لا تراجع عن المشروع الطائفي العراق

لم تكن اعادة انتاج الدولة الوطنية بعد هدمها واحدا من اهداف المشروع الاميركي في العراق. وهو ما وجد له صدى طيبا لدى الاحزاب الدينية التي التفت حول ذلك المشروع، مستغلة الفراغ السياسي الذي خلقه تعفف وامتناع الكثير من سياسيي المعارضة العراقية عن تأييد الاميركيين في حربهم غير المشروعة خشية أن يتلوث تاريخهم الشخصي بعار التعاون مع المحتل.

كانت هناك بعض القوى العلمانية والشيوعية قد انخرطت في المشروع الاميركي وسعت إلى أن يكون لها نصيب من غنائم الاحتلال الذي لم يلتزم بالقوانين الدولية حين وضع تحطيم الدولة التي كانت قائمة في العراق نصب عينيه، غير أن تلك القوى سرعان ما اضطرت إلى الإنسحاب من المشهد المباشر بسبب ضآلة حجم تأثيرها الشعبي وانشغال الناس بالطقوس والزيارات الدينية. وهو ما فتح الباب أمام الاحزاب الدينية للعمل على بناء دولة دينية، لكن وفق نظام اسست له سلطة الاحتلال.

لم يكن نظام المحاصصة الطائفية الذي فرضته سلطة الاحتلال مبدأ لتركيبة الحكم في الدولة الناشئة صالحا لقيام الدولة الدينية الشاملة على غرار الجمهورية الاسلامية في ايران، غير أنه كان بالنسبة للاحزاب الدينية فرصة للقفز إلى السلطة من خلال احتكار التمثيل الطائفي الذي وظفت وسائل الدعاية والاعلام كل قواها في التأثير من أجل تحويله إلى واقع لا يمكن للمجتمع أن يستغني عنه، في ظل عمليات استقطاب وتجاذب بين قوى مسلحة متناحرة صارت تدير مصالحها وفق منطق طائفي.

لقد كشفت الانتخابات النيابية التي أجريت غير مرة في العراق عن تمكن الخطاب الطائفي من اللغة الشعبية، بحيث لم تعد الكفاءة ولا الخبرة ولا النزاهة مقياسا لدى الناخبين وهم يدلون باصواتهم، بل كانت قدرة المرشح على الشحن الطائفي وعلى الانغلاق المذهبي هي المقياس الذي صعد من خلاله جهلة وأميون وقطاع طرق ولصوص إلى مجلس النواب ليتولوا سلطة التشريع.

فإذا كان مجلس النواب يتكون من الشرائح المشار إليها اعلاه فإن الحكومة التي انبثقت عنه لن تكون أفضل حالا منه. لذلك انعدم الدور الرقابي وضاعت قيم النزاهة والثقة وتدهور الاداء في ظل ارتفاع غير مسبوق عالميا في منسوب الفساد.

وهكذا فإن حصيلة عشرسنوات من نظام المحاصصة الطائفية لم تثمر إلا سلطات ثلاث فاسدة، يتستر بعضها على فساد البعض الآخر ويحميه بل ويدافع عنه. وهو ما أدى بالنتيجة إلى دفن حقيقة ما جرى ويجري في العراق، البلد الثري الذي يقع جزء كبير من شعبه تحت طائلة الفقر.

لذلك فإن رئيس الوزراء الحالي قد أدرك منذ اللحظة الأولى التي أثار فيها زوبعة التصدي للفاسدين أنه يوجه طعنة إلى النظام الطائفي الذي جاء به إلى الحكم. فشيعية العبادي هي التي مهدت الطريق أمامه إلى السلطة. وهو ما جعله يقف حائرا بين الاصلاح الذي يجده ضروريا من اجل ان لا تنهار الدولة وينقلب الشعب عليها وبين الرجوع إلى البيت الشيعي الذي يضمن له البقاء في الحكم.

وهنا في هذه الحرجة انقلب الجميع عليه.

فالفاسدون الذين قرر الانقلاب عليهم وهم أركان العملية السياسية القائمة على نظام المحاصصة، هم في الوقت نفسه العقل المدبر للمشروع الطائفي الذي لم يعلن الشعب حتى اللحظة موقفا مناوئا له. كما أن العبادي نفسه لم يجرؤ على نزع جلده الطائفي ليُظهر على الملأ عراقيته الخالصة.

وكما يبدو فإن فكرة الرجل عن الاصلاح لم تكن إلا محاولة ترقيعية للمشروع السياسي الطائفي. ذلك لأن الاصلاح الحقيقي ينبيغي أن يبدأ من لحظة الاعتراف بفشل ذلك المشروع الذي انتهى بالعراق إلى أن يكون دولة فاشلة.

وقد يكون صادما إذا ما قلنا إن مشروعا سياسيا وطنيا لا يمكن أن يقوم في العراق إلا إذا قرر الشعب العراقي غير ذلك. وهو أمر مستبعد في ظل ثقافة طائفية يمكنها أن تجعل من الفقر امتيازا عقائديا.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى