ما أصعب أن تكون هنا وما أصعب أن تكون هناك
قال وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، إثر الفاجعة المتمثلة في غرق أحد مراكب الهجرة السرية على السواحل الجنوبية التونسية ” سأتحدث إلى نظيري التونسي حول وجود المهاجرين التونسيين غير الشرعيين، إذ لا يبدو لي أن هناك حروبا أو أوبئة أو مجاعات في تونس”.
كل شيء يكاد يثير المفارقة والالتباس في تونس، فحتى الهجرة السرية، لم تعد هجرة بالمفهوم الاصطلاحي المتعارف عليه أي ذلك الانتقال الطوعي أو القسري لأفراد أو جماعات من موطنهم الأصلي إلى مكان آخر، والاستقرار فيه بشكل دائم أو مؤقت بحثا عن مستوى أفضل للعيش والسكن والأمن، ذلك أن أفضلية ” العيش والسكن والأمن” أمر لا يتوفر في أغلب الأحيان بالنسبة لمن يعرف الظروف التي يعيش فيها هؤلاء المهاجرون في الضفة الشمالية من المتوسط. كما أن صفة ” السرية” المعطاة لنوعية هذه الهجرةـ تبدو بدورها غير واضحة إذا ما علمنا بأن أمورا واتفاقيات كثيرة تتم في العلن، وبتواطؤ واتفاق كاملين من أطراف داخلية وخارجية، مدنية وأمنية وسياسية، فاعلة ومؤثرة في هذه الهجرة شبه السرية.. بما في ذلك أصحاب المراكب المتهالكة التي يؤجرها أصحابها للمتاجرين الجدد بالبشر في عرض البحر المتوسط.
المتابع لحيثيات وتطورات حادثة غرق مركب المهاجرين السريين على سواحل جزيرة قرقنة التونسية، ليلة الأحد الماضي، تألّم لفداحة ما حصل بطبيعة الحال، وربما ذرف بعض الدموع لحصول هذه الفجيعة في شهر رمضان، وما يمثله من خصوصية روحانية واجتماعية، بالإضافة إلى أن المخاوف والتوجسات المتعلقة بهذا الشهر، مصدرها بالعادة، الإرهاب وليس التهريب، لكن هؤلاء المتألمين الآن لهول ما حدث، سوف ينسون، كما نسوا في الماضي القريب والبعيد مآسي هذه الهجرة نحو الجحيم، وربما سوف يلتحق بعضهم بمراكب الهجرة المتهالكة، و” يجرب حظه” في الوصول إلى هناك، أرض تحقيق الأمنيات وفق ما أراده ونسجه وأوهم به شعوبهم، حكام الضفة الجنوبية مع حكام الضفة الشمالية على حد سواء في التاريخ القديم والحديث.
وعلى الرغم من أن المحللين والدارسين يربطون ربطا عضويا بين حالتي الإرهاب والتهريب، إلا أن الجثث المشوهة أو المتفحمة في العمليات الإرهابية، أقل تراجيديا من تلك التي تنتهي متفسخة على الشواطئ أو طعاما للأسماك في أعماق البحر، ذلك أن أصحاب هذه الجثث قد فكروا وقدروا ثم قرروا الذهاب نحو مصائرهم فإما على اليابسة أو في الماء. أما “الجثث” التي قدّر لها أن تنجو بما يشبه الأعجوبة و” يؤجل دفنها”، فإن الكثير منها تعاود الكرّة مستفيدة من ” قوانين وعلوم الإحصاء ” كما قال أحد المعلقين، ذلك أن العابرين إلى الضفة الأخرى، هم عادة ـ وفي مجملهم ـ أكثر نسبيا في العدد ممن منعهم الغرق أو حتى خفر السواحل من الوصول ثم أنّ ليس لدى هؤلاء ما يخسرونه غير هذا الكم الهائل من الإحساس بالإحباط واللاجدوى.
هذا المشهد الذي يتفق الجميع على قتامته وتراجيديته، وتتبادل كل الأطراف حوله الاتهامات وما تنفك تحمّل المسؤوليات، هو أمر سهل وفي متناول الجميع بطبيعة الحال، خصوصا إذا دخلت الهجرة السرية معترك المزايدات الانتخابية لدى البلدان المصدرة والبلدان المستوردة بالتساوي، متناسين في ذلك ما يسقط بينهم من الضحايا في عمق البحر، وبصورة تكاد تكون شبه يومية.
إذا علمنا في إطار الهجرة السرية أو ّ غير الشرعية” كما يحلو للسياسيين توصيفها، بأن المسؤوليات يكاد يتقاسمها، وبالتساوي الشمال والجنوب، مع إمكانية ترجيح الضفة في صالح الجنوب على اعتبار أن الشمال لم يف بوعوده ولم يقم بواجباته في مسألة التنمية والاستثمار فيما يحفز الشباب على الاستقرار في بلدانهم، فإن الجميع ينسى أو يتناسى مسؤولية “الضحايا ” من الشبان المهاجرين سواء كانوا من المغرر بهم أو من المغررين بأنفسهم.
ينبغي أن نعلم بأن الهجرة نحو أوروبا بالنسبة للتونسيين على الأقل، ليست بالضرورة من أجل العمل وتحسين المستوى المعيشي، فبعض الشبان هجروا أعمالهم ووظائفهم ليعيشوا عاطلين عن العمل في أوروبا أو سعيا وراء الكسب السريع من خلال أعمال ونشاطات غير قانونية.
كثير من الشبان التونسيين الذي هاجروا إلى إيطاليا، وخصوصا الريفيين منهم، تركوا خلفهم من المشاريع الزراعية الصغيرة والمتوسطة ما يمكنهم من العيش الكريم فيما لو اشتغلوا وثابروا بمثل ما يبذلونه من جهد في إيطاليا، وضمن ظروف نفسية واجتماعية قد تكون أيسر وأفضل.
لا يمكن تصنيف هذا الهوس بالعبور إلى الضفة الأخرى لدى الشبان التونسيين إلا في خانة القلق النفسي والوجودي دون إسقاط الأسباب الموضوعية المعيشية التي غالبا ما يكتفي الدارسون بإقرارها دون غيرها.
إن إجراء مقارنة بسيطة بين الشبان التونسيين ونظرائهم من الأفارقة وحتى من مواطني شمال أفريقيا الأقرب إليهم، يجعل المرء يكتشف أن الحظوظ الموضوعية للتونسيين في الاستقرار ببلادهم وتحسين ظروف عيشهم، أوفر بكثير من غيرهم، بدليل أن محصول الزيتون في السنتين الأخيرتين مثلا، لم يقطفه غير أياد عاملة من أفريقيا، في حين يلتهي التونسيون في الحلم بالهجرة إلى أوروبا.