ماذا بقي لكم من سوريا غير العنف؟ (سوسن جميل حسن)

سوسن جميل حسن

 

شهر من الزمن ليست فترة كافية لأقول إنني عشت في الغربة وفي الواقع أنا في إجازة أو زيارة لألمانيا ليس أكثر، لكن هذه الفترة رمتني بأسئلة جديدة إضافة إلى الكم الكبير من الأسئلة التي تشغل بالي وبال أكبر عدد من السوريين. حتى ان الغربة لم تعد تعني تلك الحالة المترعة بمشاعر الحنين والمشاعر المختلطة الأخرى التي تلبس الإنسان البعيد عن أهله وموطنه فقط، بل أظن أن أي إنسان في سورية، عدا قلة ممن يمسكون بالوضع الميداني ويوجهون المصير، كل بحسب أجندته وأهدافه، يعيش غربة قاتلة واغتراباً عن واقع لم يعد يفهمه أو يشعر بالانتماء إلى زمن استأثر به.
لم تعد صدمة الحضارة، كما كان يطلق على تلك الحالة التي تستبد بفرد قادم من بلاد ما زالت تعيش في ظروف اجتماعية واقتصادية وإنسانية وسياسية صعبة ومنغلقة، إلى بلاد تبدو عليها أمارات الرفاه وسهولة الحياة وسيادة القانون وبالتالي على شوارعها وعماراتها ووجوه المارين في شوارعها. لم تعد هذه الصدمة ذات قيمة في عصر الاتصالات وسهولة التواصل وانفتاح البشرية بعضها على البعض، إنما صدمة الجمال الإنساني والكرامة الإنسانية المصانة في تلك الدول التي تصنف بأنها متقدمة.
في كل لحظة في برلين، وقبلها في باريس، هناك ما يستدعي قرينة تزيد في شعوري بالحزن والخيبة والقلق على مستقبل ينتظرنا. بتنا عاجزين عن استشراف ملامح، تحمل معها بصيصاً من نور، بعد أن صارت الزاوية تزداد اتساعاً بين ما كنا نحلم به، وهو يشبه إلى حدّ كبير هذه الأمارات المشبعة بالسكينة والشعور الآمن والإشراق التي يلحظها الوافد إلى تلك البلاد، وبين ما وصلنا إليه في سوريا، بعد هذا الكم الهائل من النزيف البشري والعدد المريع من الضحايا والقدر الكبير من الانهيار للأبنية وبنى الدولة والمجتمع.
في برلين ليس هناك مشكلة مع البرد والثلوج، كل تفاصيل الحياة مجهزة بشكل تجعل الناس يتابعون حياتهم برغم البرد والثلج، لكن آلافاً من السوريين في مخيمات اللجوء يصارعون الموت القادم إليهم بجبروت الطبيعة عندما تغضب، ومن بقي منهم داخل البلاد يموت بطرق عديدة، فليست البراميل الهابطة من السماء التي طيروا إليها أحلامهم، ولا رصاص القناصة المختبئين بين المرء وظله، ولا راجمات الصواريخ ولا مدافع الدبابات ولا السيوف المشحوذة بنزعة الحقد المقدس، ولا كل هذا وحده من يجلب الموت إلى السوريين، فهذا موت مترف، هناك الموت البطيء الذي يضيق الخناق على الرقاب الى حدّ انخطاف الروح ثم يفلتها منتشياً بمشهد الذعر في العيون، هذا الموت اليومي على مدار الساعة معززاً بمشاهد القتل المريع والأعضاء البشرية المتطايرة والأخبار الممنهجة والمحطات الإعلامية المجتهدة في الشأن السوري ومشاهد الفيديو المشغولة لتفعل أكثر من السم في النفوس، وانسداد الآفاق كلها أمام الشعب، كل هذا يجعل من الأزمة السورية أزمة تدخل في طور الإزمان مثل دمل مغلق على الصديد ينخر في الأجساد والأفئدة.
هل مضى وقت الإصلاح؟ ألمانيا نهضت من الحرب العالمية مدمرة على جميع الأصعدة، عمراناً وتعميراً وبنى تحتية واقتصاداً وبنى اجتماعية، نهضت من ركامها لتصبح خلال عقود صاحبة اقتصاد من أقوى اقتصادات العالم إن لم يكن أقواها. ألمانيا اليوم لا تتعدى نسبة البطالة فيها السبعة بالمائة من تعداد سكانها، وتسعى لأن تنخفض هذه النسبة. في ألمانيا يواجه مكتب المستشار مقر انعقاد البرلمان ليتذكر دائماً أن هناك شعباً يحاسبه، ويقع مكتب رئيس البرلمان مقابل مكاتب الأعضاء ليتذكر في كل لحظة أن القرار ليس قراره بمفرده بل هو قرار يصوت عليه النواب. في ألمانيا هدم جدار برلين منذ ما يربو على العشرين عاماً، وزرعت في مواقع عدة مكانه لوحات نحاسية تحمل أسماء أناس قضوا من أجل حلمهم وهم يحاولون اجتياز الجدار والتسلل منه من جانب إلى جانب في برلين المقسومة نصفين. واليوم هناك معبر يقف عليه جنود بلباس الجنود السوفيات يختمون للمارين من بوابته التي لم تعد تعني أكثر من تشكيل عمراني يشير إلى تلك الفترة، يختمون لهم جوازات سفر خلبية. أينما مشيت في برلين تشاهد تلك النصب المزروعة في الأرض تحكي قصص ألمانيا قبل أن تنهض من ركامها لتجعل التاريخ الذي تعتبره ابتدأ من المرحلة التي تلت الحرب، ماثلاً أمام الذاكرة كي لا تنسى عِبر الماضي.
فلماذا تمشي الحياة إلى الأمام هناك ونتخلف نحن عن ركبها؟
وفي ألمانيا، كما بقية الدول المندفعة إلى الأمام في ركب التطور، طلاب الجامعات هم ركيزة التطور وهم الطاقة التي يعتمد عليها ويعنى بها وتلقى بين أيديها مسائل التحديث والابتكار لأنهم يقدرون أن هذه المرحلة العمرية هي مرحلة الخلق، بينما تقصف جامعاتنا كما جرى في حلب، وليست هي المرة الأولى، فقد طال القصف جامعاتنا قبل الآن وطال القنص والاغتيال مجموعة من شبابنا المبدعين في مجالات شتى ليس آخرها الرياضة. وإذا استرجعنا مشاهد القصف والمجازر التي جرت حتى الآن نجد حجم الاستهداف الذي يطال الأطفال والنساء بما يحملون من طاقة كامنة للحياة، ومن بقي من شباب الوطن إما يساق إلى الاحتياط وإما يساق إلى القتال في فصائل المعارضة المسلحة، أما من استطاعوا الهرب فلم يقصروا في ذلك.
كلما طال أمد الأزمة واشتد العنف الممنهج كلما فرغ الوطن من شبابه ومن نخبته ليبقى رهينة الطغيان بكل أشكاله والذي يثبت ركائزه بتغييب العقل وشل التفكير.
أين هم مثقفو الوطن مما يجري؟ لماذا باكراً اصطفوا في هذا الطرف أو ذاك؟ هل مطلوب من المثقف دور سياسي أم أن يقف إلى جانب القيم الكبرى ويدافع عنها ويوجه خطابه التنويري إلى المجتمع؟ نحن شعب لا نريد أكثر من حقنا في الحياة الكريمة الآمنة التي نعيش فيها مواطنين في دولة تقوم على القانون وتساوي بين رعاياها ويشارك الشعب فيها في صنع قرارات وجوده ومصيره، لماذا لا يقف المثقفون في موقعهم الخاص وينظرون بعين النقد إلى كل ما يجري؟ لماذا لا يصرخون في وجه الأطراف المتناحرة كي يرفعوا أيديهم عما تبقى من الوطن والمجتمع؟
كلهم تكفيريون ويقيمون الحد على من يقول لهم لا، لكن لا بد من دفع الثمن في المكان الصحيح، وليس برخص كما يدفع الشعب. لن نقوم من محارقنا إذا لم نراجع تجاربنا، حتى والحريق يشتعل. علينا ألاّ نترك شعبنا تحت رحمة الجهات المرتهنة لأجندات، آخر ما تفكر فيه هو مصلحة الشعب، والدلائل كثيرة، من نظام ما زال مصراً على الحل الأمني بعد كل ما جرى ويجري، ومعارضة استمرت تغذي خلافاتها حتى قدمت الشارع الذي يبحث عن حريته وكرامته وإرادته لجهات سلفية متطرفة صارت هي المتفوقة على غيرها في تنظيمها، وقوتها فجعلت العالم المعني بأزمتنا لأجل مصالحه يزداد انكفاء عن المساهمة في الحل بحجة الإرهاب، وكل ما يجري في سوريا هو الإرهاب بعينه. علينا ألاّ ننتظر بعد الآن، فلن يحل أزمتنا، التي تزدادا تعقيداً وتبهظ فاتورتها كلما طال عمرها، غيرنا نحن أبناء هذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه، فلنقف ونتأمل عشرين شهراً مضت وما ترك العنف وراءه في وطننا.

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى