![](https://greatmiddleeastgate.com/wp-content/uploads/2025/02/5058.jpg)
كتاب العراقي كه يلان محمد حيث يحفل بعلامات وإيماءات موحية تحفزك على النظر والتأويل والتأمل في وظيفة السرد على الصعيد الحياتي.
كتاب “كهف القارئ” للعراقي كه يلان محمد من منشورات صفحة -7 -يجذبك منذ الغلاف، حيث يحفل بالعلامات والإيماءات الموحية التي تحفزك على النظر والتأويل والتأمل في وظيفة السرد على الصعيد الحياتي. لا تستطيع أن تكون محايدًا وأنت تقرأ الكتاب، بل لا بد أن تتخذ موقفًا من الوجود والثقافة. لا تخرج من الكهف إلا وقد تحققت لك الإفادة. إنه يربكنا ويستفزنا ويضعنا في حالة مراجعة للمعايير وتفحص عميق للثقافة والوجود. الكتاب في حالة حركة وارتحال بين الروايات والشخصيات الأدبية والفلسفية. لا يفوته الزمن والمكان، ولا التجارب والعادات والممارسات والانفعالات والعلاقات بين البشر والموت والحياة والأيقونات والرمز.و الصورة، اللغة، الأسطورة، المقدسات بكل مافي ذلك من الزخم التأويلي… فالكتاب عدد صفحاته محدود، ولكنه يتسع لرصد ظاهرة الافتتان بالسرد والحكاية، والتفحص وتمحيص المقول الروائي. فالرواية تستبطن هذا الكل الأنطولوجي المتكثر والمركب في المتن، في متنها كشفًا وفهمًا ومسائلة للوجود والعلامات. هي متقصدة مقاصده ومراميه توقًا للفسخ والتجاوز. هذا الكتاب لا شك سيترك بصمته في سياق المتابعات الرامية لإعادة ترتيب آليات القراءة، كما أنَّه زاخر بالفعالية والرغبة في الانعتاق والتحرر من جمود القواعد والمعايير.
فضاء العنوان
منذ الوهلة الأولى يفتنك سحر الرمز (الكهف)، يوجه نظرك نحو رؤية الفضاء. وأنت تتحرك في فضاء العنوان تجد نفسك بين كيانين: مسرح الأحداث المخبأة والقارئ. إنه لا يجعل القارئ يتحرك في المسطحات، بل يربطه بعمق الدلالات. فكهف القارئ انعكاس ضمني لبنية مركبة لا واحدية للكيانات والأشياء والمشاعر والعلاقات. تسير بك لقتامة الوضع والمآلات… إن هذا الكل المركب لا يظهر لنا في العنوان كما هو، بل يظهر عبر إضاءة الاستعارة. إذًا، لا يمكن تجاهل العنوان، خاصة وأنه يستدعي أمثولة الكهف ويضعنا أمام وضعيات الوجود. يكون الرمز أداة ناضجة وقوية وأساسية لفهمها وتجديد نظارة الرواية. فاعلية الراوي: الراوي هو الذي يسرد لنا الحكاية، ولكنه لا يمكن أن يقول كما قال ديكارت: “أخليت نفسي لهزات الانفعالات، وظفرت براحة مطمئنة في عزلة مضمونة.” فالراوي زمن السرد ليس كائنًا منفصلًا عما يتمثل ويحكيه، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون مستقلاً عن وجوده الراهن. هنا ينبغي أن نقف عند دلالة الروائي المبدع. امبرتو إيكو يعتبر نفسه روائيًا واعدًا ثم ينصرف إلى الدراسات النقدية. ماذا نستنتج من هذا الكلام؟ إن الرواية قد تكون ذاتية، لكن الكاتب لا يتكلم فقط عن أشياء عاشها الراوي، بل يشير إلى وجود مركب متداول فيه الذاتي والموضوعي. لأن الرواية تختزن الواقعة التاريخية والتجارب والمشاعر والرغبات والآمال والتطلعات. أو لم يقل لنا نيتشه: “أنا أتكلم عن أشياء عشتها، نظريتي تنبع من ممارسة”.
ولو طبقنا المادية الماركسية على الرواية، لقينا أن الوعي والأفكار والتمثلات انعكاس مباشر وعميق للنشاط المادي وبعلاقات البشر المادية. وفق هذا التعريف الأولي للإبداع، يكتسب المقول الروائي رونقه وتفرده عبر هذا الترميز الذي يأخذنا إلى الجزئيات الصغيرة في الواقع. إذ لم تعد روائح العطور مثلًا والأمكنة مجرد أشياء، بل إن الأمكنة والأزمنة تخضع لتبدل الوظائف. كما في “حبيبي الأول معه تعرفت على عطر جسمي”. يعني أن الرواية اهتمام بداخل الشخصيات وإنصات للاختلاجات العميقة التي تمتد وتقيم في الآخر، وتبدل علاقاتنا. فكرة المكان ليست ظواهر مادية في حالة سكون، بل تحيلنا إلى مقولة كامو: “إن التفكير هو أن نتعلم من جديد كيف نرى وكيف نفكر.” على الرواية أن توجه الرؤية. توظيف الصورة: يضعنا الكاتب أمام مشهدية الصورة، فالصورة اليوم فاقت في قدرتها على التعبير والتأثير قوة الكلمات، لأن الصورة تعبر أكثر بإيحاءاتها الرمزية والتأهيلية، فتكون أقرب إلى الحقيقة أحيانًا. ولكن هل المقول الروائي مصادقة للواقع حتى وإن لجأ لتخييل الصور؟ أم أن الرواية علامات مؤقتة تتشبه بالحقيقي والواقعي وتوجهنا نحو قصد؟ ربما هذا ما يريده الكاتب: أن نتساءل ونرتاب. الرواية وقوة الإيحاء: نواصل السير مع نوايا الكاتب ونحاول رصد مساره. وهو يعود بنا تارة إلى بدايات ظهور فن الرواية، وتارة إلى سبر الرواية للأعماق الشحيقة، وتستمدُ من القاع الاجتماعي نواة التكيون، وبالتأكيد لايغيبُ الوضع الخارجي في التناول الروائي وذلك يتجسد عبر الارتحال في حقل الاستعارة، إذا نجد أنفسنا بين وسطين: وسط فيزيقي ونسيج حميم تنسجه الرواية من خلال لغة الخيال والترميز. إن الكهف مكان/ وجود/ حضور/ سجن/ غياب يجمع كيانات. كذلك، الرواية مكان التناقضات، للسلم والحرب والرغبة والإجرام والزهد والسادية. مكان يختزن هذه المفارقات والاختلافات… كلاهما للصراع بين الواحد والكثرة. غير أنه بإمكان الرواية والكهف لعب دور الإنارة وفهم الوجود. لا يمكن أن نفهم وجودنا بلا أداة تستفزه وتجرحه وتداويه. إن الراوي حكاء يتقن التوغل في الدواخل والمشاعر والأحداث والزمن، ويمتعنا بسحر القص. لأن القصة المتخيلة لها من القدرة على الإمتاع وتحفيز العقل على الوعي والتأمل. إن المقول الروائي مقول قصدي يتوجه للأشياء ليضيئها. انتبهوا، استيقظوا! إننا الآن نرى أنفسنا مرئيين.
إنها رحلة الاستضافة والإضافة، إنها مقطن الوعي الذي يسمو بنا ويصعد ويدربنا على الرؤية من جديد. فلنذهب إلى مداخل الكهف وننيره إلى النور. إن النور عذب وانعتاق جميل. إن كهف القارئ مكان استراتيجي للتجديد وتبديل الأماكن في عالم الفلسفة الوهاج، عالم القلق، عالم الحيرة، عالم الفكر، عالم السؤال، عالم حركي بلا قرار. أليس هذا ما يحتاجه الأدب وهل هي نوايا مؤلف “مأدبة السرد”؟
أسطورة تتمرد على أسطورة:
من المفارقات العجيبة أن وجودنا الإنساني لم يجد في العِلم تعويضا للأساطير بصيغتها العفوية، لأنها تضمن المعطى البدئي والواقعي الملموس والمتخيل، وتُوحد الجماعة. فالأسطورة هي هوية الشعوب، إلا أن الأسطورة في تركيبتها الراهنة وهي طافية على زمن العولمة تحولت إلى مشروع إمبريالي ثقافي واقتصادي يعزز الهيمنة، يطمس الهويات، يفتتها ويعيد تشكيلها من جديد، متوسلاً الخرافة والرمز لسرد الأوهام والأكاذيب. كهف القارئ يضيء مجددًا هذا الملمح وتوسل الإنسان بالسرد لصياغة الأساطير. فعلى الرواية أن تتسلح بهويتها وتجدد ثقافتنا.
نزاهة وجدل:
الروائي حكاء بارع، يجيد القص، يوقظ الكائنات النائمة والمخدرة التي تناست وجودها بالوعي. إنه الكاتب النزيه الذي خير ركوب الصعاب بدل العيش في الحفر، ذلك الذي يكتب وهو مثقل بالوجود. لا إغواء أو رذيلة، بل حرصًا على تكثيف المعنى في زمن تهاوى فيه الإنسان وقيم الخير والتعاون والكرامة والحق المشترك. للأسف، نكاد نفقد هذا الروائي الأبقوري النموذج الذي يحفز قراءه على التعقل والفضائل ويقودهم إلى متعة العيش. يوجد في كل عصر سفسطائيون يمتهنون السرد، فيلجؤون إلى كثرة الكلمات والاستعارات، ويرزقنا بمرصوص العبارات ولا يقولون غير كذب، وفي أحسن الحالات يقولون خواء. فما قيمة هذا الروائي الصنمي الصامت، والإيديولوجي التاجر المتخفي بالبلاغات والاجتهاد، الذي لا يخدم الوطن، ولا يبث القيم، ولا يسابق العصر ما يثير جملة من الأسئلة بهذا الشأن هو ما يقدمُه كه يلان محمد عن دور وإمكانيات الرواية لتشكيل هوية الفرد وبناء وعي جديد مطبوع بالحس النقدي يرفض التجمد في منطقة الوثوقيات؟
ميدل إيست أونلاين