كتب

ماريز كونديه: مستوطنة لفهم العالم

تغريد عبد العال

في روايتها «مستوطنة العالم الجديد» (1993 ـ صدرت أخيراً بالعربية عن «دار سرد»)، تؤسس الروائية الأفريقية من غوادالوب ماريز كونديه (1934 ــ 2024) صورةً مصغّرةً عما يحدث في العالم من صراعات وجدل. كأنّها تستعير تلك الخلفية الواقعية التي تحدث في الحروب والأزمات منذ زمن بعيد حتى الآن لبناء هذه المستوطنة، التي ستظلّ بالنسبة إليها كمختبر خيالي لما يحدث.

 

ولكن ربما نسأل ماريز كونديه: لماذا هي مستوطنة، وليس مخيماً، وخصوصاً أنّ كل الشخصيات قادمة من أمكنة أخرى، وكأنها فعلاً لاجئة. لكن ربما نستطيع رؤية الأشياء من معنى تقصده هذه الروائية التي يقارب عدد في رواياتها الاستعمار وما بعده. هي هنا تغوص عميقاً في معناه. واسم مستوطنة يأتي كتهمة لهذا العالم المحتلّ، وربما للعدو المستعمر، ويشبه ذلك إلى حدّ كبير ما يفعله العدو في إنشاء مستوطنات، حيث أن الأشخاص من جنسيات مختلفة. إلا أنّ الروائية تتناول الموضوع من زاوية خيالية كاختبار لمعنى العالم الجديد الذي وصلنا إليه، وربما حقاً العالم كما هو دائماً. هكذا يقوم أتون، وهو اسم إله الشمس عند المصريين القدماء، برحلة إلى كولومبيا، معتقداً أنه الإله شمس.

وسيقيم مع زوجته في سانتا ماريا حيث ستكون مستوطنة العالم، قبل الوصول إلى مصر. هكذا تبدأ كونديه، من لحظة تاريخ الآلهة القدماء ومن مصر الفراعنة، وصولاً إلى كولومبيا في أميركا اللاتينية، موطن السكان الأصليين، الذين أبادهم الأبيض المستعمر وأقام فوق حضارتهم إمبراطوريته.

سنكون هنا أمام مستوطنة تجمع ليس فقط الهويات والأمانة المختلفة، بل أيضاً الأزمنة: من الآلهة، إلى الاستعمار إلى الشيوعية وألمانيا النازية، فالشخصيات هنا أيضاً، حملت معها أزمانها.

كلّ شخصية هنا تحمل صراعاً قادماً من زمان ما ومكان ما، كأنّ الروايات التاريخية تحمل خيوطاً سردية، تتجمع هنا في قلب هذه المستوطنة، فتفكك الروائية كل هذه الخطوط لنتأملها جلياً ونبني تصوراتنا الخاصة حولها.

هكذا إذن، سنكون مع ذلك الصراع الديني عن وجود الإله، والتشكك بشأنه الذي يستمر حتى الآن. سنرى أيضاً شذرات من نقاش قديم حول الماركسية والليبرالية الذي استمرت عواقبه حتى الآن. ستعود أسئلة الاستعمار والإبادة. ومع وجود شخصيتين من ألمانيا، فإن الروائية، أيضاً تودّ احتواء الماضي الاستعماري النازي داخل «مستوطنتها».

وهنا بالطبع ستطفو على السطح أسئلة كثيرة تحاور فكرة «صياغة العالم روائياً». وهذا يأتي معاكساً بالطبع لفكرة الإمبريالية في صنع عالم جديد رأسمالي يخدم مصالح الإمبراطورية، حيث تحويل أراض كثيرة في بلادنا إلى مستعمرات أميركية.

الخيال يأتي محرضاً لفكرة انتزاع الهوية الحضارية من الشعوب، وهو أيضاً مهمة الروائيين والشعراء والكتاب والفنانين. صياغة العالم الروائي هنا، جاءت على شكل إصغاء لكل شخصية ومن أين أتت، إذ تتحول هذه المستوطنة إلى شحنة ذكريات تتقاطع مع رؤى مختلفة ومتناقضة كأن مهمة الروائية تكمن في ترتيب هذه المونولوجات والحوارات لتؤثّث سؤالنا الخاص عن عالمنا الغريب. وفي هذه الرواية، تتقاطع السياسة مع الفلسفة مع السؤال الوجودي العظيم وفكرة الاحتلال، ومسألة الدين، فلا تبدو الروائية هنا منعزلة عن الأزمات التي تحدث رغم توظيفات الخيال. وهنا ربما نتذكر ما قاله الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو حين كتب عن علاقة الرواية بالأزمات في نصّ من كتابه «الكاتب وأشباحه»: «ينقسم الفنانون إلى فريقين، إزاء الكارثة والمعركة، وفي خضم واقع يتصدع، وينهار محدثاً شقوقاً هائلة، أحدهما يواجه الفوضى صانعاً أدباً يصف وضع الإنسان وسط الانهيار والآخر ينسحب بدافع الخوف، أو الاشمئزاز إلى برجه العاجي، أو يفر إلى عوالم خيالية».

وهنا تبدو الروائية كأنها تواجه لتصف وضع الإنسان الممزّق، لكنها في الوقت عينه، تذهب إلى خيالها لابتكار شكل ما يستطيع أن يحاور الواقع، وهذا الشكل هو عالمها الروائي. هنا لا ترى أي شيء بصفته أزمة إنما كل شيء يعيش حياته كما هو ماضيه وتصوراته. لكننا نشعر أن هذا الوجود المتنافر هو بمنزلة أزمة، فكيف يمكن للماضي الأفريقي أن ينسجم مع الحاضر الأوروبي؟

صحيح أنّ لا إجابة تبدو شافية ونحن نقرأ، لكن يمكننا دائماً تصوّر أن كل ماض هو مكان بعيد وكل قصة إنسانية أو تاريخية حدثت في حياة هؤلاء الأفراد، إنما تؤثث لفكرة العالم الجماعي، حيث لا وجود للانعزال منذ اليوم. وهذا أمر ربما يختلف مع فكرة العولمة، فالعولمة تشير إلى حاضر مادي ومفتوح وتكنولوجي. أما الروائية هنا، فهي تطرح الفكرة في جوهر آخر هو أنّ العولمة هذه لها خلفية لا يمكن أن تنفتح بسهولة، وخصوصاً أن الماضي الاستعماري هو الذي يهيمن وما زال في عقلية الأفراد، وحتى ماضي الأساطير يتشابك مع السياسة. ولذلك فهي تسمّي هذه المستوطنة بالعالم الجديد الذي هو أيضاً لا يبتعد أبداً عن أنه قديم وقديم جداً.

هذه الشخصيات لاجئة من دون أن تذكر ماريز كونديه ذلك، فوجودها جميعاً في سانتا ماريا يقودنا إلى النظر في معنى الوطن. وهنا نعلم أنها فعلاً مستوطنة لأنها لا يمكنها التجانس ولا التفاهم بينها كأمكنة مشتتة لا فكرة واحدة تحررها من استبداد الماضي.

لهذا ربما سيتشكل كل شيء من القاع، من العودة إلى الأسئلة الحقيقية التي تشكل هذه الحروب والأزمات والإصغاء إلى هذا الآخر، لكن ليس للتماهي معه بل للنقاش حول جوهر الحرية والإنسانية التي يرفع شعارها العالم بأسره.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى