ماضٍ إلى الإقامة في التاريخ
محمد حسنين هيكل، تاريخ بلا ضفاف. يتسع لأكثر من نصف قرن عربي من «الجنون والوهم وأحلام المغامرين». ممتلئ بالوقائع والوثائق، قريب من الأسرار المكتومة والمعلومة، على مسافة حميمة مع صناع القرار، أو على مسافة متعمدة. ملم بتفاصيل الأحداث وخلفياتها ومقدماتها وتداعياتها. لم تبعده السياسة عن الصحافة ولا لجمته. لاعب في مسرح التاريخ، في زمن المد القومي والشعبي الناصري، لا يخشى رأياً يبديه، بل، مرغوباً كان، يأنس إليه القادة، قبل اتخاذ القرار. لم يكن كاتب السلطة، بل كان شريكاً بالرأي، وعندما يؤوب إلى مكتبه، كان قلمه سيده. وغالباً ما كان القلم والقرار، على ضفة واحدة. كاتب الرئيس، لا! كاتب مصر، في زمن «الريس» نعم. هكذا كان إلى أن انكسر التوازن، فحاولت السلطة أن تملي، ما يأنفه القلم. تشبَّث بحرية الرأي وحرية الكتابة، وكان الثمن باهظاً.
محمد حسنين هيكل، رجل تاريخ، ولم يكن مؤرخاً. أعداؤه، تكاثروا بعد عزله واعتزاله «الأهرام» التي أعطى فيها ثمانية عشر عاماً من شبابه وما بعد الشباب، راح يكتب ما عرفه وما كان شاهداً عليه. تكاثر خصومه بالأجرة. شنوا عليه عداوة عدوانية. شاهد التاريخ وزائره الدائم، اتهم بأنه مزور التاريخ. تلك فضيحة. اتهام بصدقية الرجل. محاولة لإخراجه من دائرة التأثير. تعمد وضعه في قفص الاتهام الأخلاقي، توطئة لدفعه إلى يد القضاء، ليحقق معه المدّعي العام الاشتراكي، كمجرم عادي… هذا زمن الأعداء.
غريب هذا الرجل، لم يشعر بالإهانة. انتصر عليهم بلامبالاته. يقينه: أن مزور التاريخ يقوم بتزويره لمصلحة حاكم أو لرضى سلطة. المصالح السياسية والدنيوية في قبضتهما. فالمصالح «عند الأقوياء الحاكمين وليست عند الضعفاء الموتى». ثم، إن هيكل لم يكن مؤرخاً ولا ادّعى ذلك، برغم أن ما كتبه كان وسيكون سنداً لكتابة التاريخ في ما بعد. لا مفر من شهادته. وهو أنكر على نفسه أن يكون مؤرخاً. ذلك أن الذين عاشوا وقائع التاريخ لا يستطيعون التأريخ لها، «لأن رؤيتهم مشوبة بتجربتهم الذاتية… ما يستطيعون تقديمه، هو شهادة للتاريخ وليس تاريخاً. ولقد خلص من تلك الواقعة بقول ختامي: «رويت وقائع ما عشت». وماذا لم يعشه هيكل: الثورة الناصرية، تأميم قناة السويس، التحوُّل الاشتراكي، حرب اليمن، الوحدة التي فشلت، النكسة التي قصمت ظهر الأمة، الثورة الفلسطينية، الغياب المفاجئ للقائد، الوراثة الصعبة، التركة الثقيلة، الطريق إلى حرب رمضان، الحرب بذاتها، وبعد ذلك، وقع الخلاف والطلاق بين صاحب الرأي وصاحب السلطة. وهو القائل، «هناك مسافة بين الرأي والقرار… الرأي حق لكل إنسان، القرار واجب ثقيل، يحمله الذين وُضعت فيه الثقة لتحمل المسؤولية»… وبعد الطلاق، تحوَّل العالم العربي إلى مسرح اللامعقول، حرب الخليج، ثم حروب الخليج، ثم المفاوضات السرية والعلنية مع إسرائيل، وصولاً إلى رماد الأمة في الحريق المشتعل، استجداءً للنهايات.
في خزانته تراث من الأحداث والوثائق. يكتب عن مصر، وعينه على أميركا يجس نبض السوفيات، يتساءل عن مواقف إسرائيل ومكاسبها، يشيح ببصره عن أفريقيا. هو كاتب بأجهزة لاقطة متعددة، منضوية في وعيه وتجيب عن أسئلته. فـ «بصراحة»، لم تكن كتابة صحافية عادية وتقريرية، بل معظمها، جاء مثقلاً بالأسئلة وهموم المرحلة وتوقعات الأحداث وكيفية تصرف أولي الأمر في السلطة. وتقرأ مفتوحة على معرفة الكاتب بما يدركه من خفايا وقرارات وإرادات السلطة. هي الكتابة المسؤولية، وليست المسؤولة، والتي تسمى الكتابة التاريخية.
محمد حسنين هيكل، تاريخ بلا ضفاف. ومن يدخل التاريخ مثله، بجدارته واحترامه وخشوعه للوقائع، لا يستطيع أحد إخراجه منه. من يتطفل ويقحم نفسه في التاريخ، بلا مؤونة ولا جدارة، يتكفل التاريخ ان يلفظه بسرعة. وغالباً ما فعل ذلك. من نسيهم التاريخ أكثر من الذين حفظهم. هيكل، «زائر التاريخ»، هو في مكان إقامته. في التاريخ كان وفي التاريخ سيبقى. آثاره المكتوبة تشهد على قرن عربي إقليمي دولي، مسجل بدقة العارف والمحلل. صوابه لنا وأخطاؤه عليه. وكان يتقبل ذلك برحابة النقد، كان التقاؤه بعبد الناصر، مفترقاً في حياته. قيل، إنه قلم «الريس»، وكان ذلك ظالماً لهيكل. معضلة الصحافة والسلطة أبدية، قلما تنجو الصحافة من تسلط السلطة. بين عبد الناصر وهيكل، توأمة. مشاركة بالرأي والتحليل والمعلومة، أما القرار، فناصيته معلقة بإرادة الحاكم. المسافة الفاصلة بين الإثنين، كانت مبنية على التواصل والاحترام والدقة والمسؤولية. لا هو كان عقل عبد الناصر، ولا كان مجرد قلم مستكتب عنده. كيمياء ؟؟؟؟ والحلم، أكملا صورة المثنى: عبد الناصر هيكل.
بعد عبد الناصر، جاء خريف الخلافات. الحاكم الجديد، يثبت جدارته بتفرده. يؤكد على أنه ليس نسخة عن عبد الناصر، بتبديل التقليد واللغة والمعاني. لم يعد هيكل داخل الهيكل إلا شكلاً. هو قال في ما بعد «كنت واحداً من اللاعبين، عندما كانت المنطقة مسرحاً للتاريخ. خرجت منها عندما أصبحت مسرح عرائس». اختلف مع السادات حول «سنة الحسم» وطريقة «إبعاد السوفيات» وكيفية معالجة «الفتنة الطائفية» وأسلوب تعامله مع شباب الجامعات والمثقفين الذين تعرضوا للمحاكمات والسجن. اتهمه السادات بأنه يريد فرض رأيه عليه. وبعد «حرب أوكتوبر»، وكتابة هيكل سلسلة مقالات تسائل هذه الحرب وما نتج عنها وكيفية إدارتها وأبعادها، تحوَّلت ظنون السادات إلى شكوك وغضب، فأخرج هيكل من «الأهرام» وعُزل عبر ترقيته إلى مستشار الرئيس مع محاولة إقناعه بأنه سيكون «كيسنجر بتاعي». غير أن هيكل، اعتصم بالصحافي، ولم تطأ قدماه قصر عابدين أبداً، ولما سئل عن الحدث من قبل صحافي بريطاني، قال هيكل: «استعملت رأيي للتعبير عن رأيي والرئيس استعمل سلطته».
كان السادات، كما تظن كل سلطة، أنها تستطيع أن تخنق حرية القول، عبر العزل والمحاكمة وتحشيد الصغار على الكبار. خسر السادات معركته. دخل هيكل السجن، ولكنه ظل ممسكاً بالتاريخ، يكتب أحداثه كما يراها، لا كما تملى عليه.
ذات محاولة، خيَّره السادات، إذا أردت العودة إلى «الأهرام»، إلى أي موقع، فسيكون لك ذلك. بشرط واحد، أن تلتزم.
لم يلتزم.. ظل حراً… وعاش عمره كما يريده ويختمه كما يشاؤه. هل كان بلا أخطاء؟ متعة الاكتشافات، أن تجول في ما كتبه، وأن تشعر، أنه لا يلزم قارئه، إلا بالوعي.
هل كانت «البروباغندا» جزءاً من مهمته؟ أحياناً. وتحديداً في زمن المعارك.
انتهى زمن المعارك. الرجل، تاريخ في التاريخ. سيقيم فيه كثيراً وطويلاً. وزواره، في آثاره، سيتعرفون على التاريخ الحي، كما كتبه، وأحياناً كما فهمه، محمد حسنين هيكل. الذي صنع بقلمه شخصيته الفذة.
صحيفة السفير اللبنانية