لا ربيع في الغوطة
ها قد أقبل الربيع من دون أن يعبأ بالحصول على ترخيص يسمح له بالمجيء أتى غير عابئ بقصف المدافع و سقوط الصواريخ و دوي الطائرات و ما يصنعه اللهيب و الدمار و الدخان الخانق من تخريب و تعذيب و موت …أتى بعكس ما قاله البحتري ذات يوم :
(( أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما ))
بلى … جاء الربيع في هذه المرة يزمجر كالوحوش الضارية و بأبشع ما تفعله الطبيعة الهوجاء من زلازل و براكين حتى كاد من الهول أن يغدو فصلا للموت بأقبح قسماته و أقسى نزعات بطشه .
هاقد أقبل الربيع على عادته كل عام كي يخبرنا بأن ضجيج الخراب و الهلاك قد استحال إلى صمت مهيب و سلام مهزوز ، و لكنه مازال قادرا أن ينعش ذاكرتنا بذكرى الأيام الربيعية التي كانت ما تكاد تفتح أبوابها مرحبة بنا حتى ننهض من فراشنا مع صوت الجيران الذين إستفاقوا مثلنا و نتسابق في غسل وجوهنا و إرتداء ملابسنا للنزهات و تحضير طعام النزهة و تعمير سلالها بالفواكه و الموالح و الطابات و حمل آلة الموسيقية من الأعواد و المزامير و الدربكات و بعض المتاع من الأبسطة و الوسائد و الطراريح … ولم لا ؟ كل هذا كان ضروريا للعائلة المتهيئة للإسهام في عرس الربيع في أحضان الغوطة العابقة بالخضرة و اللون و الشذى .. حيث سيمضي نهارنا و كأننا ندخل في مهرجان من المرح و الفرح و الغناء و الرقص و التعارف و تبادل المودة و العشق أو الخطوبة أحيانا و نحن على ضفاف السواقي المتدفقة بماء بردى و بالأشجار السخية بظلالها و أثمارها …
نمضي إلى الغوطة إذن مع مقدم الربيع بالسيارات أو عربات الخيل أو داخل مقاصير ” تراموي” “القصاع – دوما ” الذي كان يخترق الغوطة عبر البساتين و المروج إنتهاء ب “دوما” كي نهبط في إحدى المحطات المتفق عليها و تبسيط متاعنا مبكرين متباهين بنشاطنا الذي أوصلنا قبل الزحام على ضفة ساقية رقراقة وفوق بساط من العشب الطازج.
هناك كان نهار الجمعة أو أي يوم من العطلات موعدا لدمشق كي تخرج بأسرها تقريبا من بيوتها إلى الهواء الطلق و ترتمي على أعشاب الغوطة و في ظلال أشجارها و يتشارك الجميع في هذا المهرجان السنوي مع العائلات المجاورة لها على بساط العشب حتى اللحظة التي تميل بها الشمس نحو الغرب فنشرع بلملمة أغراضنا و جمع متاعنا و تبادل تحيات الوداع مع جيراننا.
أكتب هذه الكلمات و أنا أسمع دوي الطائرات المغيرة على بقايا المتمسكين بمشروعهم القتالي كي تخبرنا الضجة المخيفة أن إلزموا أسرتكم ، و أوصدوا أبوابكم و لا تخرجوا حتى نعلق لكم أن السلام حقا عاد بكل إبتساماته و عناقاته …
و لكن هيهات كما يبدو، فالربيع الطلق لم يعد بعد حتى كدنا ننساه …فوداعا أيها الفصل الحبيب و إلى اللقاء في عالم أخر غير عالمنا المتخلف عن الفرح و التقدم و السلام …