرت أن المشروع سيفشل. قلت له، حسن، ماشي الحال. سألني إن كنت أوافق، فوافقت. وعادت أخباره لتنقطع. ليعود شخصيا إلى بيروت. قال لي، طُبع الكتاب، لكني نسيت النسخة الفرنسية التي أحضرتها لك في إسبانيا. أجبته كتر خيرك. ماذا بالإمكان أن أفعل سوى أن أشتمه قليلا. سألته عن ردود الفعل هناك، فقال، لقد أحبوه… معقول.. سألته عن اسم دار النشر فأخبرني عن اسمها»..
لسنوات قليلة مضت، صرح لي أنه يكتب، وأن مشروعا جديدا لديه كتب منه عشرات الصفحات، وهو أمر يستحق أن نبحث عنه، وأن يبقى موجودا، على الأقل كاحترام لذكرى الرجل.
لم تتوقف لقاءاتي به طيلة السنين الماضية. غالبا ما كنّا نلتقي في المقاهي المتناثرة في شارع الحمراء. وأحيانا كان يغيب من دون أن نعرف السبب. أو ربما لم يكن يرغب في أن أدخل أكثر إلى تفاصيل حياته. وحين بدلت منذ أكثر من عام عنوان سكني، عدت لأجد «الشريطين» بين أغراض أخرى في أحد الصناديق. أخبرته بذلك، فأجاب، افعل به ما تريد بعد رحيلي. حين أغيب، لن أمانع بالطبع في أن ينشر.
القضية ليست هنا الآن. رحل كريستيان غازي ومعه ترحل حقبة من تواريخنا كلنا. إذ لم يتوقف الرجل عن نسج علاقات مع الأجيال الشابة. من النادر أن تدخل مقهى ولا تجد من رواده من كان يجلس ويتحدث مع كريستيان غازي.
في هذه «العاصفة» يأتينا خبر موته. بيد أن زوابع كريستيان ما زالت على حالها. نحتاج إلى زمن طويل كي ننساها.
صحيفة السفير اللبنانية