مأساة العراق: فقدان الهويّة وروح المواطنة
عندما شرعتُ في كتابة السطور الأولى عن التسامح والتعايش السلميّ في العراق، توقّفتُ مليّاً عند حقب التاريخ المعاصر، ولم أبتعد كثيراً حتّى لا أصبح ماضويّاً بعدما أصبحَ الماضي أجمل من الحاضر، وبدا الخوف من المستقبل في ثنايا الخوف من المجهول، في ظلّ غياب العلمية في تحديد مسارات حياتنا اليومية.
لم يكن الحديث في ثقافة آبائنا وأجدادنا في العراق عن التسامح المجتمعي الذي نطلبه اليوم بصورة الطوائف والقوميّات؛ وهذه الثقافة نجدها متجذّرة في المعاني التي ننتمي إليها (العربية والإسلامية). فمن شِيَم العرب التسامح والعفو والصّفح في أقسى النوازل، وهو موروث موجود حتّى جاء الإسلام ليُتَمِّم ويُهذِّب ما كان لدى العرب، ويُذيب الخلافات والعنصرية القبلية في بوتقة التعايش والتعارف. ونجد أنّ الخطاب القرآني لم يقتصر على المؤمنين والمنتمين إلى الإسلام، بل إنّه موجَّه إلى الكلّ، كلّ البشرية كما في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )، ولم يقلْ يا أيّها الذين آمنوا فقط. وكانت الآيات واضحة في أنّ التنوّع في الشعوب والقبائل، في اللون واللغة وغيرها، هو من الأمور التي تشكّل عنواناً للتعارف؛ وهو خير ردّ على دعاة التطرّف مهما كانت مسمّياتهم. بل إنّ من أسماء الله الحسنى (الرحمن والرحيم). فالأولى بمعنى الرحمة الواسعة التي تشمل المسلم وغير المسلم؛ أمّا الرحيم فهي الرحمة الواصلة التي تصل إلى المسلمين فحسب. ولسنا بمعرض الخوض في عمق التفسير والتبيان إلّا أنّ منازعات الذات التي يعاني منها المجتمع العراقي تتّكئ على الفحوى الديني الذي أُفرغ من محتواه إلى تأويلٍ فاسد يخدم مصالح الذي قدّموا الشعب قرباناً لبقائهم في بحر الفساد الكبير الذي يعصف في الدولة العراقية الحالية.
والمتعمّق في واقع المجتمع العراقي يجده يتراوح في موجات من اللّاتسامح مقترنةً بالعنصرية القبليّة والقوميّة، وفي الخلاف الطائفيّ المذهبيّ الذي يتصاعد تارّةً وينخفض تارّةً أخرى مع المتغيّرات السياسية والأمنية التي يمرّ بها العراق.
ولا نعدُ الحقيقة بالقول إنّ العراق لم يشهد في تاريخه مثل هذا الانقسام ومثل هذه الفوضى؛ الفوضى الخلّاقة التي جاء بها الأميركيّون مع الاحتلال في عام 2003. فبدلاً من تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّية، جاء التغيير بتوليفة سياسية عمَّقت جذور الاختلاف وغياب التسامح وانعكاس ذلك على التعايش السلمي. وكان تأسيس الحكومة العراقية الجديدة القشّة التي قَصمت المجتمع العراقي وعَملت على مبدأ (تفتيت المُفتَّت وتقسيم المُقسَّم)، وصولاً إلى المكنونات والمكوّنات، من خلال إقامة بنية الحكم على أُسس طائفية وقومية، وإن لم تُكتَب في الدستور، بحيث أصبحت هذه الأُسس عرفاً في قيام أيّ حكومة بعد الانتخاب. ولعلّ بادرة اختيار رئيس لمدّة شهر لكلّ مكوّن لا تزال راسخة في الذاكرة.
بعد هذا الاستهلال، نقول إنّ المجتمع العراقي كان يعيش نوعاً متجانساً من التعايش. وكانت المؤسّسات هي الحاكمة في تحديد مسارات الاختلاف إلى جانب المفردات المُسانِدة لحلّ الخلاف، متمثِّلةً بالعشائر والقبائل الكبيرة التي لها امتدادات من أقصى العراق إلى ادناه، معزَّزة بسيطرة الحكومة العراقية في ما قبل 2003 ولغاية حقب أبعد من تاريخ العراق المُعاصر.
غياب مفهوم التعايش
أمّا المؤثّر السلبي الذي اجتاح المجتمع العراقي، فقد جاء في مقاربة واضحة للعيان مع قدوم الأحزاب الدينية والأحزاب القومية. إذ اتّخذت هذه الأحزاب شعارات دينية وقومية عاطفية لجذب الجمهور واستقطابه عبر العبارات الناعمة ودَغْدَغة المشاعر التاريخية البعيدة، ولمنْع الأحزاب الأخرى التي تُعَدّ من الخصوم (أحزاب دينية تختلف في الطائفة أو المذهب وكذلك العلمانية) من كسب جمهورها. وبالعكس قامت تلك الأحزاب بمشروع خلق فجوة كبيرة نجدها تتّسع مع قرب الانتخابات، ومع أيّ أزمة سياسة، وتخفّ حدّتها مع التوافق في ما بين الكتل السياسية وغياب الدور المؤسّسي الحكومي في سدّ تلك الثغرات؛ بل إنّ التهميش والإقصاء والمعاملة غير المتماثلة والتمايز لهي أحد الأسباب المُوجِبة لغياب مفهوم التعايش، لأنّ الفكر الجمْعي يستجيب وفق الأداء الكلّي للحكومة، ولتوفّر البيئة السلبية. وبالتالي، فإنّ أيّ مقاربة لإعادة ثقافة التسامح ستكون غير مقبولة من الذين مسَّهم الظّلم وصولاً إلى فقدان المواطنة والانتماء، ومن ثمّ غياب الهويّة الكلّية إلى الهويّة الفرعية الدينية أو المذهبية أو القومية أو القبلية، وحتّى المَناطقية. وهذه الصورة السوداء ليست تعبيراً عن نوع من اليأس من الواقع بقدر ما هي تعبير عن واقع معاش تختلف مفرداته هنا وهناك.
إنّنا اليوم نعيش في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين الذي جَعل العالم قرية صغيرة عبر الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) والعولمة المُستدامة، وبالتالي، فإنّه من البديهي لكلّ مَن لديه وعي، أنّ هذا التطوّر والتقدّم التكنو- معلوماتي الكبير سوف يُحدِث تقارباً وتفاهماً أكبر في مجتمعاتنا بسبب سهولة الاتّصال والتعرّف إلى ثقافات الآخرين وقبولهم كما هُم. أمّا العراق، فيبدو أنّه، كما قال “بوش الأب” إبّان حرب الخليج الثانية، “إنّنا سنجعل منه متأخّراً لقرون في المادّة والفكر”، يعاني من الانحدار والانكسار الذي نعيشه، فضلاً عن كونه مبعثاً مستمرّاً للقلق. فبدلاً من استغلال الموجات التكنولوجية في التقدّم والتطوّر واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي وتسخيرها للتقارب، أصبح منبراً للتهجّم وتعميق الاختلاف والصراع بالاتّجاهات كافّة، حتّى أصبح المجتمع الافتراضي يُطابق المجتمع الحقيقي.
وفي الوقت نفسه، غابت عن أذهاننا جدلية المؤامرة التي تؤكّد أنّ المعطى الأوّل لاكتشاف الحقيقة هو المستفيد الأول من تلك المشكلات التي اتّسعت رقعتها إلى أبعد من العراق، إلى البلاد المجاورة في البلدان العربية التي شهدت تغييراً جذرياً تحت ما يسمّى بالربيع العربي؛ ولم نعِ أنّ الجهة التي تَنعم بالأمن والاستقرار على حساب تماسكنا المجتمعي قد تكون هي مَن يقف خلف الكثير من الصفحات المحرِّضة على الاختلاف. فكتابة عبارة على “الفيس بوك” أو “التويتر” أو “اليوتيوب” تنتقِص من مقدّس أو مكوّن لهي بداية الشرارة للتخندق الذي يسفر عبر التكرار إلى غلق بوابات العقل الباطن للفرد على مضامين سلبية تُحدّد أفعاله في المجتمع الواقعي وبالتالي ازدياد الشرخ وصولاً إلى غياب التعايش السلمي الذي ترنو إليه كلّ الفئات والطبقات المجتمعية إذا ما تحلّت بالحُلم في الغاية التي نحتاجها في المجتمع العراقي بصورة خاصّة، والمجتمع العربي بشكل عامّ. واذا ما تقدّم الحلم والحكمة فإنّنا نقف على حقيقة مهمّة وهي أنّنا أصبحنا، كأفراد في المجتمع، وسيلةً لأجندات قد تكون أبعد ممّا نؤمن به أو نعتقد لصالح دول مستفيدة وحركات راديكالية أخرى مدعومة لتحقيق مصالحها الحيوية. وهذا وإن دلّ على شيء في العراق، فإنّه يدلّ على غياب الإرادة الوطنية التي تُعدّ المفتاح الرئيسي لقياس قوّة الدولة داخلياً وخارجياً.
وبعد استعراض مقتربات الخلل، فإنّ الحكمة والعقل والمنطق تغدو هي السيّد في تقديم وصفة واقعية للعلاج. وبما أنّ المصلحة الإنسانية تقتضي أن يكون العفو والصفح وكلّ مفردات التعايش عنواناً لثقافة الاستقرار والأمن التي يبحث عنها بنو البشر منذ التشكيلة الأولى للتجمّعات البشرية، فإنّه من المهمّ الوقوف على مكامن الخلل لكي يسهل العلاج والوقاية؛ ولعلّ أهمّ النقاط التي تقف عائقاً أمام الطموح الذي نسعى إليه:
الماضوية: العراق مجتمع قليل التنوّع (مقارنةً ببلدٍ كالهند مثلاً، يحتوي على أكثر من 5000 تنوّع إثني وعرقي ومذهبي، فيما لا يحتوي العراق سوى على ثلاثة مكوّنات رئيسة وأقلّيات يمكن أن نحصيها بعدد أصابع اليد). فالعراق بلد كثير الاختلاف لأنّنا شعوب ماضوية تتقاتل على أحداث تاريخية تقف عائقاً أمام الحاضر وتشكّل خطراً على المستقبل.
غياب الثقة: إنّ بناء الثقة المجتمعية بالحكومات هو مهمّة غير صعبة، لكنّها تتطلّب إرادة حكومية حقيقيّة تعتمد على أُسس متينة تتفاعل ما بين البنى المؤثّرة، والفواعل المجتمعية المؤثّرة التي لها مقبولية لتحقيق التماسك الاجتماعي.
الانغلاق الفكري: إنّ الانفتاح الفكري في قبول الآخر هو مرتكز للتعايش السلمي؛ وهذا الأمر يتطلّب ضبط المنافذ الفكرية الدينية والثقافية، وذلك عبر مختلف الآليات الناعمة، من إعلاميّة ومعلوماتيّة وقيميّة.
غياب المشتركات: إنّ من أهمّ الطُّرق في تحقيق التسامح، هي تفعيل المشتركات التي تجمع ولا تفرّق على أساس اللغة أو الدين، والتي تتفّق عليها الأكثرية، من دون الخوض في تفاصيل الاختلاف.
ضبابية الانتماء: إنّ فقدان الهويّة وانعدام روح المواطنة، هي من أهمّ العوامل المأسويّة التي يعيشها العراق؛ ولا يمكن إعادة تلك الروح من دون مأسَسة الدولة على قواعد المساواة بين الجميع، بعد أن تحوّل العراق من الجغرافية إلى التاريخ، ولم يتبقّ سوى الاسم، وذلك بعد احتلال أكثر من ثلث مساحة العراق من قبل تنظيم “داعش” للأسباب السالفة الذكر.
*كاتب من العراق
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)