ما السر وراء المهرجان ـ الانطلاقة؟ (هاني المصري)
هاني المصري
توافد حوالي 500 – 700 ألف شخص، وفقًا لشواهد عديدة وشهود محايدين، إلى مهرجان انطلاقة «فتح»، انطلاقة الثورة الفلسطينية، بالرغم مما تعانيه الحركة من وصول برنامجها السياسي إلى طريق مسدود، في ظل تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان، وذوبان «فتح» في السلطة التي قدمت نموذجًا فاشلاً في الحكم، وما تعانيه من إهمال وتهميش وصراع وتنافس بين الأجنحة، خصوصًا في قطاع غزة، في ظل تداعيات فصل دحلان واستمرار تمتعه بتأييد قوي، وبالرغم من أن منافستها الرئيسية «حماس» تعيش ذروة صعودها بعد الربيع العربي، الذي شهد تقدم جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تعتبر «حماس» امتدادًا لها في فلسطين، وبعد الانتصار الأخير على العدوان الإسرائيلي الذي فتح لـ«حماس» مرحلة جديدة من الاعتراف العربي والدولي (وحتى الإسرائيلي).
إن مشاركة أكثر من 40 في المئة من عدد سكان القطاع، رقم هائل بكل المقاييس، وهذا فاجأ الجميع من دون استثناء، فاجأ «فتح» والرئيس، وفاجأ «حماس»، وإسرائيل التي عبرت عن صدمتها، لأنها اعتادت على الانقسام الفلسطيني الأسود، وعلى ادّعاء أن الرئيس لا يمثل جميع الفلسطينيين.
السؤال الذي يطرح نفسه هو ما طرحه يحيى العبادسة، النائب عن كتلة «حماس» البرلمانية، ما السر وراء هذه الحشود الشعبية؟ وذلك على خلاف ما ذهب إليه الكاتب إبراهيم حمامي الذي ضخّم بالأخطاء والفوضى والخلافات بين أجنحة «فتح»، ولم يمسك بمغزى ما يحدث أمام عينيه، وكأنه يريد أن يطوع الواقع وفق ما يتمناه، ويأبى أن يراه كما هو بالفعل.
إن التفكير يجب أن يتركز على أبعاد وأسباب ومغزى ما يمكن أن يكون انطلاقة ثانية للثورة الفلسطينية، أو يكون مجرد حدث عابر، مثل الهبة المماثلة التي شهدتها الذكرى الثالثة لرحيل الرئيس ياسر عرفات، في أواخر العام 2007، بما لا يخالف الاتجاه العام للأحداث الفلسطينية خلال السنوات العشر الأخيرة، الذي يؤشر إلى تراجع «فتح» والمنظمة، وتقدم الإسلام السياسي، وتحديدًا «حماس».
وفيما يلي اجتهاد شخصي حول أسباب المهرجان الانطلاقة:
أولاً: إن المرء لا يستطيع تفسير كل هذا الزخم الشعبي إلا كنوع من الوفاء من الشعب الفلسطيني لحركة «فتح»، نظرًا لما تمثله في الوجدان الوطني، وفي التاريخ الفلسطيني المعاصر، فهي أول الرصاص وأول الحجارة، والأهم أنها هي من التقطت اللحظة التاريخية في أهمية مبادرة الشعب الفلسطيني للدفاع عن قضيته بنفسه، من دون انتظار المارد العربي أو الإسلامي أو الأممي، فـ «قيامة الفلسطينيين» مقدمة لـ «قيامة العرب والمسلمين والأحرار» في العالم كله.
واللافت إيجابيًّا أن موسى أبو مرزوق عبر عن هذه الحقيقة بقوله: «إن ما جرى يعكس وفاء الشعب الفلسطيني للحركة التي فجرت الثورة وقدمت آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الأسرى والجرحى»، فالشعب عاقب «فتح» عندما استحقت العقاب وكافأها عندما وجدها بحاجة إلى الثواب.
ثانيًا: لا يمكن تفسير ما حدث إلا كنوع من الرد الشعبي على السياسات والإجراءات الاحتلالية الإسرائيلية العنصرية، التي وصلت ذروتها في ظل السياسات الإسرائيلية المحمومة لتطبيق المخططات الرامية إلى توسيع الاستيطان، واستكمال تهويد القدس وأسرلتها، وقطع الطريق على تحقيق أي من الحقوق الفلسطينية، وعلى فرض العقوبات على السلطة التي تقودها «فتح»، بحجة أنها تمارس الإرهاب الديبلوماسي ضد إسرائيل.
ولا يمكن أن نهمل أن مهرجان الانطلاقة حمل ردًا أيضًا على الحملات الإسرائيلية ضد الرئيس «أبو مازن»، خصوصًا بعد القرار الأممي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، بحجة أنه لا يريد السلام، وأن هناك فلسطينيين أفضل منه يمكن أن تتفاوض إسرائيل معهم.
ثالثًا: لقد لعبت الأجواء الإيجابية التي أحاطت بملف المصالحة بعد الانتصارين العسكري في غزة والديبلوماسي في الأمم المتحدة، وما شهدته العلاقات بين «فتح» و«حماس» من انفراج تجلى بالسماح لحركة حماس بإقامة مهرجانات إحياء لذكرى انطلاقتها، والإفراج عن معتقلين في الضفة وغزة، والسماح بعودة عدد من كوادر «فتح» إلى غزة؛ دورًا في تشجيع المواطنين على المشاركة، تأكيدًا على أهمية الوطنية والوحدة والتعددية، باعتبارها خطًا أحمرَ لا يسمح لأحد أن يتجاوزه أو أن يستمر في تجاوزه.
رابعًا: إن نموذج السلطة الاحتكاري التسلطي الذي أقامته «حماس» في قطاع غزة، الذي لم يتسع حتى لمشاركة التنظيمات المحسوبة على الإسلام السياسي، وما أدى إليه ذلك من مشاكل اقتصادية واجتماعية ضخمة، مثل مشاكل الكهرباء والتعليم والصحة وفرص العمل وقمع الحريات، وما أدى إليه من انهيار أفراد وشرائح اقصادية وصعود أخرى على خلفية «اقتصاد الأنفاق» و«أغنياء الحرب والحصار والتجويع»، جعل كل متضرر أو معارض لـ«حماس» معني بالمشاركة في مهرجان «فتح». فكل شاب لم يوظف لأن الوظيفة العمومية حكر على أعضاء «حماس»، وكل من تعرض للاعتقال، أو الاستدعاء، أو التمييز، أو المنع من السفر، أو خسارة وظيفة أو مصلحة، ومن شاهد أن الحصار والتجويع والعدوان على الجميع، أما الثمار والغنائم فتوزع على «حماس» وحدها؛ حرص على المشاركة في المهرجان.
خامسًا: إن انعكاس ما جرى في المنطقة العربية بشكل عام، وما يجري في مصر بشكل خاص؛ على الفلسطينيين بصورة عامة، وعلى قطاع غزة بصورة خاصة؛ سبب مهم جدًا، يساعد على تفسير ما حدث. فالانقسام العمودي بين الإسلاميين (من «إخوان مسلمين» وسلفيين وغيرهم)، والقوميين واليساريين والليبراليين، الذي يهدد بإجهاض الثورة المصرية، وفي ظل مؤشرات متزايدة عن سعي الحكام الجدد في مصر لاستحواذ السلطة وإقصاء بقية قوى الثورة.
سادسًا: إن الخشية من «ربيع» فلسطيني يؤدي إلى تصدر «حماس» للمشهد الفلسطيني بعد الربيع العربي وصعود الإسلام السياسي؛ دفعت كل المعارضين لـ«حماس»، كما دفعت أجنحة «فتح» المتعارضة والمتنافسة، خصوصًا في قطاع غزة، إلى التوحد، لإظهار أن «حماس» لا تستطيع القيادة لوحدها.
وزاد من هذه الخشية الزيارات العربية إلى قطاع غزة، وزيارة خالد مشعل إليه بضوء أخضر إسرائيلي، وما عبّر عنه من خطاب وطني، والمهرجان الجماهيري الحاشد لـ«حماس» في غزة، الذي شارك فيه مئات الآلاف أيضًا، وأقل من نصف المشاركين في مهرجان انطلاقة «فتح» كما أشارت مصادر عربية موثوقة.
سابعًا: إن الأزمة المالية الخانقة التي تعاني منها السلطة ويتأثر منها حوالي 80 ألف موظف يتقاضون رواتبهم من ميزانية السلطة في الضفة؛ لم تنعكس سلبًا على مشاعر الفلسطينيين ومواقفهم؛ لأن غزة مصدر غني من مصادر الوطنية الفلسطينية، ولا تحركها لقمة العيش فقط، وإنما تحسم أمرها دائمًا لمصلحة القضية والحقوق الوطنية.
إن الفلسطينيين أمام لحظة تاريخية، ويمكن أن يقودنا مهرجان «فتح»، إما إلى الخلاص الوطني والوحدة على أساس إحياء القضية وإعادة تشكيل المنظمة وصياغة السلطة في ضوء الحصول على القرار الأممي، وبما يتناسب مع تنصل إسرائيل من جميع التزاماتها السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة عليها في اتفاق أوسلو،أو إلى استمرار الانقسام وإدارته والتعايش معه انتظارًا للمجهول، الذي يظهر باستمرار الرهان على مفاوضات فشلت ومحكوم عليها بالفشل، أو على متغيرات عربية تحمل «حماس» إلى سدة الحكم في فلسطين، فلا تستطيع «فتح» أن تنام على وسادة من الأوهام حول ربيع فلسطيني مختلف، فتأييد الشعب الفلسطيني متحرك، فهو يعاقب بطريقته الخاصة كل فريق يتحلى بالعناد، ويستمر بطريق أثبتت التطورات فشله، كما يعاقب كل فريق يسعى للهيمنة والتفرد وإقصاء الآخرين، والرابح في النهاية من يأخذ بالعبرة، ويقوم بما يلزم من تغيير وتجديد وإصلاح يستجيب لمصالح الشعب الفلسطيني وأهدافه وطموحاته.
صحيفة السفير اللبنانية