ماذا تبقى من دمشق
الأحياء من سكان دمشق القدامى وحدهم يفهمون لماذا اخترت لخاطرتي هذه عنوانها بهذا السؤال الموجع عن دمشق..و أنا … بالرغم من أنني لست منهم فقد عاشرت بعضا منهم و عاصرت بعضا من جماليات دمشق التي كانت دوما و مازالت حاضرة مثل نهربردى بكامل مياهه التي كنا نسبح فيها و مياه الفيجة الصالحة للشرب و الموزعة على جميع المنازل و الشوارع العامة من خلال حنفيات السقيا، و من الأشجار المتنوعة بكثافة منظمة على الشوارع و الساحات و الجدران ، و من الغوطة كجنة خضراء تحيط بالمدينة إلى مسافات بعيدة و نظام الترامواي الكهربائي التي كانت خطوطه تمتد حتى دوما و عربات الخيل لتيسير التنقل بين الحارات و غيرها من الخدمات الشعبية … فإذا أوغلنا أبعد في تاريخ المدينة و قرأنا بعضا مما كتبه الرحالة و الجغرافيون عن محاسن دمشق أدهشنا حقا ما كانت تتميز به المدينة من مزايا و إليكم بعضا منها :
يقول “الأصطخري” في كتابه :”المسالك و الممالك” : ( و هي أجمل مدينة بالشام كلها …في أرض واسعة و بين جبال تحيط بها مياه كثيرة و أشجار وزرع متصلة و تسمى تلك البقعة ” الغوطة” و يجري فيها نهر عظيم أجراه يزيد بن معاوية بعرض “الدجلة”) و يقول “المهلبي” و هو جغرافي عاش في ظل الفاطميين 🙁 و بظاهر دمشق وادي البنفسج و نهر بردى يشقه و لاتصل الشمس إلى أكثر أرضه إذ كلها بنفسج متشح بعضه ببعض..) و يقول” المقدسي”:
(( و هو بلد خرقته الأنهار وأحدقت به الأشجار و كثرت به الثمار مع أرخص الأسعار…لا ترى أحسن من حماماتها و لا أعجب من فواراتها و لا أحزم من أهلها ..)) و يقول “القزويني” :(( و أهل دمشق أحسن الناس خلقا وزيا و أميلهم إلى اللهو و اللعب بعد فراغهم من العمل حتى أخر النهار إذ يفيضون إلى الجوامع يصلون فيها المغرب)) و يروي الرحالة “ابن بطوطة” رواية طريفة عن نظام ” الأوقاف” في التعويض عن الأدوات التي تنكسر في الشوارع لحامليها و يضيف (( و من فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في رمضان وحده البتة فإنه يدعو أصحابه الفقراء و يفطرون عنده ..))
هذا قليل من كثير مما قاله هؤلاء الرحالة و الجغرافيون في وصف دمشق … فماذا بقي من كل ما وصفوه.
نهر بردى صودرت مياهه لسقيا البشر و صار مكانها مجرى للنفايات و الروائح الكريهة ، أما الغوطة فقد فقدت معظم أشجارها في هذه الحرب الضارية التي تعرضت لها و انقرضت العادات و التقاليد الإجتماعية الإنسانية مع الزحام و العلاء و التجاوزات على القوانين ، و غدت دمشق في سنواتها الأخيرة مدينة مخيفة يتضخم فيها الزحام البشري باستمرار و يتكاثر الفضاء المعماري الكثيف و المتشابه كعلب الكبريت المزدحمة بالعيدان.
بلى.. بقي المسجد الأموي، و سوق الحميدية و مدحت باشا و قليل من الحارات العريقة في القدم و لكن هيهات ..لقد فقدت دمشق خصوصيتها الشامية الأصلية ، و لم يعد لها الحق في أن تسمى دمشق!..