لُغتنا الجميلة: لماذا نخونها؟

لا تفتقر اللّغة العربية إلى ما يُعيق حراكها وتجلّيها ويشدّها إلى الوراء. فقد ألزمها أهلها قبل غيرهم بالجلوس على المقاعد الخلفيّة منذ عقود طويلة، وطفقت تتابع الإنجازات المُبهرة التي يحقّقها الآخرون أبناء الألسنة الأعجمية، مسترخيةً على مقاعد النظّارة، يكاد يقتصر دورها على محاولات ” نَحْت” ألفاظ جديدة من ضلعها توازي التعابير التي تستجدّ في بقيّة الألسنة للتعبير عن ابتكارات أهلها وما يضيفونه إلى التراث البشري.

ولكي لا نوقع الظلم على بريء، ينبغي التوضيح بأنّ هذا التقصير والنكوص لا يقعان على عاتق لغتنا العربية بحدّ ذاتها، بل هما نكوصنا وعجزنا نحن، أمّة العربية، وتراجعنا في شتّى ميادين الإبداع والاختراع، وارتدادنا إلى الاستهلاك بديلاً للإنتاج، وإشغال أيدينا بالتصفيق بدلاً من العمل، وغرقنا في آسن اختلافات نستخرجها كيفما اتّفق كأنّما لتسويغ انشغالنا الأرعن عن اللّحاق بركب الحياة والتقدّم الذي لا ينتظر. واللغة التي هي لسان تعبيرنا، لا بدّ لها من الالتزام بحدود ما هو عندنا ولدينا، وهو على ما نعلم وتعلمون، بحيث تتحوّل لُغتنا العربية إلى حقلٍ مفتوح أمام الكثير من الغرابات ممّا نُسقطه في سلّتها من ألفاظ وتعابير أجنبية ونستخدمه وسط جُملتنا التي نتفاهم بها بعضنا البعض.

“بونجورك مان… كيفك؟”

هذه اللفظات الهجينة التي يمكنك أن تسمعها في ترنيمة واحدة في أيّ صباح بيروتيّ، ليست سوى واحد من الدلائل الفاقعة على مقدار إساءتنا “البريئة”، نحن أبناء العربية، إلى لغتنا، من خلال حشو وسيلة تفاهمنا الراقية بما نستنسبه لها من كلمات أعجمية نرسمها أصواتاً نصوّرها بالحرف العربي. الّلفظة الأولى ممسوخة من كلمة (bonjour) بالفرنسية، وقد جرى تسطيحها بأحرفٍ عربية، وأُضيفت إليها اعتباطاً “كاف المخاطبة” لتغدو متعارفاً عليها بمعنى: صباح الخير لك أو نهارك سعيد. اللفظة الثانية هي التسطيح بأحرف عربية أيضاً لكلمةٍ باللغة الإنكليزية (man) وتعني رجل. فيصبح المقصود صباح الخير يا رجل… وتبقى اللّفظة الثالثة (كيفك: أي كيف حالك؟)، وهي بالعربية الدارجة في لبنان وتفيد الاطمئنان عن حُسنِ حال المخاطَب. وهكذا ننطق جملة واحدة تتّصل بلغات ثلاث.

هذا النمط من الشذوذ التعبيري المستحدَث الذي يتوسّع ويزداد شيوعاً يوماً بعد يوم في العديد من مجتمعاتنا العربية، بات يشكّل بحدّ ذاته واحداً من رؤوس كتلة الجليد التي تعمل بدأب على تهديد “تايتانيك” لغتنا الجميلة بفعل أمواج إساءات غير مسؤولة نوجّهها إليها من حيث ندري أو لا ندري، فتشّكل على تراكمها أنواء ترتفع باطّراد لتضرب على دفّتها مهدِّدة بالمزيد من الأضرار.

نعم. لقد خرجنا، نحن العرب، إلى العالم الأوسع، وأَتْقنَّا العديد من اللّغات الأجنبية، وتمكنّا من الكثير من العلوم والآداب والمعارف، واطّلعنا على ما ابتكرته واخترعته الشعوب والأمم، فتمرّسنا بلغاتٍ جديدة وأغنينا ثقافاتنا ووسّعنا مداركنا. ثمّ حَمَلنا هذا كلّه إلى بيوتنا ومقار أعمالنا وشبكات اجتماعنا. مع هذه الحصيلة النوعية المُستفادة، راحت ألسُنَتُنا تلهج أحياناً بألفاظٍ وتعابير من لغات أجنبية أدخلناها عباراتنا اليومية وباتت تجري في أحاديثنا كأنّما عفو الخاطر، فنعبّر بواسطتها عمّا يجيش في الصدر من معانٍ تفوتنا اللفظة العربية المعبّرة عنها. وربما بدا هذا “التطعيم” بألفاظٍ أجنبية حَسَناً في نظر بعضنا، فمضى به بعيداً مدفوعاً بأسباب شتّى، ثمّ راح تناقلها يتوسّع، ما شكّل في مُجمله عملية “مسخ” تستهدف لُغتنا الجميلة لتجْعلَ منها لغةً هجينة، في حين أنّ العربية، وكما يعلم كلّ عارف، تُعدّ من أغنى اللغات وأوسعها مجالاً وأدقّها إحاطةً بكلّ معنى.

وطالما الأمر كذلك، ولُغتنا أوسع وأشمل من أن يحتاج مُتكلِّمها للاستعانة بأيّ لغة أخرى لتصويب تعبيره وبلوغ مراده، يُصبح السؤال مشروعاً بل وضرورياً عن الأسباب التي تدفع البعض (المتزايد عدداً) لتطعيم كلامه اليومي مع الآخرين بألفاظٍ من خارج لغته العربية، يزجّها في عباراته، ويترك لسانه يترنّم بها، كأنّها فتحٌ يحقّقه بفخر. ولماذا باتت كلماتٌ من مثل “أوكي” و”واي ناط” و”أورّيدي”… ومثلها كثير، محطّات كلام في أحاديثنا، يتمّ اللجوء لاستخدامها كبديلٍ عن الكلمة والتعبير المتوفِّرين بالعربية الأم؟ ولماذا يفضّل البعض التمسّك بهذه الإسقاطات الشاذّة وإلقاءها على لغة تفاهمنا اليومي، معتقدين ربما أنّها أدقّ تعبيراً وأبلغ تصويراً لما يودّون قوله والتعبير عنه، كأنّ كمال التعبير لا يتمّ لهم إلّا بالاتّكاء على تلك الكلمات والتعابير المُستَلّة من لغاتٍ (نسميّها عادةً باللّغات الحيّة)، على نِيّة أنّ العربية ليست من بينها(!).

هل صحيح أن يُرَدَّ إلى أنّ العربية ارتبطت في أذهان بعض أهلها بعصور الانحطاط والتردّي والتخلّف حتّى توهّموا أنّ البقاء عليها هو بقاء في الحفرة والتمسك بها هو استنقاع في الماضي وإحجام عن التمدّن والتحضّر؟ هل صحيح أنّ هؤلاء وأمثالهم ظنّوا أنّ إقحام الكلمات الأجنبية في عباراتنا اليومية هو لازمة من لوازم الأبحاث والتمدّن والتقدّم ومواكبة العصر…؟ وإذا كان ذلك غير صحيح البتّة، فلماذا تتزايد الألفاظ الأجنبية في سياقات جملتنا اليومية، وترانا نُقبل على استخدامها من دون تردّد؟

أوّل التُّهم وأسهلها التي يمكن سَوقها ضدّ هذا التوجّه هو أنّ أصحابه مأخوذون بالأجنبي إلى حدّ التصاغر أمام إنجازاته، ويعانون من متناذرة التقليد الأعمى له، فيلجأون إلى إقحام اللفظات الأجنبية في عبارتهم تدليلاً على اتّساع معارفهم، وتناغماً مع ما يعتقدونه مواكبة لـ “روح العصر”.

ومن المناسب استحضار العولمة في هذا السياق. فهي بروحها الغربية وسياقها الأميركي ولغتها الإنكليزية الغالبة، فرضت ضغطاً على لغات الشعوب والأمم الأخرى (التي غزتها)، ومن جملتها الشعوب العربية ولغة الضاد. وهذا ليس بالأمر المستغرب. إنّ أوّل بصمات العولمة وأفعلها هو السياق الثقافي الموحّد (الغربي بالضرورة) الذي تطرحه وتعمل على بنائه على حساب التعدّدية الثقافية. كذلك من شأن القوّة الاقتصادية أن تفرض واقعاً ثقافياً ولغوياً مُهيمِناً، ينمو ويتوسّع على حساب الأطراف الأضعف. هذا هو الغزو الثقافي، المسارُ التلقائي في حياة الشعوب. فعلى امتداد الأزمنة، يعلّمنا التاريخ أنّ الأمم الأقوى دأبت على غزو الأمم الأضعف، بالجيوش كما في الماضي، وبالإنجازات وبالاختراعات وبالصناعات وبالتقنيات وباللغة أيضاً، كما هو حاصل اليوم. لذا فإنّ تسعة من كلّ عشرة من بيننا، يستخدمون لفظة الموبايل أو السللولير بديلاً للتسمية العربية (الخلوي أو المحمول). وإذ تُستخدم التسمية المقتبسة عن الأجنبية، فإنّ مستخدمها لا يتوخّى غالباً الإساءة للغته العربية، بل غالباً ما تبدو له اللفظة الأجنبية أكثر تماهياً مع شيئيّة الآلة ومصدرها الأساسي، أو قد يُخيَّل إليه أنّ رنّة الكلمة بالأجنبية تحاكي كون الآلة أجنبية أساساً… فيقولها من دون أن يتقصّد الإساءة للغته الأم؛ غير أنّ الإساءة تكون واقعة.

المشكلة قائمة في الحقيقة والواقع، وهي تتوسّع وتنتشر صنو بقعة الزيت على صفحة نظيفة. فهل يمكن مواجهة كلّ ذلك؟

نعم. الإمكانية بذاتها قائمة، لكنّ التساؤل يحيط بجدواها، ولاسيّما إذا ما ربطنا هذه الحالة بواقع أنّنا، أبناء العربية، ما برحنا مستهلكين أكثر منّا مُنتجين، ونعيش في ظلّ قوانين السوق التي يقول أحدها إنّ مَن يخترع جديداً يكون له الحقّ بتسميته.

الحقيقة أن لا مجال بنظرنا لكثيرٍ من التفاؤل في التصدّي لهذه الحالة، ولاسيّما أنّنا باقون في المستقبل القريب على الأقلّ، من بين الأمم المُستهلِكة غير المُنتِجة، المقلِّدة غير المُبتكِرة، التي تشتري التقنيات ولا تخترعها. ومعلومٌ أنّنا إذ نشتري السلعة من الأجنبي، فإنّنا نشتريها مع تسميتها (بلغة صانعها)، لذلك ترانا في أحيانٍ كثيرة نستخدم لفظة “كومبيوتر” الأجنبية ونفضّلها على كلمة “حاسوب” العربية. كذلك فنحن ما زلنا مُلزَمين بمتابعة دراساتنا العُليا إمّا في الخارج وإمّا في جامعات في الداخل تعتمد اللغة الأجنبية أساساً. وفي كلتَا الحالتَين سوف نظلّ عُرضةً للوقوع في إغواء ما نجدّ في انتقاده. إنّ ردّ تحدّي اللغات العالمية يحتاج إلى أكثر بكثير من الحماس والنوايا الحسنة.

ولكي لا نضع كامل المسؤولية في ذلك على الآخر (الأجنبي الغازي) تبرِئةً كاذبةً لأنفسنا، ينبغي لنا أن نتفكّر جيّداً في حراكنا الذاتي ومدى تأثيره على تغريب لغتنا. وعلينا أن نتذكّر أنّنا في شركاتنا الخاصّة كما في مؤسّسات قطاعنا العام، نتطلّب من العاملين ومن المتقدّمين لملء الوظائف، إتقان الإنكليزية كشرطٍ لازم. وفي ميادين أعمالنا يتبيّن أنّ إتقان اللغة الأجنبية هو ضرورة محتومة، ولاسيّما أنّنا، في مختلف مناحي العمل والوظيفة، نستخدمها، وليس العربية، ما يسهّل إدخال ألفاظ منها على لغة تَخاطبنا بالعربية.

ولعلّه من المناسب أن نبتدئ من هنا، مع ما سيعترضنا من مصاعب ومطبّات، لنفرض العربية لغةَ عملٍ وتعامل، مع تعلّم الأجنبية التي نجدها ضرورية من أجل التفاهم مع الأجنبي. ويقيني أنّ هذا لن يكون بالأمر الميسور كمثل الحديث عنه والمطالبة به. وهذا في حال نجاحنا به، لن يكون سوى اللّبنة الأولى في جدار عظيم يتوجّب علينا بناؤه.

المشكلة الأصعب تكمن في أنّنا نأنف أن نبني بأيدينا، ونفضّل ما نشتريه جاهزاً. هذا كان دأبنا وما يزال.

*كاتب من لبنان

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى