كيف تحوَّلت ثورة الفلاحين إلى حرب أهلية في تاريخ لبنان؟
إنه عام 1860. انتصر الفلاحون أخيراً في منطقة كسروان شمال بيروت. أدَّت ثورتهم بزعامة طانيوس شاهين إلى طرد مشايخ الإقطاع من المنطقة. تمّ الاستيلاء على أملاك هؤلاء وجرى توزيع مؤنهم ومُقتنياتهم أو سَلْبها. هذه الثورة الفلاحية مثّلت على الأرجح حركة غير مسبوقة في تاريخ لبنان.
لم يُقيَّد لتلك الحركة أن تبقى ثورة ناصِعة ضد الإفقار والظلم والاستبداد. ما هي إلا أيام قليلة حتى تلاشت ثمالة النصر. حلّ الاضطراب مكان الاحتفال. تداعت الأحداث لتتحوَّل إلى واحدةٍ من أفظع الحروب الأهلية بين الدروز من جهةٍ و”الثوّار” المسيحيين من جهةٍ أخرى. كيف حدث ذلك؟
على أثر نجاح “الثورة” المارونية في كسروان بدأ موارنة منطقة الشوف بالتحرّك. أمل هؤلاء باستنساخ ما حدث في كسروان والتخلّص من مشايخ الإقطاع في مناطقهم أيضاً. لكنّ هؤلاء المشايخ في الشوف كانوا من طائفة الموحّدين الدروز بخلاف المشايخ الموارنة في كسروان.
وكما شجَّعت الكنيسة رعيّتها خِفَية في كسروان ضد الإقطاعيين يُحكى أنها فعلت الأمر نفسه في الشوف.
خلال الحقبة التي سجَّلت هذه الأحداث كان عدد المسيحيين يفوق عدد الدروز في مناطق الشوف. يعود سبب هذا التحوّل الديموغرافي إلى مراحل حُكم فخرالدين المعني (1572 – 1635 م) والأمير بشير الشهابي (1788-1840). كلا الأميرين شجَّعا المسيحيين على النزوح من مناطقهم الأصلية في شمال لبنان والاستيطان في الشوف وكسروان. أسباب ذلك المُعلَنة تنشيط صناعة الحرير التي تعتمد على تربية دود القز وزراعة التوت، وهي صناعة أدَّت إلى ازدهار الجبل اقتصادياً واجتماعياً في عهودٍ مُتتالية.
أما في الخفاء فكانت الأسباب والخلفيّات السياسية بارزة وراء هذا التشجيع. ربما من أهمّها تقليص سَطْوة ونفوذ مشايخ الإقطاع الدروز ضد الأمير “اللبناني” الحاكِم الذي يرتبط بدوره بالوالي العثماني. وربما ساعد هذا التوطين كذلك على مُباركة ورضا الفرنسيين وغيرهم من الدول الاستعمارية التي وجدت في التنوّع الطائفي في جبل لبنان ذريعة للتدخّل بما ينسجم مع مصالحها.
كان الأمراء الشهابيون اعتمدوا منذ العام 1711 نظام الإقطاع من أجل تحطيم المقاومة العشائرية الدرزية لحُكمهم في أيامه المُبكرة وخصوصاً أنهم تحوّلوا لاحِقاً بسبب مصالحهم وارتباطاتهم مع دول الغرب، لاسيما فرنسا، من المذهب السنّي إلى المذهب الماروني.
جيلاً بعد جيل، وصولاً إلى العام 1860، باتت أعداد المسيحيين في الشوف تفوق أعداد الدروز. صحيح أن الظلم اللاحِق بالفلاحين كان يسود معظم البلاد ويستدعي ثورة. يصحّ ذلك في القائمقامية المسيحية كما الدرزية، وينطبق على الفلاحين الدروز كما الموارنة. لكنّ الصحيح أيضاً أن سكان تلك المناطق ومشايخها وزعماءها لم يكونوا قد نسيوا بعد الأحداث الطائفية الدامية التي اندلعت قبل أقل من عقدين من ذاك العام.
وكان من جرَّاء الأحداث الطائفية التي جرت عام 1840، أن قسَّمت الدولة العثمانية جبل لبنان إلى قائمقاميتين: قائمقامية مسيحية تمتد من طرابلس إلى طريق الشام ويرأسها قائمقام مسيحي، وقائمقامية درزية تمتد من طريق الشام إلى صيدا ويرأسها قائمقام درزي.
ما إن جاءت أواخر العام 1857 حتى أصبحت الحال في جبل لبنان في مُنتهى التعقيد. ولسنواتٍ خَلَت أيَّد البريطانيون الدروز فيما أيَّد الفرنسيون المسيحيين. أما العثمانيون فسعوا إلى توسيع شقة الخلاف في قائمقامية النصارى، مُنتصرين لهذا الفريق أو ذاك بحسب الظروف.
وفي رسالةٍ تعكس مدى التدخّل الأجنبي آنذاك، بعث يوسف كرم إلى البطريرك بولس مسعد (تاريخ لبنان العام، يوسف مزهر) مكتوباً جاء فيه: “لقد أصبحت أمورنا في هذه الأيام تابعة لإنكلترا وفرنسا، وإذا ضرب أحد رفيقه تصير المسألة إنكليزية فرنسية، وربما قامت الدولتان من أجل فنجان قهوة يُهرَق على الأرض”.
لذا من منظورٍ تاريخي جاءت ثورة عام 1858 في كسروان وما تلاها لتعبِّر عن جيَشان داخلي ناتج من توتّرٍ طائفي واجتماعي تفاقم عبر السنين في البلاد. هذا التوتّر الطائفي كان يسود إجمالاً البلاد الخاضعة للدولة العثمانية الضعيفة آنذاك.
عدا ذلك، كان هناك اختلاف جوهري ولو غير ظاهِر بين كسروان والشوف. فالعشائرية الدرزية التقليدية ظلّت مستمرة في مناطق الشوف، وتوارت تحت غطاء النظام الإقطاعي الشهابي.
لم تكن الحال كذلك في مناطق كسروان حيث وقعت الثورة. سبب ذلك يعود إلى مراحل أعمق من تاريخ لبنان حينما بدأت أعداد كبيرة من الموارنة تنزح من شمال لبنان إلى كسروان والشوف بتشجيعٍ من الأمير فخر الدين المعني ولاحقاً الأمير بشير الشهابي. قبل نزوحهم إلى هذه المناطق لم يكن الموارنة في مناطقهم الأصلية أقل عشائرية من الدروز.
عندما فَقَدَ موارنة كسروان وجبل الشوف تنظيمهم العشائري الأصلي بتحوّلهم إلى فلاحين ومُرابعين لحساب مشايخ من الموارنة أو الدروز، لم يعد باستطاعتهم أن يحافظوا على تضامنهم الاجتماعي كجماعةٍ إلا بالتحوّل إلى كنيستهم بحثاً عن قيادةٍ لهم.
هكذا، وفيما كان ينظر المسيحيون إلى مشايخهم في مناطق كسروان كما في مناطق الشوف كسادةٍ إقطاعيين ووجهاء يتبعون الأمير الشهابي، كان الدروز على خلاف ذلك ينظرون إلى مشايخهم وخصوصا آل جنبلاط الذين كانوا الأقوى بين سائر الأُسَر الدرزية، على أنهم زعماء عشائريون يتبعونهم في السرّاء والضرّاء.
بمُوازاة ذلك بدأت تحصل تحوّلات اجتماعية في المنطقتين بين الموارنة. ظهرت طبقة من الموارنة الأثرياء من عامة الشعب. في العام 1854 نجح أحد أبناء العامة أيضاً في كسروان، وهو بولس مسعد في الوصول إلى المنصب البطريركي في بكركي. منذ ذلك التاريخ فقدت أسرتا المشايخ من آل الخازن وآل حبيش في كسروان النفوذ الذي كان معقوداً لهما في تأمين وصول أعضاء منهما إلى الكرسي البطريركي لفترةٍ من الزمن. وكانتا بموازاة ذلك تفتقدان سطوتهما أمام أسرة أبي اللمع التي فازت بمنصب القائمقام.
الكثرة العدديّة لصالح “الثوّار” المسيحيين شجَّعت على الأرجح طانيوس شاهين. تباهى الأخير أنه قادر على حشد 50 ألف مُسلّح مقابل نحو 13 ألف مقاتل درزي. لكنّ مسلّحي طانيوس شاهين رغم كثرتهم العددية كانوا يفتقدون إلى التنظيم العشائري والاجتماعي الموجود في الجانب الدرزي.
كان لا بد إذاً من أن تتّخذ حركة الفلاحين في المناطق الدرزية صبغة طائفية. لم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من شرارة. وقعت هذه الشرارة إثر خلاف على اصطدام دواب ببعضها! (أنطوان عقيقي، ثورة وفتنة). أحد المكاريين المسيحيين صدمت دابّته دابّة آخر من الدروز فتداعى حشد من الجانبين وتصارعوا في ما بينهم وأدموا بعضهم بعضاً بالأسلحة البيضاء.
أخذت الحركة تتزايد في الشوف ودير القمر وجزين. نهى البطريرك بولس مسعد عن الأمر، لكن مطران بيروت آزَر النصارى فأخذت الحركة تتزايد. طلب المسيحيون النجدة من طانيوس شاهين. أما الدروز فكانوا يتحضّرون منذ وقت طويل سرّاً، وتواصلوا لهذه الغاية مع دروز حاصبيا وحوران وبلاد الشام.
أما السلطنة العثمانية التي كانت تقف سرّاً إلى جانب الدروز فكانت تنتظر اندلاع الحريق. كان باستطاعتها أن توقف هذا التأهّب وأن تمنع على الأقل استيراد الأسلحة، لكن مصلحتها كانت تقتضي خلاف ذلك.
لاحقاً وقع شجار مُسلّح في بلدة بيت مري (لا تزال قائمة في منطقة المتن) سبقته عَراضات مُسلّحة واستفزازات. تحوّلت مجموعات الثوّار في كسروان إلى عصاباتٍ مُسلّحةٍ يقود كلاً منها “شيخ شباب”.
تداعت الأحداث. كثرت أعمال القتل على الهوية في نواحٍ مُتفرّقة. عمّ الاضطراب المناطق الدرزية. ردّ وردّ مقابل. حَرْق بيوت وقرى وعمليات انتقام وغزو. اشتعلت البلاد وامتدّت النيران والمجازر إلى حاصبيا وراشيا وشملت جبل لبنان وزحلة وصولاً إلى الشام.
في 6 تموز/ يوليو من العام 1860 دعا الوالي العثماني خورشيد باشا زعماء الطائفتين إلى بيروت وعرض عليهم مُقترحاته لوقف القتال، فقبلوها على الفور. اتفق الجانبان على تجاوز الماضي، وعدم المُطالبة بتعويضات. عُزِيَت أسباب وقوع حوادث الأسابيع السابقة إلى سوء إدارة القائمقاميتين!
في نهاية الأحداث كان قد قُتِل من مسيحيي لبنان بحسب المؤرخ كمال الصليبي ما قُدِّر بـ11 ألف وهلك من الجوع نحو 4 آلاف، وتشرَّد نحو 100 ألف.
الميادين نت