لا معنى للديمقراطية في غياب الأمن
العالم في حالة حرب على الإرهاب، والحروب كما هو معروف، تقتضي في أحيان كثيرة تعليق العمل بالدساتير حتى في أكثر الدول عراقة وتجذرا في المسألة الديمقراطية، وتدعو إلى سن واستدعاء قوانين جديدة وطارئة، فما المعضلة وأين الجريمة في مجرد إرجاء أو تجميد بعض الحريات إلى حين استعادة المناخات الصحية التي يمكن للأفراد أن يمارسوا حرياتهم فيها.
ليس الأمر مقايضة للحرية بالأمن وفق منطق الحسم النظري، لكن دولا لها إرثها الطويل في مجال الدفاع عن الحريات قد أعادت النظر في هذه المسألة أمام تهديدات الإرهاب التي تقتضي دوام اليقظة واتخاذ جميع التدابير التي من شأنها الوقاية وتأمين حياة الناس التي هي قيمة القيم. وفي هذا الإطار، عدّلت ومازالت تعدّل ديمقراطيات عريقة من قوانينها تحسبا ووقاية من الإرهاب.
فمنذ فترة قصيرة، وقّع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، القانون الجديد لمكافحة الإرهاب، وكان البرلمان الفرنسي قد أقره قبل ذلك.
القانون الفرنسي الجديد أثار جدلا واسعا؛ لأنه يمنح قوات وأجهزة الأمن سلطات وصلاحيات واسعة غير مسبوقة. يمنحها مثل فرض الإقامة الجبرية وتحديد نطاق حركة أي شخص، والقيام بعمليات دهم وتفتيش، وغلق أماكن عبادة، ومراقبة الهويات عند الحدود.. كل هذا من دون إذن قضائي، أي بعيدا تماما عن أي إشراف قضائي.
وقد أثار المنتقدون للقانون هذه القضية بالفعل، واعتبروا أن هذه الصلاحيات الممنوحة بعيدا عن القضاء يمكن أن يساء استغلالها من قبل سلطات وأجهزة الأمن، وردا على مثل هذه الانتقادات، دافعت السلطات الفرنسية عن القانون بالقول إن الأمن والاستقرار وحماية المواطنين له الأولوية القصوى، وخصوصا بعد الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا.
الرئيس الفرنسي ماكرون دافع عن القانون أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وقال إن القانون هدفه حماية الفرنسيين وهذا هدف له الأولوية. وقال أيضا إن ضمان الحريات مرهون بشرط توفير الأمن أي أن تحقيق الأمن والاستقرار يأتي أولا قبل الحريات، ومن دون ذلك لن تكون هناك حريات أصلا.
وذكرت تقارير كثيرة أن القانون لم يلق اعتراضا كبيرا من جانب الفرنسيين أنفسهم. فقد أظهر استطلاع للرأي أن 57بالمئة من الفرنسيين يؤيدون القانون، كما أظهر استطلاع آخر أن 80بالمئة من الفرنسيين مستعدون للتضحية بجزء من حرياتهم في سبيل الأمن والاستقرار.
هناك تفهم عام للقانون الفرنسي رغم كل القيود التي يفرضها على الحريات بعيدا عن القضاء.
ولم نسمع ـ إلاّ في ما ندر ـ أن منظمات حقوق الإنسان العالمية الكثيرة قد شنت حملة على فرنسا أو اتهمتها بالتنكيل بالحريات وانتهاك حقوق الإنسان، وما شابه ذلك من اتهامات.
يحدث هذا كل يوم في أعرق الأنظمة الديمقراطية في العالم، وتتفهمه الدوائر الحقوقية في الغرب وتلتمس له الأعذار في الوقت الذي تتعرض فيه دول عربية إلى حملات ضارية لا تتوقف من جانب هذه المنظمات الدولية ودوائر سياسية غربية أيضا.
ويتساءل مراقبون ومحللون عرب ” إن كان الغربيون حريصين كل هذا الحرص على أمنهم واستقرارهم وحماية مواطنيهم، ولهم الحق في ذلك، فماذا عن أمن واستقرار دولنا وحماية شعوبنا “؟
ويربط محللون بين اتساع دائرة النقد من طرف حقوقيين عرب لتكثيف الإجراءات الأمنية في بالبلاد العربية وبين دوائر مشبوهة تنفذ أجندات سياسية تستهدف تقويض الأمن ونشر الفوضى لتمكين الإرهاب من تنفيذ عملياته. لهذا، يقول مدافعون عن الخيار الأمني في مواجهة الإرهاب أنه يجب ألا تتردد الدول في اتخاذ كل ما تراه ضروريا لتحقيق الأمن والاستقرار وحماية شعوبها.
شرط آخر وأساسي ينبغي توفره في البلدان العربية لضمان سلاسة تطبيق القوانين الرادعة والصارمة في الوقاية من الإرهاب، هو حل أزمة الثقة بين مكونات المجتمع عموديا وأفقيا، كي لا يكون أي نقاش عقلاني حول موضوع الأمن والحريات مدعاة للتخوين من هذا الطرف أو ذاك مما يعمق الهوة ويجعلنا نسير في حلقة مفرغة من التشدد والتباعد كما يحصل الآن في تونس على سبيل المثال، وهو ما يعرقل مسار الديمقراطية الناشئة في هذا البلد.
إن من يتجاهل الإرهاب ويطالب بفتح الباب على مصراعيه نحو إباحة كل أشكال التظاهر والتجمهر بدون شروط، هو كمن يشرعن الفوضى التي يندس الإرهاب من خلالها أو كمن يريد أن يعطى للإرهاب فرصة أكبر لممارسة جرائمه عن طريق التجمهر العشوائي.
ليس تقليلا ولا استهتارا بقيمة الحريات في حياة الأفراد والمجتمعات، لكنها لا تتصدر سلم الأولويات وفق غالبية نظريات علم النفس وعلم الاجتماع التي تكشف لنا عن وجود درجات متعددة وحالة من التراتبية والأولويات يمكن تصنيف احتياجات الناس بناء عليها، فالحاجة لتوفير المستلزمات الرئيسية للحياة اليومية كالأكل مثلا، تسبق الحاجة لتوفير الأمن العام والتي بدورها تسبق الحاجة لوجود هامش أو فضاء من الحرية لممارسة النشاط السياسي أو الإبداع الفكري، ولعل نظرية ما يعرف ب “هرم ماسلو للاحتياجات البشرية” مثال على ذلك.