كوالــيـس الشـــرق الأدنــى (7) تحـالــف السـادات و«الإخـوان» اعتقال «عصـابة موسكو» وطرد الخبراء السوفـيات (اريك رولو)

اريك رولو

ترجمة د. داليا سعودي

 

في الأعوام الثلاثة الأولى من حكم أنور السادات، بدأ بتطبيق «الانفتاح»، وهو المعادل للِّيبرالية الجديدة، الذي أفضى إلى إقرار مجتمع استهلاكي نتجت عنه الفاقات المؤذية المعهودة عادةً في بلد من البلدان النامية. فقد أعاد حرية الاستيراد والتصدير، وألغى العوائق أمام تداول العملات الأجنبية، وسمح بشراء الكماليات من السلع الفاخرة والسيارات، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام المستثمرين الأجانب الذين أعفاهم من الضرائب، وسمح لهم بإعادة كامل أرباحهم إلى أوطانهم، بل ومنحهم ضماناً قاطعاً بعدم إخضاعهم لأي حجز أو تأميم أو مصادرة، وتم منح الحصانة نفسها إلى رأس المال الوطني أيضاً.
وقد زاد تحرير الاقتصاد من المضاربة، والاتجار بجميع صوره، والاستقطاب الاجتماعي: فوفقاً للإحصاءات الرسمية، في نهاية العام 1971، امتلك 2,5 في المئة من المصريين نحو 24 في المئة من الدخل القومي، واشترى 10 في المئة من المصريين 54 في المئة من المنتجات الاستهلاكية الشائعة.
كان السادات يعي أن الفراغ الذي خلفته الأيديولوجية الاشتراكية الناصرية وراءها في سبيله إلى أن يحل محله الإسلام، الذي شهد إقبالاً منذ كارثة 1967. هكذا انتحل الرئيس تعاليم النبي ليستخدمها في أسلمة المجتمع والدولة تدريجياً. وقد كان هو في وضع يمكِّنه من بلوغ غرضه. فقد تعلم القراءة والكتابة في الكُتَّاب، وحَفِظ القرآن الكريم، وهو بعدُ يذهب مراراً وتكراراً إلى الحج والعمرة، ويرتاد المساجد بمواظبةٍ وانضباط، حيث يحرص على الظهور، أمام عدسات الكاميرات، وهو يركع ويسجد بتواضع جم وسط العامة.
هذا وتُظهر صوره في الصحف «زبيبة الصلاة» الماثلة فوق جبهته، والشاهدة على تواتر احتكاك رأسه بالأرض أثناء صلواته يومياً. هكذا تسَمَّى «أبو الأمة» أيضاً بـ«الرئيس المؤمن». وغزت الاحتفالاتُ الدينية ودروسُ الوعظ برامجَ الإذاعة والتلفزيون. وأُدرجت التربية الدينية في المناهج المدرسية باعتبارها «مادة أساسية». واكتمل التحول عام 1980 بإدخال مادة على الدستور تنص على أن الإسلام هو دين الدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. وتُعدُّ إقامة دولة شبه لاهوتية أمراً غير مسبوق في تاريخ مصر، قديماً أو حديثاً. هكذا لم تَعد ممارسة العلمانية كما عرفتها الحقبة الناصرية سوى ذكرى (سيئة).
ولتدعيم قواعده، كان السادات بحاجة إلى تحالفات سياسية. ولما كان غير قادر على إبرامها مع اليسار، فقد غازل بطبيعة الحال «الإخوان المسلمين» فور وصوله إلى الحكم. فأفرج عن المئات منهم، ممن كان ناصر قد اعتقلهم، وفتح حواراً مع قادتهم. وقد ظن أنه آخذ بمجامع قلوبهم إذا ما أفضى بما كان معلوماً قبل ذلك بالفعل، أي بإعجابه وبعميق احترامه لمؤسس الجماعة، حسن البنّا، الذي التقاه العام 1940، كما بعرفانه لفضل الشيخ في منح أسرته راتباً بانتظام طوال سنوات اعتقاله.

تحالف مع من أعدمهم
رغم ذلك، ما كان «الإخوان» لينسوا ما حرص السادات على تناسي سرده في مذكراته المتتابعة، ألا وهو أنه قد حكم بالإعدام على العديد من الكوادر الكبرى في الجماعة، المتهمين بتنظيم حادث الاعتداء على ناصر العام 1954. فقد كان ربيب الريِّس القديم واحداً من القضاة الثلاثة في المحكمة «الثورية» التي تشكلت لضرب عنق الجماعة. لكن، رغم ارتيابهم، تظاهر قادة الإسلاميين بقبول اليد الممدودة إليهم من قِبل الرئيس، نظراً لكونهم الرابحين في الصفقة المعروضة عليهم: فقد طلب منهم السادات المساعدة للقضاء على خصومه الذين كانوا في الوقت ذاته خصومهم، ألا وهم الناصريون والشيوعيون، الذين كانوا بعدُ يسيطرون على قطاعات معيّنة في المجتمع، في أوساط العمال والطلبة.
إضافةً إلى ذلك، كان مقرراً أن يحظى «الإخوان» بحريات (محظورة على جميع التيارات الأخرى) مما سيتيح لهم توسيع نطاق تأثيرهم. لكن حانت نهاية زواج المصلحة الذي عُقِد على ذلك النحو عندما تحققت رغبة الرئيس في عقد السلام مع إسرائيل بعد ذلك بسنوات. مع ذلك، كان معلوماً منذ وصوله إلى الحكم أن تسوية النزاع مع الدولة اليهودية هي أولى أولوياته. وكنتُ قد تفاجأتُ يوم جنازة الريِّس عبد الناصر، ولم أكن الوحيد الذي تفاجأ، حين لم ألحظ بين الحاضرين هيئة المرشح المحتمل للرئاسة. كان يُمكن تفسير ذلك الغياب بالحشد الهائل الهادر المائج الذي ضم ملايين المصريين الذين تزاحموا في موكب الجنازة الممتد بطول عدة كيلومترات. لكن الجميع كان يجهل أن قبيل انطلاق الموكب، تعرض السادات لتوعك استلزم إعطاءه حقنة، أخذته على إثرها إغفاءة. فما إن استيقظ حتى دعا إليه في مرقده الديبلوماسييْن الكبيريْن اللذيْن مثَّلا الولايات المتحدة في الجنازة، وفاجأهما بقوله إنه يعوِّل على واشنطن للعمل على إنجاح عملية السلام مع إسرائيل في أقرب وقت ممكن. أما في سيرته الذاتية، فهو يدّعي أنه قد لحق بالموكب الجنائزي قبيل وصول نعش عبد الناصر إلى مثواه الأخير.

99 في المئة من أوراق اللعبة
كان التصرف الغريب الذي قام به السادات مع الدبلوماسيين الأميركيين يعود إلى اعتقاده الراسخ في أن «الولايات المتحدة تتحكم في 99 في المئة من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط»، على حد ما أعلن في أكثر من مناسبة. فإن كان عبد الناصر لا يجهل مطلقاً ما للولايات المتحدة من نفوذ في المنطقة، لا سيما في إسرائيل، فقد كان في تقديره أن مصر عليها أن تعتمد أولاً على الاتحاد السوفياتي، القوة التي لا غنى عنها لمعادلة وزن أميركا وإسرائيل معاً. أما ديبلوماسية خلَفه، فستكون على النقيض تماماً، إذ لن يكف عن محاولة كسب ود القادة الماثلين عبر الأطلسي، حتى فيما هو غير ميال للانفصال عن الكرملين.
هكذا، لم تكن لافتة «عملاء موسكو» التي أُلصقت بـ«متآمري 13 مايو» لافتةً بريئة. ولا كانت عملياتُ التطهير داخل إدارات الدولة، وتعيين مسؤولين معادين للاشتراكية الناصرية، ثمرةً للعبةِ مصادفات. إذ كانت تلك إيماءةٌ إلى واشنطن، مفادُها أن العهد «الموالي للسوفيات» قد ولّى. لكن، نظراً لحرصه على الاحتفاظ بالمساعدات العديدة التي تقدمها موسكو عسكرياً واقتصادياً ومالياً، ولاهتمامه بعدم المخاطرة بالمشروعات الكبرى التي ما زالت قيد التنفيذ، وجد نفسه مضطراً بعد ذلك بقليل إلى توقيع «معاهدة صداقة وتعاون» قدم إليه نصها رئيسُ الاتحاد السوفياتي، نيكولاي بودغورني (Nicolaï Podgornyï)، الذي جاء إلى القاهرة خصيصاً لهذا الغرض. وقد كان ذلك حدثاً غيرَ مسبوقٍ، نظراً لكون أحد مبادئ الجمهورية المصرية الناشئة كان يحظر الارتباط بمعاهدة مع أيٍّ من القوى الكبرى.
إمعاناً في طمأنة الكرملين، عيَّن السادات على رأس الحزب الأوحد إثنين من قدامى القادة الشيوعيين، وإن كانا ينتميان إلى فصيل ماركسي كان أعضاؤه يعتبرون الرئيس بمثابة الممثل الأصلي «للبرجوازية الوطنية»، على عكس ما كان يعتقده التيار السائد بين الشيوعيين. إذ لم يكن الخداع قد انطلى على الجميع. تشهد على ذلك نكتة سمعتها مراراً في مجالس القاهرة، تقول: حين وصلت السيارة الرئاسية إلى تقاطع طرق، سأل السادات سائقه عن الاتجاه الذي كان عبد الناصر يسلكه عادةً. فكانت الإجابة: «دائماً إلى اليسار»، عندئذٍ طلب الرئيس الجديد من سائقه أن يضيء إشارات الاتجاه إلى اليسار والانعطاف إلى اليمين.

السادات يتنازل.. ومائير تطالب أكثر
واصل السادات سعيه إلى السلام بلا كلل أو ملل، مع علمه أن تلك هي الأمنية الكبرى لمواطنيه، الذين أرهقهم ركود حالهم الموصوفة بأنها حالة «اللاحرب واللاسلم». كان كل شيء يجري وكأنه يحاول إثبات قدرته على التصرف بصورة أفضل وأسرع من سلفه. فراح يُكثر منذ ذلك الوقت من التلميحات والإشارات لواشنطن، ومن التنازلات للقدس، إلى حد حرق أوراقه، الواحدة تلو الأخرى، بغير أن يطلب أو يحصل على أدنى مقابل. ولم تكد تمر أيام ثلاثة على تنصيبه، حتى أرسل خطاباً إلى ريتشارد نيكسون يدعوه فيه إلى التدخل من أجل تسوية قائمة على إعادة سيناء إلى مصر. وفي المقابل، تعهد بتوقيع معاهدة سلام تراعي الأصول الواجبة مع الدولة اليهودية. وقد تبنى الرئيس الأميركي رأي السيدة غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، الذي يقول بوجوب انتظار تنازلات أخرى قبل البدء في المساومة. بعد ثلاثة أشهر، في كانون الثاني يناير 1971، بعد أن التقى وزير الخارجية المصري، محمود رياض، بالرئيس بومبيدو Pompidou، منحني مقابلة صحافية كشف لي فيها عن عرض جديد يأخذ في الاعتبار الحجج الأمنية التي تتذرع بها القدس: إذ ستعمل القوى الأربع الكبرى (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والاتحاد السوفياتي) على ضمان السلام وستقوم بنشر قواتها على الحدود المصرية الإسرائيلية طالما طلب أحد الطرفين ذلك. وأخبرني الوزير أن رئيس الدولة الفرنسية قد استقبل هذا المشروع برضىً كبير، لا سيما أن الجنرال ديغول كان قد صاغه قبل وفاته. لكن رد فعل إسرائيل كان سلبياً. إذ أعاد وزير الدفاع، الجنرال موشي ديان التعبير عن اعتقاده الراسخ في أنه «(ي)فضل شرم الشيخ على السلام». وأمكن التساؤل عندئذٍ عن النفع الذي قد يُرجى من تلك البقعة الاستراتيجية في سيناء إذا توجب تأمينها بواسطة القوات الدولية المرابضة على الحدود. في الشهر التالي، أعاد السادات الكَرّة بعرض إضافي تصور أنه مغرٍ: إذ سيُعاد افتتاح قناة السويس التي كانت قد أغلقت منذ حرب الأيام الستة، وستُستأنف فيها الملاحة الدولية في مقابل انسحاب جزئي للجيش الإسرائيلي من سيناء، وذلك – بالطبع – كخطوة أولى قبل الجلاء التام عن الأراضي المصرية المحتلة كافة. وستتعهد مصر في الوقت ذاته باستئناف العلاقات الديبلوماسية مع واشنطن، بعد أن كانت قد انقطعت غداة حرب 1967. لكن غولدا مائير رفضت بقوة خطة التسوية تلك، ووصفتها بـ«سُبة في حق ذكائنا». أما الجنرال ديان، فقد عبَّر عما كان وسيكون من أمر الفلسفة الإسرائيلية الثابتة على مر العقود التالية، إذ صرح قائلاً: «لم تتعود الحركة القومية اليهودية من العرب إلا الاعتراف بالأمر الواقع». لكنه رأى، على نحو متناقض، أن إعادة ضفاف القنال إلى مصر من شأنها أن تطرد شبح الحرب. لكن الرئيس نيكسون قد خطَّأه ونصح السيدة مائير برفض العرض المقدم من قِبل الرئيس المصري. أما الدول الأوروبية، فعلى رغم استحسانها احتمال عودة حرية الملاحة في قناة السويس ـ وهو ما سيتيح لهم الحصول على نفط بسعر مناسب – فلم يكن رد فعلها مخالفاً لرد فعل الولايات المتحدة، التي تضامنت مع إسرائيل على حساب مصالحها الخاصة. هكذا، أقدم السادات على مخاطرة كبيرة بلا مقابل: فقد أدانه العالم العربي بأسره لاقتراحاته غير المناسبة.
على رغم ذلك، استمر خليفة عبد الناصر في رهانه على الدعم الأميركي. فتحدى، أثناء صيف 1971، الاتحادَ السوفياتي بتأييد انقلاب عسكري معاد للشيوعية في السودان. واشتعل أوار الحرب الباردة، فلم تكتم موسكو غضبها، وأبدت واشنطن لا مبالاة لافتة. وإذ كنتُ متواجداً في القاهرة في تلك اللحظة، أجريتُ مقابلة مع المكلف بأعمال الولايات المتحدة، دونالد برجاس ( Donald Bergus)، الذي ربطتني به علاقة طيبة. وقد أسرَّ إليّ بقوله : «حتى وإن كنا سنتسبب في إحباط الرئيس السادات، فلقد أخبرناه أن أهدافه غير قابلة للتحقق، وبأن عليه ألا يُعوِّل علينا لممارسة ضغوط على إسرائيل لأننا لا نملك أسباب ذلك».

طرد السوفيات من مصر
رغم ذلك، تمادى السادات في إصراره. فأسرَّ إلى واشنطن بنيَّته في الابتعاد عن الاتحاد السوفياتي فور بدء الإسرائيليين في الجلاء عن سيناء جزئياً. وإذ لم ترِد إليه أصداءٌ إيجابية، تخيَّل أن الأميركيين سيثقون به لو أنه أقدم على تنفيذ عرضه بلا إملاء شروط مسبقة. فما كان منه إلا أن قام بعملية أدهشت المصريين والرأي العام العالمي على حد سواء. ففي الثامن من يوليو (تموز) 1972، استدعى السادات سفير الاتحاد السوفياتي بالقاهرة وأفهمه أن الخبراء الروس، البالغ عددهم عشرين ألف خبير، مطالبون بمغادرة مصر بكامل عتادهم وأمتعتهم في غضون 48 ساعة. لكنه خسر، مرة أخرى، تلك المقامرة الكبرى. وقد سخر هنري كسنجر من سذاجته غير المعقولة، ووصف مسعاه بأنه «خطأٌ فادحٌ»، مضيفاً: «لو أنه قد حاول وضع ثمن لمبادرته تلك قبل أن يشرع في تنفيذها، لكُنا دفعنا فيها ثمناً غالياً جداً».
وعلى نحوٍ يجافي الحذر مجدداً، أعلن السادات إن عام 1971 سيكون «عام الحسم»، وإنه سينتهي إما بالسلام أو بالحرب، حتى وإن تكلفت الحرب «مليون شهيد». وفيما رأت الصحافة الإسرائيلية في ذلك التصريح دليلاً على مزاجه العدواني وشغفه بالحرب، راح ارتياب مواطنيه يزداد بازدياد إخفاقاته الديبلوماسية. ونظراً لكون المصريين لا يكادون يفقدون روح الدعابة، فقد كانت النكتة الرائجة آنذاك تقول متهكمةً: «يجب ألا نقلق لأن الرئيس سيصدر مرسوماً يأمر فيه بإضافة إثني عشر شهراً آخر إلى العام الحالي». وقد صار أضحوكة عامة حين صرح في كانون الأول ديسمبر أن «الضباب» الجاثم فوق الظروف الإقليمية والدولية يَحُول بينه وبين الشروع في عمل عسكري. فتحَوَّل التململُ إلى اهتياج. اعتصم الطلبة بالجامعات، وعلقوا شعارات ورسوماً كاريكاتيرية لاذعة، تسخر جميعها من فكرة «الضباب»، فيما تم القبض على المئات منهم. وقد أدى انكشاف مؤامرة داخل الجيش إلى إعادة النظر في قدرات القائد الأعلى للقوات المسلحة.
فهل كان النظام في خطر؟ كان السادات موقناً بذلك فيما يبدو، وقد ارتأى أن عليه في جميع الأحوال أن يرفع العصا على من عصى. ففي إبريل (نيسان) 1972، صرح أن مصر «ستستلهم الغزوة الرائعة للرسول الكريم، التي طرد على أثرها من شبه الجزيرة العربية كافة اليهود، ذلك الشعب الخوان الغدار». وبعد ثلاثة أشهر، أعلن في خطاب له إن «ما أُخذ بالقوة سيُستردُ بالقوة». وقد تخلى السادات عن فكرة «المفاوضات الثنائية» مع إسرائيل موضحاً في وقت لاحق أن ذلك من شأنه أن يؤدي به حتماً إلى الاستسلام والتنازل، نظراً للتفاوت الكبير بين الطرفين. كما هاجم القادة الأميركيين قائلاً إنهم «لا يجيدون سوى الغش والخداع».
واشتعل أوار الحرب النفسية. فراحت سفارة إسرائيل في باريس ترسل إليّ بانتظام نصوصاً تذكِّر بالماضي النازي للرئيس المصري، وبإعجابه بهتلر، وبآرائه المعادية للسامية. وقادت وسائل الإعلام والمنظمات الصهيونية في فرنسا حملةً مماثلة، زاد من فاعليتها كونها مستندةً إلى حقائق دامغة. وقد سمحت تلك الحملة خاصةً بالنَيل من مصداقية مشروع السادات من أجل السلام، الذي ينص على الجلاء التام عن سيناء. واتخذت المعارضة في مصر أبعاداً أخرى. ففي سبتمبر (أيلول) 1972، وقع خمسمئة كاتب وفنان على بيان يشكون فيه من أن «الثقافة المصرية تحتضر ببطء وبألم تحت وطأة العديد من القيود المفروضة على حرية التعبير، والرقابة، والتزمت، والفساد». فما كان من السادات – الذي كان يدّعي إرساء نظام ديموقراطي تعددي – إلا أن أمر بالقبض على بضع مئات من المثقفين، والكتاب، والمحامين، والصحافيين، والطلاب، واتهمهم بأنهم يتحركون بإيعاز من «اليسار المغامر»، ومن «باشاوات العهد البائد» في الوقت نفسه – ويا للعجب!
في حوار مع مجلة «نيوزويك» (Newsweek) الأميركية في إبريل (نيسان) 1972، صرح السادات بأنه «يائس» من موقف الولايات المتحدة، التي تؤيد تعنت إسرائيل، وتزودها علاوة على ذلك بالطائرات المقاتلة من طراز فانتوم (Phantom)، فضلاً عن الوسائل اللازمة لتصنيع طائرة حربية. كما شكا من الاستقبال البارد الذي لقيه في واشنطن مبعوث مصري رفيع، عاد إلى القاهرة بخفي حنين. هكذا سيشهد العام عدة تهديدات بالحرب، لن تفلح جميعاً في إقناع المشككين في صدقه.

كيسنجر والحمار
هذا ولم يحاول هنري كيسنجر أن يخفي ازدراءه لذلك «المهرج المتحذلق» (bombastic clown). وهزأ المثقفون المصريون من «الحمار»، وهو النعت الذي ألصقوه به منذ عهد عبد الناصر، وراحوا يرددون مازحين: «الريِّس القديم موِّتنا من الخوف في العشرين سنة اللي فاتت.. أما الريّس الجديد فحا يموتنا من الضحك في العشرين سنة اللي جاية..». وأخيراً، انتهى السادات إلى إدراك أن مصير إستراتيجيته الديبلوماسية هو الفشل. ومضى حزب العمال الإسرائيلي الحاكم في توسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة، برباطة جأش وعزم لايفتر. ولم ينقطع المتحدثون باسمه عن التأكيد على أن الهدوء يخيّم على جميع الحدود، وعلى أن «مكافحة الإرهاب»، المكللة بالنجاح، تحظى بإعجاب الرأي العام العالمي. وأخذت وسائل الإعلام تشهد على شعبية الجنرالات الإسرائيليين، وعلى المكانة المتميزة، بل المهيمنة، التي يحتلونها داخل المجتمع. وأخذوا هم يلقون الأحاديث والخطابات، ويتألقون في الأمسيات الاجتماعية والحفلات.
هذا وأعرب الجنرال ديان عن نيته في بناء «ميناء في المياه العميقة» في مستوطنة ياميت (Yamit)، وهي المستوطنة التي أنشأتها الدولة العبرية بالتحديد في قلب سيناء. وأعلن قائلاً: «باستطاعة جيشنا أن يهزم كل الجيوش العربية مجتمعةً». وأضاف جنرالان آخران، من «أبطال» حرب 1967، أقوالاً مماثلة: فأعلن عزرا وايزمان (رئيس الدولة في المستقبل) أن الدولة اليهودية «يسعها الانتصار على القوات السوفياتية»، فيما لم يتردد أرييل شارون (رئيس الوزراء في المستقبل) في أن يصرح قائلاً: «إسرائيل هي البلد الأشد بأساً في العالم، بعد القوتين العظميين، وهو قادر على احتلال العالم العربي من العراق إلى تونس». وظن السادات، عن حقٍ، أن الدولة اليهودية لن تتخلى عن مواقفها المتعنتة طالما أنها قد امتلكت قنابل نووية. وأسرّ إلى سفير أحد الدول الصديقة قائلاً: «إلى متى تظن أن يقبل ستمئة وخمسين ألف شخص ـ منهم أكثر من ستين ألف خريج جامعي – الخدمة في صفوف الجيش، والبقاء داخل الخنادق أمام قناة السويس المحتلة، بلا أدنى أملٍ في الخلاص؟» وفي انتظار ما لا يأتي، راحت الميزانية العسكرية تُفاقم من الأزمة الاقتصادية. وأخذت الإضرابات العمالية، واحتجاجات الفلاحين، وتظاهرات الجماهير الغاضبة، تحيل الوضع إلى جحيم لا يطاق. ولم يكن لدى السادات خيار آخر سوى الاستعداد لخوض عمل عسكري. وبالاتفاق مع الرئيس السوري، اتخذ القرار في إبريل 1973 ببدء العمليات الحربية قبيل نهاية العام. وقد صرح بنواياه إلى عاهل المملكة العربية السعودية، الذي نبّه الرئيس الأميركي، الذي أخطر بدوره القدس. وقد أثار النبأ سيلاً من الاستهزاء داخل أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، التي استمرت في تشككها. هل كانوا يجهلون أن السادات بعد أن نجح في التصالح مع الاتحاد السوفياتي، بات يحصل منه منذ ديسمبر 1972 على تسليح مضاعف، كماً ونوعاً، لما كان يُمنح له طوال العامين الماضيين؟ في الأسابيع التي سبقت اندلاع العمليات العسكرية، قام السادات بجولة في الدول العربية الأكثر نفوذاً، لا سيما الدول النفطية في الخليج ـ ليطلب إليهم مساندته في الحرب التي سيقودها. كما طلب بالأخص من المملكة العربية السعودية، والكويت، وإمارة أبو ظبي توقيع حظر نفطي لإجبار القوى الصناعية على الضغط على إسرائيل. وفي مصر، هدأ من روع النخب بأن أفرج عن مئات المثقفين والطلاب الذين كان قد اعتقلهم قبل بضعة أشهر.
وبعد ثمانية أيام، شن السادات «عملية بدر» التي صنعت منه «بطل العبور».
لقد كان محظوظاً إذ لم يصدقه أحد حين قال إنه سيحارب…

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى