ماذا تبقّى من عبد الوهّاب البيّاتي؟
إذا كان كثير من النقد الذي كُتبَ عن الشاعر عبد الوهّاب البيّاتي قد وضعه موضع “الحقيقة الشعريّة” القائمة بذاتها، فذلك متأتٍّ من أنّ “الحركة اليساريّة العربيّة” وجدتْ فيه نموذجاً مثاليّاً للدفاع عنها، والترويج لشعاراتها، لا لأفكارهاـ وهو ما قام به على “الوجه المطلوب” في غير عملٍ شعريّ له من بعد “أباريق مهشّمة” (1954).
وكان لـ”نقّاد الحركة” دَورهم الكبير، والزائف، في هذا، عامدين إلى ما من شأنه “تزييف الوعي” بالحقيقة الشعريّة القائمة بغير ما كانوا يرون وله يُروّجون. وقد أدرك غير ناقد، وقارئ، في حينه، وندرك اليوم على نحو أوثق، أنّ “الخيط الواقعي” الذي عقد عليه نسيجه الشعري خيطٌ واهٍ ما لبث أن بانَ مبتوتاً بمجرّد تراجع الواقعيّة في الأدب والفنّ أمام الاتّجاهات النقديّة الحديثة.
واليوم، علينا أن نقرأ البيّاتي، كما ينبغي أن نقرأ سواه، قراءة ثانية تتجرّد من كلّ نزعة مذهبية، أو منظورات زائفة. لا بدّ من مُقابَلة الشعر بالشعر من حيث هو فنّ، ورؤيا، وتجربة. وفي هذا أجدني أذهب إلى أنّ البيّاتي لم يخطّط لمشروعه الشعريّ، وإنّما كان ما تحقّق له/ ومنه في مدى نصف قرن، محكوماً بالمُصادَفة، أو هو استجابة مباشرة لما كان يشيع على الساحتَين الثقافية والسياسية.
ولنتابعه في مساره الحديث..
فقد رأى الدكتور إحسان عبّاس في عمله الشعري التجديدي الأوّل “أباريق مهشّمة” (1954) قفزة ذروية جريئة، وبحثاً “عن الرمز الذّاتي- الجماعي، أو (الرمز الكبير)”، وهو وحده “العامل المُسيطر على طبيعة البيّاتي وعلى شاعريّته وشعره”. إلّا أنّه سيجده في دواوينه الأربعة التالية على هذا العمل الذي احتفى به “كمن بذر بذوراً كثيرة، ثمّ استعجل نموّها ونماءها في اشفاق المزارع البسيط ابن الأرض الطيّبة”؛ فـ “في بعضها ضاعت صورة البحث عن الرمز الكبير، وفي أكثرها تضاءلت الخطوات الذاهبة في الاتّجاه العمقي (…) نحو أغوار الفكر، المتأمّل في طبيعة الموقف الإنساني” (نقلاً عن كتاب “مَن الذي سرق النار” لإحسان عبّاس)
وإذا كان قد وجده في “سِفْر الفقر والثورة” (1964) ” ينتقل إلى صعيد جديد”، فإنّه في الوقت نفسه، تخوّفَ “من النقلة الجريئة”، إذ إنّه، بحسب رؤيته النقدية، لم يفعل أكثر من تغليف ما أخذه عليه بـ”أثواب جديدة”.
غير أنّ ما جاء ليبشّر بـ”ولادة ثانية” هو عمله الشعري الذي كتبه من بعد عودته إلى بغداد العام 1970، وهو “قصائد حبّ على بوّابات العالَم السبع” (1971) الذي سيرفده بـ”الكتابة على الطين” (1980)، ومن بعدهما “بستان عائشة” (1989)..
ولكن، لا أدري لِمَ كان يسدّ أمام نفسه أبواب كلّ رؤيا جديدة يبلغها. فقد كان كلٌّ من هذه الأعمال يهجس بتحوّل، ويعكس، في غير جانب منه، وعياً شعريّاً على شيء من الاختلاف، إلّا أنّنا نجده يخذل ما سبق وكتب في ما له من تطوّر واختلاف بالخروج على “نمطه المتداول” الذي لم يتعدَّ تعبيره فيه حالته النثرية التي لا شعرية فيها ولا فنّ يحكم القول منه، وقد قال:
“أهكذا تمضي السنون/ ويُمزّق القلبَ العذاب (…) نذوي كما تذوي الزنابقُ في التراب”
وكان السيّاب قبله قال في إحدى قصائد حقبة المرض:
“أهكذا السنون تذهبُ/ أهكذا الحياةُ تنضبُ؟/ أحسّ أنّني أذوب أتعبُ/ أموت كالشَجَرْ”
ويصل إلى نثرية عادية من حيث التعبير والتركيب اللّغوي، كما في قوله:
“وأعذبُ أغانينا هي تلك التي تتحدّث عن أشدّ أفكارنا حزنا”.
وإذ نصل إلى ما كتبه الدكتور إحسان عبّاس منتصف ستينيّات القرن العشرين عن “الصورة الأخرى في شعر البيّاتي”، لا نجد كلّ ما جاء فيه متحقّقاً في شعره، وإنّما لنا أن نعدّه من قبيل المحاولة المندفعة بالحرص على مستقبل شاعرٍ كان أوّل المبشّرين به، لفتح أبواب أخرى للرؤية/ الرؤيا الشعرية أمامه، كمَن يأمل منه أن يبلغها فيدخل منها إلى ما يكتب، وعلى وجه خاصّ ما أعطاه لـ”رموزه الجديدة” من أبعاد، معنىً ودلالةً، حتّى بدا وهو يُحمّله من ” أعباء الشعر” ما لا طاقة له عليه.. ومن ذلك ما وضع من “إبلاغات توضيحيّة” لا أحسب الشاعر أدركها، شعريّاً، على النحو الذي كان الناقد يرجوه.. فقد كان له “سياق عامّ” أخذ به نفسه، وبدا شديد الحرص على متابعته، أو، وهو الأرجح، أنّ موهبته وقدراته الشعرية تتوقّفان عند حدوده.
ولو تأمّلنا في الرموز التي خصّها الناقد بالذكر والتأكيد لوجدنا بينها رموزاً كبيرة الحضور، كثيفة المعنى ودلالة الوجود، مثل:المعرّي، والحلّاج، والخيّام.. إلّا أنّها تتحقّق عنده في “صورة أخرى” لا أجد حرجاً من وصفها بالسطحيّة. ولهذا أسبابه:
فهو من بعد “أباريق مهشّمة” سار بشعره سيراً أفقيّاً بدا معه وكأنّ ما يهمّه هو “التعبير” بأيّ صيغة جاء، لا “الفنّ” و”عمق النظرة” و”تكثيف التعبير”. ويبدو أنّ هذا التوجّه أثّر تأثيراً مباشراً على مساره الشعري. فهو، وإن حاول التفلّت من المباشرة والخروج من الشعارية إلى الشعرية، فإنّ ذلك لم يواته إلّا في قصائد معدودة، وإن تكن ليست بالكبيرة.. فقد تمادى في القول المباشر، والعادي، كما في قوله:
“سأدوس في قدمي/ دُعاة الفنّ والمتحذلقين (…) وأحطّم الأشعار فوق رؤوسهم”
هذا مع الشعراء المتجاوزين له، والنقّاد الذين لم يكونوا على توافق مع “نهجه الشعري”…فإن واجه خصومه من السياسيّين واجههم بتوعّد أبشع تعبيراً:
“إنّا سنجعل من جماجمهم/ منافض للسجاير”
ففضلاً عن انحطاط التعبير في قوله هذا عن أيّ مستوى إنسانيّ، نجده يعبّر عن وحشيّة بالغة وتوحّش. فهو في الفترة التي كتب فيها هذا كان “هائجاً سياسيّاً” يتصادى مع “غوغاء الشارع السياسي” في ما يقول.
من هنا تبدو الصعوبة التي واجهته في تجاوز تشكّلات “خياله” هذا في ما سيكتب، من بعد، وقد بلغ الأربعين من العمر. فليس من السهل “تنحيتها” من مجال القول، ولا الحدّ من عبورها إلى ما يقول ويكتب، سواء من حيث مستوى الرؤية أم التعبير.
هذا “الهجاء الهجّام”، على حدّ تعبير إحسان عبّاس، هو ما جعل كلماته “كلمات لا تموت”، لا بفصاحتها وفرادة ما تختزن من صُور التعبير، أو بما تحفر من عمقٍ دلالي، وإنّما بـ”فجاجتها السياسية“. فهو أقرب إلى “النقل الواقعي” لتعابير الغوغاء منه إلى “الصياغة الفنّية”. وحتّى في “الإشارات” التي يأتي بها من قبيل “الرمز”، تظلّ “رموزه” هذه لا تعدو كونها “تسمية” لا أبعد، إذ إنّه لا يتفاعل معها التفاعل الشعري الذي نجده عند شعراء التجديد، في ما يجعلون لها من كثافة المعنى وعمق الدلالة.. كقوله في قصيدة له عدّها بعض نقّاده “قصيدة متميّزة”:
“ضفادع الحزن في بحيرة المساء/ كانت تصبّ في طواحين اللّيالي الماء/ تُقارض الثّناء/ ما بينها وتنشر الغسيل في الهواء/ وتشرب الشاي، وفي المكاتب الأنيقة البيضاءْ/ والصحف الصفراءْ/ كانت تقيء حقدها على الجماهير، على المارد وهو يكسر الأغلال/ ضفادع كانت تسمّي نفسها رجال”.
وهناك ما وجد فيه إحسان عبّاس “إعياءً فنيًّا”، كقوله:
“قافية الهمزة كانت بغلةً عرجاء/ يركبها الأمير كل ليلة ليلاء”
وأمّا “استعاراته اللّفظية” فهي أكثر من أن تُحصى، وكان له أن بدأها في “أباريق مهشّمة”، فكشف عنها الشاعر كاظم جواد في مقال نشره في مجلّة “الآداب” العام 1955 مُقارعاً “التعبير المنقول” بـ” أصله المقول”.
.. لنجده، في الآخر، يصل إلى “عناوين الكُتب”، فيأخذ عنوان كِتاب خالدة سعيد “البحث عن الجذور” في قوله:
“يستقرئ الأرض ويمضي باحثاً عن الجذور”..
كما مع عنوان ديوان الشاعر فوزي كريم “حيث تبدأ الأشياء”، فيكتب في مطلع قصيدة له:
“أبدأُ حيث تبدأ الأشياء”.
وقد وصل الأمر إلى عنوان ديوانه “الكتابة على الطين” الذي هو “مقابسة نصيّة” من عنوان كتاب إدوارد كيبرا “كتبوا على الطين” الذي ترجمه محمود حسين الأمين، وصدر عن مكتبة دار المثنّى العام 1964.
وفي ضوء هذا، أجد غير يسير ممّا كُتب من نقد في شعر البيّاتي، أو نحى منحى الدراسة الموضوعية، بما في ذلك بعض ما جاء في ما كتبه الدكتور إحسان عبّاس عن “سِفر الفقر والثورة” و”الذي يأتي ولا يأتي”، وما بلغ فيه من “نتائج” أو قال من “أحكام إيجابية” لا يعدو كونه نتائج وأحكاماً افتراضيّة تصدر عن “أمانٍ شخصية” مُحِبَّة ومتطلّعة الى تنبيه الشاعر إلى ما عليه أن يُحقّق، وليست حقائق قائمة في ما قرأوه. ولكنّه، على ما يبدو، لم يُدرك المأمول، ولا بلغه، فظلّ الشعر منه كلاماً ميسوراً يقوله من دون أن يأبه للفنّ والمنظور الفنّي.
وفي سنواته الأخيرة، وقد وجد نفسه في حال تآكل شعريّ، عاد إلى النمط التقليدي للقصيدة، فكتب عدداً من القصائد العمودية، مُحاكياً في بعض منها “أنماطه” في ديوانه الأوّل “ملائكة وشياطين” (1950) الذي انبنى، رومانسيّاً، على الشكل التقليدي.
كان البيّاتي يتشبّه بـ”بروميثوس”. ولكنّه حين حَمَل النار منه أحرق الشعر، ولم يبلغ شيئاً من مبلغه الأسطوري.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)